إعداد – by
غسان عبد الرحمن أبو حسين – Ghassan Abdul Rahman Abu Hussein
إشراف – Supervisors
أ.د. نور الدين الميلادي – Professor Noureddine Miladi
أ.د. محجوب الزويري – Professor Mahjoob Zweiri
كلية الآداب والعلوم، برنامج دراسات الخليج، جامعة قطر، الدوحة – قطر
Qatar University, Faculty of Arts and Sciences, Gulf Studies Programme
Doha, Qatar
السنة – Year
2023 – 2024
اللغة: الإنجليزية – Language: English
مقدمة
شهدت دول الخليج العربي خلال العقود الخمسة الماضية تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية بارزة شكَّلت صورتها الحالية. فقد وجدت معظم الدول الخليجية نفسها على مشارف الاستقلال في الوقت الذي كانت تسعى لتحقيق متطلبات بناء الدولة الحديثة وضرورة الانتقال بمجتمعاتها نحو الحداثة والتنمية؛ إذ تمكنت من الاستفادة من عائدات الصادرات النفطية ووظفتها في بناء البنية التحتية وعلاقاتها الخارجية.
سمحت منافع الاقتصاد الريعي لهذه الدول بالإنفاق على المؤسسات الإخبارية الرسمية غير التجارية التي اتسمت بخضوعها لسيطرة الحكومات، بينما حافظت الصحف على هامش أوسع إلى حدٍّ ما من حرية التعبير والاختلاف. وقبل النمو السريع للقنوات الفضائية العربية في أنحاء المنطقة وفي دول المهجر، كان البث التليفزيوني والإذاعي خاضعًا لسيطرة الدولة، كما أن جزءًا كبيرًا من المحتوى الإخباري والبرامجي كان دعاية حكومية خالصة، ولم تكن هناك سوى مساحة محدودة جدًّا لبرامج المناقشة أو المحتوى المعرفي أو محتوى الشؤون الجارية.
وتميزت هذه الفترة خلال النصف الثاني من القرن العشرين بنظام مستقر لممارسات استهلاك الأخبار في التليفزيون الحكومي السائد آنذاك، لكن في الوقت ذاته شهدت تلك السنوات قفزة هائلة، سواء في الحراك السياسي أو التطور التكنولوجي؛ ما أثَّر في التواصل الإنساني والعلاقات المجتمعية وإعادة تشكيل هذه الممارسات.
على المستوى الدولي، وبعد خمسة عقود من الحرب الباردة التي استخدمت فيها السياسة والأسلحة والاقتصاد والإعلام كجهد دعائي كبير، أصبحت التسعينات من القرن العشرين تمثِّل نقطة تحول رئيسية، خاصة لمنطقة العالم العربي. لقد سمحت نهاية الحرب الباردة (1947-1991) للدول الصغيرة بالتحرك في المجال العام، والانتقال من مركز قوة إلى آخر، وأتاحت الفرصة للجهات الفاعلة من غير الدول (Non state actors) للظهور على الساحة؛ حيث كان سقوط الستار الحديدي نقطة تحول وبعدها لم يعد من الممكن إنكار أهمية الجهات الفاعلة من غير الدول في العلاقات الدولية. وقد صاحب ذلك موجة من الديمقراطية العالمية؛ ما رفع من قيمة حرية التعبير والتي تزامنت مع ظهور قنوات إخبارية فضائية.
وبظهور قنوات إخبارية مستقلة على مدار 24 ساعة، على غرار قناة “سي إن إن” (CNN)، في عام 1980، ثم الجزيرة في، عام 1996، أسهم ذلك في إزالة هذه السيطرة من مراكز السلطة، وتقديم سردها الخاص لسياق الأحداث الإخبارية، ما أعطاها تأثيرًا متزايدًا.
ففي عام 1989، كان لشبكة “سي إن إن”، على سبيل المثال، أول تغطية عالمية حصرية، وكانت -بحسب رأي بعض الباحثين- متغيرًا مؤثرًا فيما آل إليه الاتحاد السوفيتي، وفي إثارة الانتقاد العالمي إزاء تعامل الحكومة الصينية مع أحداث ميدان تيانانمين بالعاصمة، بيجين، أبريل/نيسان 1989. وفي العقد الذي تلا ذلك، كانت شبكة “سي إن إن” عنصرًا أو عاملًا لا يمكن إنكار دوره في القضايا التشريعية في جميع أنحاء العالم، وشكَّلت أيضًا مصدرًا رئيسيًّا للأخبار في حرب الخليج الثانية، عام 1991، من خلال التغطية المباشرة للأحداث.
وفي منتصف عقد التسعينات، شهدت وسائل الإعلام في العالم العربي تغيرات عميقة، وأدى انتشار القنوات الفضائية والإنترنت إلى اتساع نفوذ الإعلام وتأثيره في سياقات وفضاءات أبعد من المجال المحلي والإقليمي. وسمح تدفق الاتصالات عبر الحدود للجمهور بالتفاعل مع العالم، وتجاوز حدود السيطرة الاستبدادية على المعلومات لاسيما عندما انطلقت قناة الجزيرة من دولة قطر، عام 1996، وأصبح الإعلام المصدر الأساسي للمعلومات.
انطلق النهج الإخباري لقناة الجزيرة في تغطية الأحداث والقضايا التي تمس الحياة اليومية للجمهور العربي من مبدأ وشعار “الرأي والرأي الآخر”. وتعزَّز نشاط قطر على الساحة الدولية خلال منتصف العقد الأخير من الألفية الثانية بفضل رافدين مهمين، هما: نمو مداخيل صادرات الغاز، والتأثير غير المسبوق لقناة الجزيرة التي أسسها الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، عام 1996، أي بعد عام واحد من تسلمه مقاليد الحكم. وعلى إثر تنامي شعبية القناة تحولت -بعد خمسة أعوام على انطلاق بثها كما يرى بعض الباحثين- إلى عامل أرق كبير أقضَّ مضاجع صانعي السياسات في شمال إفريقيا ودول المشرق العربي.
لقد مثَّلت القنوات الفضائية والإخبارية نبوءة عالم الاتصال الكندي، مارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan)، حول “القرية الكونية”، لاسيما فيما يخص الإسراع في تعظيم قدرات الإعلام والمعلومات وتجاوز الحدود السياسية والثقافية بين المجتمعات بفضل ما توفره التكنولوجيا الحديثة. وانتقل النفوذ الإعلامي من مصر والعراق والشام إلى دول الخليج العربي؛ حيث تتخذ أكثر ثلاث قنوات إخبارية عربية تأثيرًا مقرًّا لها بالمنطقة.
لاحقًا وبعد أحداث الربيع العربي 2011، وجد العالم العربي نفسه أمام تأثيرين في صناعة المجال العام: تأثير شبكات التواصل الاجتماعي، وتأثير الجزيرة التي وجدت نفسها تواجه تحدي ضرورة التحول الرقمي في غرفة الأخبار لمواكبة التحول الذي حدث على مستوى تلقي الجمهور للأخبار ولضمان النجاح في قدرتها المستمرة على التأثير.
ورغم أن التغيرات السياسية وتحول سلوك الجمهور في استهلاك المحتوى هما أمران خارجان عن سيطرة الجزيرة، إلا أن العنصر الثالث ممثلًا في أساليب تغطية الجزيرة وعرض رسالتها ظل يثير سؤالًا ملحًّا حول مدى نجاح الجزيرة في إدماج وسائل الإعلام الجديدة في غرفة الأخبار، وإمكانية وصول المحتوى إلى شرائح وفئات جديدة من الجماهير كانت تتشكَّل في الفضاء العام.
وهنا، تحاول الدراسة المساهمة في سد هذه الفجوة المعرفية من خلال بحث أثر التحول الرقمي على بنية غرفة الأخبار وسلوك الجمهور، ورصد مفهوم المسؤولين عن هذا التحول، وذلك للحفاظ على تأثير الجزيرة. من هذا المنطلق، تحاول الدراسة الإجابة على سؤال مركزي: كيف أثر هذا التحول على هيكلية غرفة أخبار واستهلاك الجمهور لمحتوى الجزيرة عبر شبكات التواصل الاجتماعي؟
وتهدف الدراسة من خلال الإجابة عن هذا السؤال الإشكالي إلى:
– تقييم طرق ومدى استخدام الجزيرة لوسائل التواصل الاجتماعي وحضورها عبر الإنترنت ودور العالم الرقمي في هيكلها وممارساتها (التحول الرقمي).
– مقارنة تأثير الجزيرة في جمهورها بعد هذا التحول الرقمي.
وحاولت الدراسة قياس أثر التحول الرقمي على الجزيرة وجمهورها من خلال منهجية هجينة تضمنت منهجي التحليل الكمي والنوعي.
وشمل المنهج النوعي إجراء 17 مقابلة معمقة مع شخصيات رئيسية، منهم مديرون ومحررون وقادة مشروع التحول الرقمي في شبكة الجزيرة الإعلامية منذ عام 2006 حتى عام 2020. أما المنهج الكمي فاعتمد على أداة الاستبانة؛ إذ شارك في استطلاع الرأي 471 مبحوثًا من جمهور الجزيرة الذين تبلغ أعمارهم 18 عامًا فما فوق في 41 دولة. وقام الباحث بتحليل عاداتهم الاستهلاكية للمحتوى الرقمي، بما في ذلك جيلان من الجمهور: أولئك الذين بدؤوا مشاهدة القناة عام 1996، ومن شاهدوا أو تابعوا محتوى الجزيرة عبر المنصات الرقمية.
- سيرورة التحول الرقمي
أدى انتشار القنوات الإخبارية التي تعمل على مدار 24 ساعة إلى التأثير في قوة الأنظمة السياسية التقليدية، فضلًا عن النظام المستقر للاستهلاك العام للأخبار. ويرى بعض الباحثين أن التحسينات في ابتكارات الأقمار الصناعية جعلت أفراد الجمهور العربي أعضاء ديناميكيين بدلًا من البقاء “مغفلين سلبيين”؛ إذ إن استخدامهم للخيارات مصدرًا للبيانات، وقدرتهم على التحقيق والتفكير في الرسائل السياسية قوَّض الفكرة السائدة حول “تهيئة” وسائل الإعلام و”وضع جدول الأعمال” للسلطات.
والأهم من ذلك أن هذا التأثير قد تعاظم منذ اختراع شبكة الإنترنت في التسعينات، وأدى ظهور شبكات التواصل الاجتماعي وانتشارها المتسارع إلى تغيير الوضع الراهن لاستهلاك الأخبار؛ إذ تتجه الأغلبية بشكل متزايد إلى منصات التواصل الاجتماعي للحصول على آخر الأخبار.
تراجعت، على سبيل المثال، متابعة البالغين في المملكة المتحدة لقنوات “بي بي سي” (BBC) من أجل الحصول على الأخبار في عام 2019 مقارنة بعام 2018، بينما زاد عدد المتابعين منهم لمنصات التواصل الاجتماعي. وشهدت بعض قنوات “بي بي سي” (“بي بي سي الإخبارية”، “بي بي سي 1″، و”بي بي سي 2”) انخفاضًا في استخدامها مصدرًا للأخبار مقارنة بعام 2018، فيما توسع استخدام بعض الشبكات الاجتماعية مصدرًا للأخبار على غرار منصة إكس، وواتساب، وإنستغرام، وسناب شات.
لم يتأثر الجمهور الأوروبي فقط باستهلاك المحتوى الإخباري عبر المنصات الرقمية، بل شهدت منطقة الشرق الأوسط مؤشرات مماثلة، ومع مرور الوقت، لم يعد التليفزيون هو المصدر الوحيد الأكثر شيوعًا للأخبار اليومية بين المواطنين العرب، بل أصبح التليفزيون حاليًّا على قدم المساواة مع عدد قليل من الهياكل الإخبارية المتقدمة. وفي ذات الوقت، أصبحت المدونات العربية مصدرًا إخباريًّا لوسائل الإعلام العربية الرئيسية. وتمارس المدونات “الضغط على وسائل الإعلام الرئيسية لمواكبة التغطية في المدونات”.
وظفت الجزيرة تقنيات الإنترنت إلى أقصى حد، وكان نجاحها الواضح هو كسر حواجز الرقابة، خاصة في البلدان التي لم يكن فيها مكاتب للقناة، أو كانت إشارتها فيها محظورة، وكان ذلك يعني أن فصلًا جديدًا من النفوذ -بحسب بعض الباحثين- قد فُتح أمام وسائل الإعلام العربية الناشئة.
ففي عام 2008، على سبيل المثال، أطلقت شبكة الجزيرة الإعلامية خدمة “شارك”، وهي منصة لصحافة المواطن تمكِّن المستخدمين من تحميل مقاطع فيديو لما يحدث في منطقتهم من خلال كاميرات الويب أو كاميرات الفيديو أو الهواتف المحمولة. بعد أن يتم تحميل مقاطع الفيديو، يقوم صحفيو الجزيرة بمراجعتها واختيار أكثرها أهمية للنشر على موقع شارك. كان المشروع الجديد مشابهًا لـ”سي إن إن آي ريبورت” (CNN’s iReport). وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي لاحقًا، اعتبرت منصة شارك بمنزلة مفهوم مبكر لغرف الأخبار الذكية؛ إذ استخدمت محتوى الفيديو الذي شاركه الصحفيون المواطنون على منصة شارك. ووفقًا لمدير وسائل التواصل الاجتماعي في الجزيرة (آنذاك)، رياض منتي، في مؤتمر “Media140” في برشلونة، فإن موقع شارك، اعتاد في ذروة الربيع العربي على استقبال ما يصل إلى 1600 مقطع فيديو يوميًّا.
أطلق تأثير الجزيرة منذ بدايتها العنان لإمكانات بناء المجال العام العربي وإعطائه حياة جديدة؛ إذ أصبحت ثقافة الجزيرة الإخبارية والنهج الذي تعتمده في نقل الأخبار مؤثرًا بشكل كبير على المستوى الدولي، وهو ما كرسته أيضًا الجزيرة الإنجليزية.
حدثت ذروة تأثير منصات الإعلام الرقمي التابعة لقناة الجزيرة خلال أحداث الربيع العربي، وجسدت ثورة وسائل التواصل الاجتماعي ديناميكية جديدة في تدفق المعلومات حول العالم؛ إذ تم تسخير وسائل التواصل الاجتماعي في التقارير الإخبارية. وكان العام الأبرز في هذا التطور هو عام 2011، الذي شهد تغطية متميزة لأحداث الربيع العربي، وتم تركيب شاشات عملاقة في الساحات العامة في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا؛ حيث قدمت قناة الجزيرة رواية لا تشبه أي قناة فضائية حكومية.
وهكذا، أصبح معروفًا في الأدبيات الأكاديمية مصطلح “تأثير الجزيرة”، الذي استخدمه أستاذ الصحافة والدبلوماسية العامة في جامعة جنوب كاليفورنيا، فيليب سيب (Philip Seib) (2008)، في إشارة لمصطلح “تأثير سي إن إن” سابقًا بين عامي 1993 و1995 لدور هذه الشبكة في تغطية أحداث تيانانمين، وحرب الخليج الأولى (1980-1988) وحرب كوسوفو (فبراير/شباط 1998).
ويرى سيب أن اسم شبكة الجزيرة أصبح رمزًا للتأثيرات الأوسع لوسائل الإعلام الجديدة على السياسة الحديثة بدرجات متفاوتة في جميع أنحاء العالم؛ حيث يحلُّ الاتصال بين وسائل الإعلام الجديدة محلَّ الروابط السياسية التقليدية التي جلبت الهوية إلى السياسة العالمية.
إن الانتشار المستمر لقناة الجزيرة، إلى جانب توسعها والتأثير القوي الذي حققته، يرجع إلى قدرتها على جذب المشاهدين في جميع أنحاء العالم، لكن الشبكة الإعلامية تأثرت بانحسار موجات الربيع العربي، وقد واجهت عددًا من التحديات بعد ذلك، وتغير العالم حتى في استهلاكه للأخبار.
لقد برزت “السردية” واحدة من التحديات الأخرى التي واجهت رحلة التحول الرقمي، فبينما كانت الحرب الإسرائيلية السادسة على قطاع غزة (9 مايو/أيار 2023) تشتد، بات من الواضح وجود روايتين مختلفتين تواجهان بعضهما البعض، وكادت الجزيرة تدفع الثمن بإغلاق مكتبها في القدس ورام الله وقطاع غزة، بعد أن واجهت في السابق العديد من التحذيرات من شركة “ميتا” المالكة لمنصة فيسبوك لمخالفتها السردية المقبولة لدى الشركة في التعامل مع القضية الفلسطينية.
واجه فيسبوك، مثل عدد من منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، تدقيقًا وادعاءات بالتحيز في تقديم روايات حول قضايا مختلفة، بما في ذلك الصراع العربي-الإسرائيلي. وتدور المخاوف عادة حول سياسات النشر؛ إذ لدى فيسبوك من منظوره المؤسسي سياسات للإشراف على المحتوى لمنع انتشار خطاب الكراهية والمعلومات المُضلِّلَة والتحريض على العنف. ومع ذلك، هناك ادعاءات بأن هذه السياسات يتم تطبيقها بشكل غير متسق؛ ما يؤدي لاتهامات بالتحيز في إزالة المحتوى. على سبيل المثال، واجهت غرفة الأخبار الرقمية بقناة الجزيرة الإخبارية خمسة عشر تحذيرًا من فيسبوك تتعلق بقضايا السرد التحريري في اثني عشر شهرًا بين عامي 2022 و2023.
- نتائج الدراسة
ركزت الدراسة على فهم وتحليل تأثير التحول الرقمي على غرف أخبار شبكة الجزيرة الإعلامية وسلوك جمهور الجزيرة بين عامي 2006 و2020. وبعد مراجعة العديد من المصادر، ورصد وتحليل إجابات المبحوثين من خلال المنهجين، النوعي والكمي، يمكن استخلاص عدد من النتائج. ويمكن القول: إن الجزيرة شهدت تحولًا رقميًّا كبيرًا في السنوات الأخيرة استجابةً للمشهد الإعلامي المتغير والأهمية المتزايدة للمنصات والتقنيات الرقمية. وتضمنت الإستراتيجية التي اعتمدتها الجزيرة لخدمة جمهورها بشكل أفضل في العصر الرقمي ما يلي:
الإستراتيجية الرقمية: تبنَّت الجزيرة إستراتيجية جديدة، وجعلت محتواها متاحًا على نطاق واسع عبر الإنترنت. كما استفادت من منصات التواصل الاجتماعي للتفاعل مع جمهورها والوصول إلى مشاهدين جدد، وبناء عدد كبير من المتابعين على منصات، مثل فيسبوك وإكس ويوتيوب وإنستغرام وسناب شات وتيك توك.
إلى جانب ذلك، أتاحت الجزيرة محتواها على مجموعة من المنصات، بما في ذلك موقعها الإلكتروني (الجزيرة نت) وتطبيقات الهاتف المحمول وخدمات الفيديو حسب الطلب؛ ما سمح لها بالوصول إلى جمهور أوسع وخدمة مشاهديها بشكل أفضل. وتضمنت هذه الخطوة أيضًا إنتاج مجموعات من المحتوى التفاعلي لإشراك الجمهور بشكل أفضل. واستثمرت في صحافة البيانات عبر جمع البيانات وتحليلها لإنتاج الأخبار والتقارير الاستقصائية التي توفر فهمًا أعمق للقضايا التي تغطيها.
بشكل عام، مكَّن التحولُ الرقمي الجزيرةَ من البقاء على صلة بالتطورات الجارية والمنافسة في مشهد إعلامي سريع التغير، وتقديم خدمة أفضل لجمهورها من خلال توفير صحافة عالية الجودة ومحتوى جذاب.
الممارسات الصحفية: أسهم التحول الرقمي في تغيير الممارسات الصحفية في غرفة أخبار الجزيرة منذ انطلاقها عام 1996 إلى أن أصبحت شبكة إعلامية. فعندما بدأت غرفة الأخبار في الجزيرة لأول مرة، اتبعت النهج التقليدي للمؤسسات المحترفة، مثل هيئة الإذاعة البريطانية في جمع الأخبار، بالاعتماد على مصادر حسنة السمعة، مثل وكالات الأنباء المعروفة، ومراسلي الجزيرة في جميع أنحاء العالم، والصحف والمواقع الإلكترونية المهنية.
ولكن في وقت لاحق، امتد الأمر إلى ما هو أبعد من مجرد التوسع في مصادر جمع الأخبار ليشمل أشكال القصص الإخبارية وقنوات توزيعها عبر جميع منصات التواصل الاجتماعي. وكان هذا التحول مدفوعًا بمجموعة متنوعة من العوامل، مثل الابتكار وتطوير الحلول والكفاءة وجمع الأخبار والمرونة والتوزيع.
خضعت غرفة الأخبار لمجموعة متنوعة من التغييرات طوال هذه الرحلة، بما في ذلك التغييرات في تنويع مصادر الأخبار في مرحلة الإنتاج ومتطلبات مرحلة العرض للتحقق من المصدر. وغيَّر هذا التحول الرقمي هيكل غرفة الأخبار؛ إذ أضاف بعدًا جديدًا يتعلق بإشراك فريق التحرير الرقمي داخل الغرفة، وعدَّل من مواصفات الموارد البشرية للصحفيين التقليديين، فضلًا عن السرعة في تنفيذ المشاريع وأسهم في تطوير وتوحيد أنظمة النشر. كما أثَّر هذا التحول في ثقافة غرفة التحرير التي أصبحت أكثر انفتاحًا ومرونة، رغم أن هذه المرونة جاءت على مراحل زمنية متفرقة.
سلوك الجمهور: بيَّنت نتائج الدراسة، في إطار قياس التأثير الرقمي للجزيرة في سلوك الجمهور، أن جمهور الجزيرة أصبح مع مرور الوقت أكثر معرفة، وخاصة فئة المبحوثين الذين حصلوا على شهادة تعليم عال، وأكثر ولاءً، ولكن في المقابل، أصبح الشباب الفئة الأقل متابعة للجزيرة.
ورغم أن الذكور ما زالوا يشكِّلون الجزء الأكبر من جمهور قناة الجزيرة، إلا أن هناك تزايدًا في نسبة الجمهور من الإناث. ويمثل الذكور 72%، عام 2022، وهم الشريحة المهيمنة على جمهور الجزيرة منذ بداية القناة تقريبًا؛ إذ مثلت هذه الفئة 92%، عام 2004، فيما كانت نسبة الإناث نحو 28%، عام 2022، ولم تكن هذه الفئة تتجاوز نسبة 8% من الجمهور، عام 2004.
وقد أظهر المتغير التعليمي لدى مشاهدي الجزيرة ارتفاعَ نسبة الجمهور من حملة الشهادات الجامعية بشكل طفيف في العشرين سنة الماضية، لكنها شهدت ارتفاعًا واضحًا في الجمهور من حملة الشهادات العليا، وانخفاضًا ملحوظًا في الجمهور الذي لم يتابع تعليمه المدرسي.
وبيَّنت الدراسة أن غالبية جمهور الجزيرة هم من ذوي التعليم العالي الذين حصلوا على البكالوريوس أو الدراسات العليا بنسبة 93.4%، في 2022، مقارنة بنسبة 65.2%، في عام 2004، وأن أغلبية جمهور الجزيرة على المنصات الرقمية ليسوا من الشباب؛ إذ تمثِّل الفئة العمرية (26-57 سنة) نحو 77.%. وجاءت الفئة العمرية (42 -57 سنة) في المركز الأول في متابعة محتوى الجزيرة على منصاتها الرقمية بنسبة 39.4%، ثم الفئة العمرية (26-41 سنة) بنسبة متقاربة جدًّا بلغت 38.3%.
وتشير الأرقام إلى أن الجزيرة منذ أن بدأت رحلة التحول الرقمي لم تنجح كثيرًا في جذب جمهور الجيل (Z) المولود بين عامي 1997 و2012 (10.9%)، لكنها نجحت في نقل الجيلين اللذين بدءا معها عام 1996 واستمرار تواصلهم لاحقًا مع قناة الجزيرة عبر منصات التواصل الاجتماعي.
استهلاك الجمهور: لاحظت الدراسة توجه استهلاك الجمهور لمحتوى الجزيرة عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي من خلال الهواتف الذكية كخيار أول، ثم على شاشات التلفاز، ثم المواقع الإلكترونية. في حين جاءت المنصات الرقمية المفضلة لمتابعة محتوى الجزيرة على هذا النحو: فيسبوك ثم موقع الجزيرة الإلكتروني باللغة العربية ثم يوتيوب.
كانت المعرفة على رأس الدوافع لاستهلاك المحتوى الرقمي للجزيرة، وذكر 82% من أفراد العينة أن دافعهم تتمثل في معرفة الأخبار بشكل عام، وهو ما يعكس صورة الجزيرة مصدرًا للمعرفة. وجاءت الأخبار العاجلة في المرتبة الثانية بنسبة 61%، وهو ما يعكس ارتباط قناة الجزيرة بالسبق الصحفي في أذهان الجمهور. بينما جاء المركز الثالث لضمان دقة الأخبار بنسبة 39%، وهو ما يعكس عامل الدقة الذي يعد عنصرًا مهمًّا في مصداقية المؤسسة الإعلامية.
أثر التحول: وفيما إذا كان التحول الرقمي يمكن أن يحافظ على مصداقية الجزيرة وثقة الجمهور، اعتبر 74.8% من المشاركين أن التحول الرقمي لقناة الجزيرة أكد مصداقيتها وتأثيرها، في حين لم يوافق 6.5% على ذلك، فيما أجاب 18.7% بـ”لا رأي” لهم.
اقتصر التفاعل الجماهيري على البرامج قبل التحول الرقمي، أما بعد التحول الرقمي فقد وصل التفاعل إلى محتوى الأخبار، وهو ما يظهر جليًّا في برنامج “شبكات” على سبيل المثال، والذي يسمح برصد وعرض التغريدات والتعليقات على فيسبوك ومقاطع الفيديو على يوتيوب. لكن هذه المشاركة العامة من خلال البرامج والأخبار قد تخضع لفلترة أسهل وأكبر من قِبَل القائمين على غرف الأخبار خلال النمط التقليدي السابق، الذي كان يعتمد في معظمه على المكالمات الهاتفية المباشرة أو رسائل الفاكس.
خلاصة
إن التحول الرقمي الذي شهدته شبكة الجزيرة تحكمه مجموعة متنوعة من العوامل، منها الابتكار وتطوير الحلول والكفاءة والتوزيع وجمع الأخبار والمرونة. لقد خضعت غرفة الأخبار لتغييرات متنوعة طوال هذه الرحلة، بما في ذلك التعديلات على تنوع مصادر الأخبار في مرحلة الإنتاج ومتطلبات مرحلة التحقق من المصدر قبل البث.
كما أظهرت نتائج العمل الميداني أن التحول الرقمي قد غيَّر هيكلية غرفة الأخبار؛ إذ أضاف بعدًا جديدًا يتعلق بإشراك فريق التحرير الرقمي داخل الغرفة. بالإضافة إلى ذلك، ساعدت في تعديل مواصفات الموارد البشرية للصحفيين التقليديين، وكذلك السرعة في تنفيذ المشاريع وأسهمت في تطوير وتوحيد أنظمة النشر.
علاوة على ذلك، فقد أثَّر التحول الرقمي على ثقافة غرفة التحرير، التي أصبحت أكثر انفتاحًا ومرونة، على الرغم من أن هذه المرونة جاءت على مراحل. ويعمل في شبكة الجزيرة الإعلامية اليوم نحو تسعين جنسية، وتعتبر الأكثر تنوعًا بين المؤسسات الإعلامية على مستوى العالم. وفي سياق قياس التأثير على الجمهور، أظهرت النتائج أن جمهور الجزيرة شمل الأشخاص الأكثر تعليمًا، وخاصة الحاصلين على التعليم العالي. كما يبدو أن الجزيرة اجتذبت عددًا أكبر من جمهور الإناث إلى متابعيها المخلصين، ولكن عددًا أقل من الشباب. ويبدو أيضًا أن الشباب يشكلون شريحة الجمهور الأقل رضى عن مشاركة غرف الأخبار في الجزيرة.