* Manal Hilal AlMazahrehمنال هلال المزاهرة

ملخص:

تحاول الدراسة الإجابة عن سؤال رئيسي: ما الإشكاليات التي تواجهها البحوث الإعلامية العربية في سياق البيئة الرقمية الجديدة؟ استنادًا إلى تحليل كيفي لعينة قصدية من البحوث الإعلامية العربية تشمل 66 دراسة، واعتمادًا على رؤية نقدية تبحث في ملاءمة المناهج والنظريات التقليدية للبيئة الرقمية وقدرتها على تأطير الظواهر الجديدة وتحليلها. وتوصلت الدراسة إلى أن معظم البحوث الإعلامية العربية في ظل البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة تعتمد على المنهج المسحي، وتفتقد إلى التنوع في استخدام أدوات جمع البيانات، كما تواجه إشكالية تطويع العديد من النظريات التي استخدمت في بحوث الإعلام التقليدي وتطبيقها على الإعلام الجديد، إضافة إلى أن العديد من البحوث والدراسات لا تستند إلى رؤى نظرية.

كلمات مفتاحية: الإشكاليات، البحوث العربية، البيئة الإعلامية الرقمية، المناهج، النظريات، التطوير.

Abstract:

This study seeks to identify the methodological problems faced by Arab media research in the context of the new digital environment based on a qualitative analysis of an intentional sample of Arab media research containing 66 studies, and a critical view that examines the compatibility of traditional approaches and theories with the digital environment and their ability to frame and analyse new phenomena. Ultimately, the study finds that most Arab media research in light of the new digital media environment relies on the survey method, and lacks diversity in the use of data collection tools. It also faces the problem of applying many of theories that were used in traditional media research in new media, in addition to the fact that much research and many studies are not based on theoretical insights.

Keywords: Research Problems, Arab Research, Digital Media Environment, Methodology, Theories, Development.

مقدمـــة

أدت التطورات التكنولوجية والثورة الرقمية إلى تغيير جذري في علوم الاتصال والإعلام نظرًا لخصوصية هذا العلم في مفاهيمه ومناهجه وأدواته التي تبحث في الظواهر الاجتماعية والإنسانية المعقدة والمتجددة عبر الزمان والمكان، لما توفره من معلومات تؤثر في الجماهير، والتي انعكست على تنوع المقاربات التي تبحث في الكشف عن الحقائق من خلال تحليلها وتصنيفها. فالبيئة الإعلامية الجديدة ليست ظاهرة عابرة بل كيانًا فرض نفسه بقوة؛ أوجد العديد من التغييرات في الممارسات الإعلامية، وطرح إشكاليات منهجية ونظرية بدءًا بتعدد المصطلحات التي تعبِّر عن هذه البيئة الجديدة، ومرورًا بصعوبة تحديد موضوعاتها، وأدواتها البحثية، ووصولًا إلى كيفية معالجتها منهجيًّا ونظريًّا، لأن عدم فهم الأسلوب الذي تعمل بمقتضاه وسائل الإعلام يمنع من فهم التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تطرأ على المجتمعات(1). ويعود ذلك إلى أن علوم الإعلام والاتصال متشعبة تخُص العديد من المجالات على غرار العلوم الأخرى، مثل الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس وغيرها(2)، لكن عددًا من الباحثين يرون أن هذا العلم يُعاني من قصور فيما يتعلق بالمستوى البحثي؛ إذ لم يتمكن المشتغلون في هذا الحقل من إحداث قطيعة إبستمولوجية مع أفكاره المسبقة أثناء معالجة القضايا المدروسة، ويؤدي ذلك إلى خلل في النتائج التي جرى التوصل إليها، خاصة في ظل البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة. وهو ما يقتضي إعادة النظر في استخدام الأساليب والأدوات المنهجية والنظرية التقليدية التي يتم توظيفها؛ إذ إن مضمون رسائل الإعلام لا يمكن النظر إليه بمعزل عن تكنولوجيا وسائل الإعلام نفسها(3).

وتتمثَّل إشكاليات وتحديات البحوث الإعلامية العربية في ظل البيئة الرقمية الجديدة فيما تكشَّف للباحثين بشأن البيئة الإعلامية الرقمية التي تمثِّل كيانًا اتصاليًّا يحتاج إلى قراءة جديدة سواء من حيث أدواته المنهجية أو النظرية(4)، لأنها بيئة متغيرة بشكل متسارع وغير ثابتة المعالم، ولها قدرة فائقة على جمع المعلومات وتوصيلها إلكترونيًّا، مما أدى إلى وجود صعوبات في دراسة وتحليل هذه البيئة؛ فقد أصبحت وسيلة أيديولوجية تسعى إلى قولبة عقول الأفراد، وتحديد منحى سلوكياتهم، وتنظيم انفعالاتهم تجاه قضايا ومواضيع معينة لدفعهم للتفكير بطريقة محددة ومسايرة معايير وقيم ومعتقدات جديدة، كما برعت في التسويق لما لها من أسلوب مقنع وجذاب، يحجب وراءه نوايا تخدم مصالح القائمين على المؤسسات الإعلامية وغيرها(5).

وفي سياق ما عرفته وسائل الإعلام نتيجة التغييرات والتطورات الرقمية الحديثة التي انعكست بشكل جذري في إشكاليات تواجه الباحثين في استخدامهم للأدوات البحثية والمداخل النظرية التي كانت تُستخدم سابقًا في دراسة وسائل الإعلام التقليدية المختلفة من حيث البناء الفكري والفلسفي للاختيارات النظرية والمنهجية، مما انعكس على جودتها ومصداقيتها ودقتها وملاءمتها للبحوث الإعلامية في البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة، جاءت هذه الدراسة للتعرف على الإشكاليات التي تواجه البحوث العربية الإعلامية في ظل البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة.

  1. الإطار المنهجي والنظري للدراسة

إشكالية الدراسة 

تواجه البحوث والدراسات الإعلامية العربية حاليًّا عددًا من الإشكاليات المنهجية والنظرية فرضتها التغيرات الحديثة على الظاهرة الإعلامية في التعامل مع البيئة الرقمية الجديدة التي تختلف خصائصها عن البيئة الإعلامية التقليدية وما تتمتع به من قوة وتأثير على الجماهير ثقافيًّا وفكريًّا وسلوكيًّا. وقد أدى ذلك إلى تغيُّر في أُسُس إعداد هذه البحوث التي تُعد أحد روافد الدراسات العلمية لمقاربة الظواهر والمشكلات المجتمعية المختلفة التي تسهم بدور محوري في التنمية بكافة أشكالها، وفي حل بعض هذه المشكلات والظواهر التي يفترض أن تتم وفق أسس علمية دقيقة للخروج بنتائج دقيقة وموضوعية. لذلك، تسعى الدراسة إلى الإجابة عن سؤالي رئيسي: ما الإشكاليات التي تواجهها البحوث الإعلامية العربية في سياق البيئة الرقمية الجديدة؟

ويختزل هذا السؤال الإشكالي حقلًا استفهاميًّا يتشكَّل من عدة أسئلة فرعية:

– ما الإشكاليات المنهجية التي تواجه البحوث الإعلامية العربية في ظل البيئة الرقمية الجديدة؟

– ما الإشكاليات النظرية التي تواجه الدراسات الإعلامية العربية في سياق البيئة الرقمية الجديدة؟

– ما أهم الصعوبات التي تواجه البحوث والدراسات الإعلامية في ظل البيئة الرقمية الجديدة؟

– ما الأساليب التي تساعد في تطوير البحوث الإعلامية العربية في سياق البيئة الرقمية الجديدة؟

أهمية الدراسة وأهدافها

تنبع أهمية الدراسة من الاهتمام بالمشكلات والتحديات التي تواجه البحوث الإعلامية العربية في سياق البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة التي أربكت الدارسات الإعلامية، وخلقت ضغوطًا عليها لتواكب هذا التطور الذي يتطلب العمل على دراستها من أجل إيجاد حلول لها حتى لا تؤثر في مسار البحوث الإعلامية العربية وقيمتها. كما تُعد هذه الدراسة من البحوث الأولى التي جمعت بين الإشكاليات المنهجية والنظرية في ضوء البيئة الرقمية، والصعوبات التي تواجهها الدراسات الإعلامية العربية وسبل تطويرها، وستكون استكمالًا لبحوث مستقبلية يستفيد منها الدارسون والباحثون. أما الهدف الرئيسي لهذه الدراسة فهو التعرف على إشكاليات البحوث الإعلامية العربية وأساليب تطويرها في سياق البيئة الرقمية الجديدة.

منهج الدراسة

تنتمي الدراسة إلى البحوث الاستطلاعية الوصفية التي تسعى لاستكشاف الإشكاليات النظرية والمنهجية في الدراسات والبحوث الإعلامية العربية في البيئة الرقمية الجديدة، وتقديم رؤية نقدية لأطروحاتها. ويهدف هذا النوع من البحوث إلى التعرف على الظواهر أو زيادة هذا التعرف وتعميقه، واستطلاع الظروف المحيطة بالظاهرة وكشف جوانبها وأبعادها(6). واعتمدت الدراسة التحليلَ الكيفي لعيِّنة من البحوث الإعلامية العربية لرصد الإشكاليات المنهجية والنظرية التي تواجهها في سياق البيئة الرقمية الجديدة، وسبل تطويرها.

مجتمع الدراسة وعيِّنته  

يتمثَّل مجتمع الدراسة في البحوث الإعلامية العربية التي أُنجزت بين عامي 2015 و2022، أما عينة الدراسة فتتكوَّن من 65 بحثًا جرى اختيارها بطريقة مقصودة من ضمن العينات غير العشوائية وفقًا لأسس وتقديرات ومعايير معينة يضعها الباحث، ويتدخل في اختيار العينة وتقدير ما يختار وما لا يختار من أفراد مجتمع البحث الأصلي(7). وقد تمكنت الباحثة من الوصول إلى مفردات العينة من خلال الدوريات العلمية والمجلات المحكمة بناء على عدة اعتبارات، أهمها: تحديد مدة الدراسة، وحرص الباحثة على تنوع المواضيع والقضايا التي تناولتها عيِّنة الدراسة لمعرفة المناهج والأدوات والنظريات التي اعتمدتها في جمع البيانات، كما يوضح الجدول رقم (1).

 

جدول (1): توزيع مجالات اهتمام عينة الدراسات والبحوث الإعلامية العربية (2015-2022)   

الدراسات والبحوث عينة التحليل المواضيع والقضايا
العريشي (2015)(8)، إبراهيم (2015)(9)، مصطفي (2016)(10)، الحسين (2016)(11)، غندر (2016)(12)، عبد الوهاب، عبد الله (2017)(13)، الزبون وآخرون (2017)(14)، فالق (2018)(15)،  حسين (2018)(16)، آل صقر (2019)(17)، إبراهيم، الأحمد (2019)(18)، الهواري (2019)(19)، المبارك (2020)(20)، الزهراني (2020)(21)، مصطفى (2020)(22)، بسيوني وآخرون (2020)(23)، شويحات (2021)(24)، الهمران وآخرون (2021)(25)، مرعي (2021)(26)، عبد المنصف، شاهين (2021)(27)، قطب، الطياري (2022)(28)، المهايرة وآخرون (2022)(29).  

 

 

قضايا الشباب والمراهقين والأطفال

المدني (2015)(30)، عبد الرزاق (2016)(31)، التوام (2016)(32)، اللواتي (2017)(33)، مصطاف، نوشي (2018)(34)، عبد الله، فاضل (2018)(35)، الدهراوي (2019)(36)، زقاي، وزاني (2019)(37)، سلامة (2020)(38)، محسن (2020)(39)، قازان، القرعان (2021)(40)، سحاري، بوهدة (2021)(41)، علي (2022)(42)، أبو شعيشع (2022)(43)، عزوز (2022)(44).  

دراسات جمهور الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي

عبد الله (2015)(45)، المزاهرة (2017)(46)، الشلهوب (2017)(47)، زهرة، السيابية، (2017)(48)، المزاهرة (2018)(49)، مراد (2018)(50)، نصر (2018)(51)، محمد (2022)(52)، صيفي وآخرون (2022)(53)، عريقات، الخرابشة (2021)(54)، أحمد، باحمدان (2022)(55).
 

الإعلان، الدعاية، الشائعات، العلاقات العامة

 

اليماني، اللبان (2016)(56)، شهرزاد، بوعمامة (2016)(57)، علاونة 2017)(58)، الداخلي (2017)(59)، حسني (2019)(60)، الشباوي (2018)(61)، رضوان، محمد (2019)(62)، الجيلاني وآخرون (2019)(63)،  العشري (2020)(64)، الحماد وآخرون (2020)(65)، عبد الغفار (2020)(66)، مساوى (2020)(67)، رشاد (2021)(68)، صالح (2021)(69)، سعيدان، الحزامي (2022)(70)، مكي (2022)(71)، الثنيان (2022)(72).  

 

دراسات المواقع

الإلكترونية

 

 

 

 

المدخل النظري للدراسة   

استندت الدراسة في إطارها النظري على النظرية النقدية، نظرًا لطابعها التحليلي النقدي لعينة من البحوث والدراسات الإعلامية العربية التي أُنجِزت في سياق البيئة الإعلامية الرقمية في محاولة لرصد المناهج المستخدمة، وأدوات جمع البيانات، والإسناد النظري، وتحديد اتساقها مع البيئة الجديدة التي أثَّرت في جميع مناحي الحياة ومنها البحوث العلمية.

أولًا: النظرية النقدية

تُعد النظرية النقدية في بحوث الإعلام والاتصال المدخل النظري الملائم لهذا النوع من الدراسة؛ إذ إن روادها الأوائل ركزوا على منهجها النقدي واهتمامها بالاغتراب والتشيؤ أكثر مما ركزوا على ادعاءاتها التنظيمية، حيث شكَّلت هذه المحاور جوهر النظرية النقدية كما نظَّر لها رائدا الماركسية الغربية، كارل كورش (Karl Korsch) وجورج لوكاتش (György Lukács)، اللذان قدَّما إطار عمل المشروع النقدي الذي بات يُعرف لاحقًا بمعهد البحث الاجتماعي أو “مدرسة فرانكفورت” فيما بعد(73).

تستمد النظرية النقدية جذورها من النظريات النقدية في العلوم الاجتماعية التي بدأت في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي طالبت بإذابة الفوارق بين طبقات المجتمع، وبحقوق المحرومين والمهمشين في المعرفة والسلطة، والثورة والتحرر من ظلم الطبقة الحاكمة، وسيطرة من يملكون التكنولوجيا ورأس المال. ويُعرَّف النقد بأنه تطبيق القيم والمعايير للوصول إلى أحكام؛ إذ يقوم الباحثون النقديون بإجراء دراساتهم لتحليل القيم ونقدها أو الحكم عليها(74). واستخدمت مدرسة فرانكفورت، التي تُعد من أبرز المدارس النقدية، مصطلح النظرية النقدية لوصف اتجاهات الحياة الاجتماعية، وقد أشار بعض باحثي الاتصال إلى أن الاتجاهات النقدية إما أن تكون مرتبطة بهذه المدرسة أو تطورت عنها، ويعود هذا الخلط للعلاقة التاريخية الفريدة بين دراسات الاتصال وهذه المدرسة(75). وتركز البحوث النقدية على الأنظمة، أو السلطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كقوى لقهر المواطنين، والتي تشمل دائمًا الاتصال، ففي التطبيق العملي لا يفصل المنظرون النقديون الاتصالَ عن العوامل الأخرى في النظام العام لقوى القهر في المجتمع(76). فالغرض الرئيسي للدراسات النقدية في الاتصال هو تحديد المصادر التاريخية والسياسية والاقتصادية للسلطة التي تكمن في الأيديولوجية(77).

وفيما يتعلق بالتداخل بين النظرية النقدية والإعلام، فيرى روادها أن الإعلام عبارة عن ممارسة تتبع أيديولوجيا معينة، وانبثقت عن الاتجاه النقدي “نظرية تحليل الثقافة” من خلال تحليل نمط استخدام الأفراد للوسائل الإعلامية، والكشف عن النتائج المترتبة عن استخدامها في الحياة اليومية(78). وقد بدأ إسهام المنظِّرين النقديين في دراسة الاتصال الجماهيري، وأبرزهم تيودور أدورنو (Theodore Adorno) وهربرت ماركوز (Herbert Marcuse) ووالتر بنجامين (Walter Benjamin) وإيريك فروم (Erik Fromm)، من خلال نقد وسائل الإعلام التي حاولت إعادة إنتاج الفنون القديمة في أشكال ملخصة تنقص من قيمتها، ويرون أنها صرفت الناس عن البحث وشراء المصادر الحقيقية للثقافة العالمية. كما قاموا بتحليل المضامين الثقافية، وقدَّموا تحليلًا حول طبيعة المضامين الهابطة بالمحتوى الإعلامي الذي يُوزَّع على نطاق واسع وتشاهده جماهير عريضة ويكون مثيرًا لاستياء النقاد بشكل مستمر(79)، مثل برامج العنف والجنس، التي تسهم في خفض مستوى الذوق وإفساد الأخلاق والقيم(80).

وتعطي هذه المدرسة الأولوية في تحليلها للمحيط الثقافي والاجتماعي الذي تحدث فيه عملية الاتصال، ولذلك يُطلِق عليها البعض اسم “المدخل الاجتماعي الثقافي”؛ إذ يركز أتباعها على المحيط الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبلد الذي تتم فيه عملية الاتصال(81). كما أن نقد المدرسة للمجتمع وتبنيها لمصطلح “التغيير الاجتماعي” يمثِّل إسهامًا مهمًّا في تاريخ البحث العلمي في العلوم الاجتماعية بصفة عامة، وفي مجال الثقافة والبحوث الإعلامية والاتصالية بشكل خاص. فالمدخل النقدي يُبيِّن أهمية رؤية الاتصال الجماهيري من خلال منظور اجتماعي وتقييم شامل لظروف المجتمع الرأسمالي(82).

استفادت الدراسة من أطر النظرية النقدية في الاتصال والإعلام، والتي ترى أن الإعلام يجب أن يُستخدم لتحقيق أهداف قيمية، وأن ينتقد الاستخدام السيء لوسائل الإعلام والعمل على تحسين استعمالها، وهو ما تسعى إليه هذه الدراسة في تحليل ونقد الدراسات والأبحاث الإعلامية العربية في سياق البيئة الرقمية الجديدة، وما طرأ عليها من تحولات في البنية الاتصالية، ومدى ملاءمة المناهج والنظريات التقليدية للبيئة الرقمية باعتبارها بيئة جديدة ومتقلبة تتفاعل فيها الشبكات والعلاقات والأدوار، ومدى قدرتها على تأطير الظواهر الجديدة وتحليلها، وحاجتها لتجديد الأسس المنهجية والنظرية التقليدية، نظرًا لأن دراسة الإعلام التقليدي كانت ترتكز على ثلاثة أبعاد تتمثَّل في الإنتاج والمضمون والجمهور، في حين تتطلب دراسة الإعلام الرقمي الجديد ثلاثية مختلفة تتكون من الأجهزة والنشاطات، والممارسات، والأشكال التنظيمية(83).

ثانيًا: خلفية معرفية عن البيئة الرقمية

تشكَّلت البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة نتيجة اندماج ظاهرتين، هما: تَفجُّر المعلومات والاتصالات، مما أدى إلى ظهور بيئة اتصالية جديدة مختلفة عن بيئة الإعلام التقليدي يصعب تحديد تعريف دقيق لها. فهناك من يرى أن هذا المصطلح يخص أشكال الاتصال الإلكتروني باستخدام الكمبيوتر مقابل الإعلام التقليدي وغيره من الوسائل الساكنة(84)، وهناك من يرى أن البيئة الإعلامية الرقمية ظاهرة حقيقية اختزلت الزمان والمكان، وقلبت مفهوم الجمهور الذي أصبح مستقبِلًا ومرسِلًا في آن واحد.

ويشير مصطلح الإعلام الرقمي إلى أي نظام أو وسيلة إعلامية تندمج مع أجهزة الحواسيب، والذي يطلق عليه الإعلام التفاعلي (Interactive Media)، وهو أيضًا مجموعة تكنولوجيات الاتصال التي تولدت نتيجة التزاوج بين الكمبيوتر ووسائل الإعلام التقليدي، والطباعة والتصوير والصوت والفيديو(85). ومهما اختلفت التسميات والتعريفات للبيئة الإعلامية الرقمية، فإن هناك اتفاقًا بشأن الإعلام الرقمي الذي يعتمد التقنيات الرقمية المبنية على نظام (0 -1(، وقد ظهر نتيجة تحول وسائط الاتصال من التناظري إلى الرقمي ومن الهرمي إلى الشبكي مما خلق بيئة جديدة لتبادل المعلومات والآراء اصطُلح على تسميتها بالإيكوميديا أو البيئة الجديدة للإعلام والاتصال التي وفرت فرصًا لظهور مفهوم المواطن الرقمي وصحافة المواطن؛ إذ تغلبت الشبكات الرقمية على غيرها من الشبكات الأخرى، ونجح النظام العالمي للاتصال المتنقلة (GSM)، وهو نظام اتصالي رقمي خلوي، في جميع أنحاء العالم؛ إذ يوفر اتصالًا دون انقطاع عبر الحدود(86). فيما انصب اهتمام الباحثين من خارج حقل الاتصال الذي بدأ عام 1960 على بعض جوانب وسائل الاتصال التي ظهرت في هذه الفترة، والتي تركزت على أجهزة الحاسوب ليس باعتباره وسيلة اتصال، بل لكونه وسيلة لمعالجة المعلومات وأداة للعد تحاكي الذهن البشري(87)، وأما المكونات الأساسية التي يجب توافرها في البيئة الرقمية فهي(88):

– المعلومات في قالبها الرقمي.

– التكنولوجيات الحديثة لنقل المعلومات والاتصال.

– الوسائل التقنية المستعملة من قِبَل المستخدم للوصول إلى المعلومة.

– الأدوات البحثية في البيئة الرقمية التي تقوم بتنظيم المواقع والصفحات المتاحة في البيئة الرقمية ويُسر استرجاعها.

وفيما يتعلق بانعكاسات البيئة الجديدة على الظاهرة الإعلامية، فإن هذه البيئة المتطورة تعتبر ظاهرة ديناميكية أدت إلى التحول من الإعلام باتجاه واحد إلى إعلام ثنائي الاتجاه، وهو إعلام مشارك في إعداد ومعالجة ونشر واختيار المضامين الإعلامية. فقد فرضت هذه التحولات على وسائل الإعلام التقليدي التكيُّف مع التغييرات التكنولوجية من خلال الاندماج لتواكب التطورات الحديثة التي أثَّرت على مكانتها ووجودها، ولتتواصل مع الجماهير من خلال إنشاء مواقع وصفحات خاصة بها عبر الشبكة المعلوماتية؛ إذ غدت الوسائط الرقمية الجديدة، وأهمها الشبكات الاجتماعية والتطبيقات الرقمية، وسائل لتحرير الجماهير من الإعلام التقليدي للتعبير عن الرأي والرأي الآخر، الذي أبقاهم لعقود عبارة عن متلقين ومتابعين ومشاهدين فقط، وأصبحوا متحكمين اجتماعيًّا وإعلاميًّا وسياسيًّا، يصنعون الأخبار ويُدخِلون عليها ما يشاؤون ويحُدِّثونها ويوُجِّهونها عبر هذه التقنيات، لأن التفاعلية والترابط وإمكانية الوصول إلى المستخدمين كمرسلين ومستقبلين(89) باتت سمات تميز البيئة الجديدة عن الإعلام التقليدي، بالإضافة إلى الفجوة المعرفية التي جاءت لصالح هذه البيئة الإعلامية؛ إذ أصبحت منافسة لهذه الوسائل كونها منصة للنشر والمشاركة، والتفاعل، والتعليق، ولتتحول إلى أداة للتأثير على مستخدميها.

كما أنهت البيئة الرقمية الجديدة -ممثَّلة في شبكات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، وتويتر، والشبكات الاجتماعية المتخصصة مثل “أكاديميا” (Academia) و”لينكد إن” (Linkedin)، والمدونات، ومواقع الويكي، والمنتديات، ومجتمعات المحتوى وغيرها- مفهوم السيطرة الإعلامية لوسائل الإعلام التقليدي. وخلخلت هذه البيئة الجديدة المؤسسات الإعلامية بما فيها الإعلام الرسمي، مما أدى إلى تفكيك تعريف الاتصال الجماهيري الذي غيَّر المشهد الإعلامي جوهريًّا بأكمله وخاصة الصحافة كمهنة(90)، وسمحت للجماهير بالتحكم في المحتوى الإعلامي فيما يتعلق “بأين وكيف ومتى”(91)، ومن ثم التحول في إنتاج وتلقي المعلومات ومجريات الأحداث. فأصبحت البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة تمثِّل شكلًا جديدًا من أشكال القوة والضغط والتعبئة والتأثير، خاصة أنها تحقق للإعلام مختلف شروط القيم الخبرية السبع (الآنية، القرب، الأهمية، والشهرة، والتأثير، والتداول، والصراع)، وبشكل خاص معيار الآنية والأهمية والصراع باعتبار أن شبكات الإعلام الاجتماعي لا تخضع في طبيعة عملها لنفس معايير التدقيق المهنية التي تتبعها وسائل الإعلام التقليدي، وتتحرر من جميع قواعد الأخلاقيات ومواثيق الشرف التي تلتزم بها المؤسسات الإعلامية. كما أن هناك عددًا من العوامل الرئيسية التي أدت إلى تغيير بيئة الإعلام التقليدي إلى الرقمي وأهمها العامل التقني ممثلًا في تكنولوجيا الكمبيوتر من حيث تجهيزاته وبرمجياته وتكنولوجيا الاتصالات المتعلقة بالأقمار الصناعية وشبكات الألياف الضوئية، واندماج هذه العناصر التكنولوجية في توليفات اتصالية عدة أفرزت شبكة الإنترنت التي تشكِّل وسيطًا يطوي بداخله جميع وسائط الاتصال الأخرى المطبوعة والمسموعة والمرئية، وكذلك العامل الاقتصادي المتمثل في عولمة الاقتصاد وما تطلبه من تسريع حركة المال ومن ثم تدفق المعلومات، وأخيرًا العامل السياسي ممثلًا في استخدام القوى السياسية لوسائل الإعلام من أجل السيطرة على موازين القوى في عالم زاخر بالاضطرابات والصراعات(92).

  1. عرض ومناقشة نتائج الدراسة التحليلية

2.1. الرؤى المنهجية لعينة الدراسة 

على مستوى الإطار المنهجي المستخدم في الدراسات والبحوث عينة الدراسة التي تناولت قضايا الشباب والمراهقين والأطفال، وجمهور الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، والأبحاث المتعلقة بالعمليات الاتصالية (الإعلان، الدعاية، الشائعات، العلاقات العامة) التي أجريت في سياق البيئة الرقمية الجديدة، كشف التحليل أن معظم هذه الدراسات ينتمي إلى البحوث الوصفية بشكل أساسي ولم يتجاوز الوصف. كما أن غالبية البحوث تشترك في اعتماد منهج المسح الإعلامي بالعينة، باستثناء دراسة كل من )مصطفى، 2020)، و(عريقات، الخرابشة، 2021)، و(محمد، 2022(، و(المهايرة وآخرون، 2022) التي جمعت بين المنهج الوصفي والارتباطي، ودراسة (الدهراوي، 2019) التي جمعت بين منهج المسح ومنهج العلاقات المتبادلة، فيما اعتمدت دراسة (الزبون وآخرون 2017) على منهج المسح الاجتماعي، ودراسة (اللواتي، 2017) على منهج الرصد الداخلي. كما تُعد جميع هذه الدراسات بحوثًا كمية تشترك في استخدام الاستبيان أداة رئيسية لجمع البيانات، وهذا ما يجعل نتائجها متشابهة. فيما جمعت دراسة (شهرزاد، بوعمامة، 2016) بين منهج المسح الإعلامي وتحليل المضمون والتحليل السيميولوجي، وكذلك جمعت دراسة (عبد الغفار، 2020) بين منهج المسح ومنهج العلاقات المتبادلة. واعتمدت كل من دراسة (الشباوي، 2018)، و(صالح، 2021)، و(سعيدان، الحزامي، 2022)، و(الثنيان، 2022) تحليل المضمون لمقاربة المشكلة البحثية، واختلفت دراسة (رضوان، محمد، 2019) عن الدراسات السابقة كونها دراسة تجريبية.

أما فيما يتعلق بأدوات جمع البيانات التي استخدمتها عينة الدراسة فتبيَّن أنها اعتمدت بشكل رئيسي على الاستبيان، سواء من خلال التوزيع المباشر أو الاستبيان الإلكتروني، باستثناء دراسة كل من (عريقات، الخرابشة، 2021)، و(محمد، 2022 (، و(اللواتي، 2017)، ودراسة (عزوز 2022) التي استخدمت تحليل المضمون أداة لجمع البيانات، فيما جمعت دراسة (عبد الله، فاضل، 2018) بين الاستبيان وتحليل المضمون أداتين لجمع البيانات.

2.2. الأطر النظرية لعينة الدراسة

على مستوى الأطر النظرية التي استندت إليها البحوث والدراسات عينة الدراسة، رصدت نتائج التحليل التفاوت بين الدراسات في الاستناد إلى أطر نظرية ما بين استخدام النظريات التقليدية وتطبيقها على البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة، ودراسات تناولت نظريات حديثة تتلاءم مع دراسات الإعلام الرقمي، ودراسات لم تستند قط إلى أطر نظرية واكتفت بالأطر المعرفية أو الأدبية للمواضيع التي تتناولها في هذه الدراسات. فقد استندت كل من دراسة (المدني، 2015)، و(مصطفي، 2016)، و(نصر، 2018)، و(آل صقر، 2019)، و(الحماد وآخرون، 2020)، و(مساوى، 2020)، و(الزهراني، 2020)، و(رشاد، (2021)، و(عزوز، 2022)، على نظرية الاستخدامات والإشباعات. واستندت دراسة كل من (عبد الرزاق، 2016)، و(قازان، القرعان، 2021) على نظرية الاعتماد على وسائل الاعلام، بينما اعتمدت دراسة (التوام، 2016)، و(صيفي وآخرون، 2022) على نظرية ترتيب الأولويات، ودراسة (عريقات، الخرابشة، 2018) على نظرية الأطر الإعلامية. أما دراسة (حسين، 2018) فاعتمدت على نظرية التعلم الاجتماعي ونظرية النموذج، واستعانت دراسة كل من (عبد الله، 2015)، و(الشلهوب،2017)، و(الدهراوي، 2019) على نموذج “تشو وشيون” ونموذج “أيدا” ونموذج بناء قيمة العلامة التجارية، واعتمدت دراسة (عبد الغفار، 2020) على نظرية القائم بالاتصال، وحارس البوابة، واستعانت دراسة (العشري، 2020) بنظرية المسؤولية الاجتماعية، فيما جمعت كل من دراسة (مكي، 2022) بين نظرية الأطر ونظرية الحتمية التكنولوجية، ودراسة (سعيدان، الحزامي، 2022) على نظرية الأطر الإخبارية ونظرية اتصالات الأزمة الموقفية.

أما الدراسات التي استندت إلى نظريات تتلاءم والبيئة الإعلامية الرقمية فتمثَّلت في دراسة (اليماني، اللبان، 2016) و(اللواتي، 2017)، و(مصطفى، 2020)، و(محمد، 2022) التي اعتمدت نظرية ثراء وسائل الإعلام، فيما استعانت دراسة (رضوان، محمد، 2019)، و(الجيلاني وآخرون، 2019)، و(مكناي، المزاهرة، 2021) بنظرية الحتمية التكنولوجية ونظرية الابتكارات. واستندت دراسة (عبد الله، فاضل، 2018)، و(محسن، 2020) على نظرية البيئة الإعلامية، أما دراسة (مرعي، 2021) فاعتمدت على نظرية التهيئة المعرفية، وكذلك اعتمدت دراسة (الوزان، 2022)، على نظرية التماس المعلومات، فيما استعانت دراسة (عزوز، 2022) على المدخل التكاملي لتحليل الصورة، كما استندت دراسة )سلامة، 2020)، و(مراد، 2018) على نموذج إعادة نشر الشائعات وآلية كشف الشائعات وتدفقها، ونموذج مصداقية المصدر، ونموذج إطار التأثير، بينما استعان عدد من الدراسات بالنظريات التكنولوجية، مثل النظرية الموحدة لقبول التكنولوجيا، ونظرية تقبل التكنولوجيا التي استندت إليها كل من دراسة (المزاهرة، 2017)، و(البطاينة، العفيف، 2018)، و(المزاهرة، 2018). واستعانت دراســــة (حسني، 2019) بنظرية ماهية سهولة الاستخدام، ودراسة (صالح، 2021) بالنظرية التفاعلية.

وفي المقابل، كشفت نتائج التحليل أن هناك عددًا لا يستهان به من الدراسات لم يستند لأي إطار نظري واكتفى بخلفيات معرفية أو إطار أدبي كما نجد في دراسة (العريشي، 2015)، و(إبراهيم، 2015)، و(غندر، 2016)، و(الحسين 2016 )، و(الزبون وآخرون، 2017)، و)عبد الوهاب، عبد الله، 2017)، و(فالق، 2018)، و(مصطاف، نوشي، 2018)، و(الأحمد، 2019)، و(زقاي، محمد، 2019)، و(بسيوني وآخرون 2020)، و(الهواري،2021)، و(سحاري، بوهدة، 2021)، و(قطب، الطياري، 2022)، و(المهايرة وآخرون، 2022)، و(أبو شعيشع، 2022)، و(باحمدان، 2022)، و(شهرزاد،  بوعمامة، 2016)، و(الثنيان، 2022).

  1. روية نقدية لعينة الدراسة

بناء على القراءات النقدية والتحليلية للدراسات والبحوث الإعلامية العربية التي أجريت في سياق البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة، توصلت الدراسة لمجموعة من النتائج.

3.1. الإشكاليات المنهجية للبحوث الإعلامية العربية 

– إشكالية عدم وجود مناهج علمية جديدة قادرة على التعاطي مع الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، فعلى الرغم من وجود بعض التراكم المعرفي الكمي في عينة الدراسة، إلا أنها لم تحقق النجاح في تطوير البناء النظري والفلسفي أو طرح مناهج بحثية جديدة(93). كما تقتصر معظم الدراسات على البحوث الوصفية والاستكشافية ولم تحاول تجاوز الوصف، وقد أكد غاستون باشلار (Gaston Bachelard) أن العلوم لا تحقق أهدافها التي لا نعثر عليها جاهزة، وهي ليست ما يجب وصفه، بل ما يجب بناؤه، فالأحداث والوقائع تجب ملاحظتها وبناؤها، وليس مجرد وصفها(94).

– تعتمد معظم البحوث العربية في الإعلام الجديد على منهج المسح ضمن البحوث الوصفية، باعتباره المنهج الرئيسي لدراسات وسائل الإعلام وجمهورها، وهو ما يؤدي إلى توصلها لنتائج متشابهة، وقد تتسم بالعمومية. فالمناهج المسحية تعتبر من المقاربات التي تدقق في سطحيات الحقائق الكمية خلافًا للبحوث الكيفية التي تدرس الظاهرة بشكل متعمق وشامل(95)، كما تقف المناهج المسحية عند حدود الوصف الإحصائي دون الاستدلال على الأسباب والمقدمات التي ترتبط بالسؤال “لماذا؟”(96)، إضافة إلى عدم اهتمام الباحثين بالدراسات المقارنة للتعرف على مدى قدرة الوسائل التقليدية على المحافظة على كينونتها، وقدرة الوسائل الجديدة على منافستها أو إلغاء بعض خصائصها(97).

– تفتقد البحوث الإعلامية العربية في البيئة الرقمية الجديدة للتنوع في استخدام أدوات جمع البيانات، والتي اقتصرت في المجمل على الأدوات الكمية (الاستبيان) المهيمنة على الحقل الأكاديمي الإعلامي، ويعود ذلك إلى أن أغلب المناهج التدريسية تركز على المداخل البنائية الوظيفية المتأثرة بالمدرسة الأميركية التي تعلي من شأن البحوث الأمبريقية(98) مقابل البحوث الكيفية والنقدية. فنتائج البحوث الكمية لا تقدِّم صورة متكاملة عن الظواهر المدروسة لضبط الممارسات الناجمة عن الاستخدام في البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة، ومعرفة خصائص مستخدميها بصفة عامة، وهو ما حال دون نجاعة استخدام أدوات القياس الكمية في بعض البحوث الرقمية.

– معظم بحوث عينة الدراسة تناول بشكل رئيسي تأثير البيئة الإعلامية الجديدة في فئة الشباب بشكل خاص، وصُنِّفت في مجموعات، مثل طلبة المدارس وطلبة الجامعات، والمراهقين، والشباب المتعلمين، أو تأثيرها في الأسرة. كما ركزت عينة الدراسة على موضوعات بناء علاقات اجتماعية، والصداقة والمشاركة التفاعلية بين المستخدمين، وكذلك الآثار السلبية لاستخدام الشباب بفئاتهم المختلفة لشبكات التواصل الاجتماعي(99)، بينما اقتصرت الدراسات على قضايا وظواهر أخرى تخص المستخدمين بشكل عام، مثل تقدير الذات أو الحالات النفسية أو الحالة المزاجية(100).

– إشكالية الابتعاد عن البحوث الكيفية والنقدية، ويرجع ذلك لعدم معرفة بعض الباحثين بالأصول النظرية والعملية لهذا النوع من البحوث، وهيمنة المنظور الأمبريقي على الدراسات العربية بصفة عامة أو عدم وجود وحدات للتحليل تلائم الظواهر الرقمية الحديثة، وإجراء المقاربات البحثية الكيفية في جمع البيانات وأهمها الملاحظة بالمشاركة، وتحليل النصوص والخطابات، ودراسة الحالة التي تحتاجها دراسات البيئة الإعلامية الجديدة للحصول على بيانات دقيقة وتفصيلية عن مستخدمي هذه البيئة، مقارنة بالدراسات الأجنبية التي تتنوع استخداماتها للأدوات البحثية الكيفية لجمع البيانات، وأهمها المقابلات المتعمقة والمجموعات المركزة ودراسة الحالة(101). ولا يعني هذا أن البحوث الإعلامية العربية لا تستخدم الأدوات الكيفية نهائيًّا، فهناك دراسات عربية عديدة اعتمدت الأدوات الكيفية(102).

– إشكالية مصداقية المعلومات والبيانات التي تتم دراستها ضمن البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة؛ ذلك أن ما يُعرض من بيانات ديمغرافية وآراء وأفكار لا تعبر بالضرورة عن معلومات صادقة؛ إذ إن المضمون الذي يتم تناقله عبر الوسائط الجديدة يمثِّل هاجسًا كبيرًا للباحثين بالنظر لارتباطه بأحد الأسس العلمية الرصينة؛ والذي يتمثَّل في المصداقية والموثوقية العلمية وهما شرطان أساسيان لا غنى عنهما لإنجاز بحوث سليمة ومقبولة منهجيًّا(103).

– إشكالية تحليل محتوى شبكات التواصل الاجتماعي أو حتى المواد الإعلامية المتداولة عبر هذه الشبكات والتطبيقات الذكية، والتي تُعد مواد غير خاضعة لأية رقابة كانت، سواء من السلطات السياسية أو من القيود الاجتماعية أو غيرها، فنجد الباحثين يتجنبون تحليل مضمونها تحليلًا معمقًا باعتبارها من الطابوهات التي قد تجر الباحث لتبعات تؤرقه فيما بعد(104).

– صعوبة قياس ورصد الأثر والتأثير ومعرفة الاتجاهات المختلفة للرسـالة الاتصـالية في حالة الاتصال الجماهيري الواسع، فكيف يمكن قياس الأثر والتأثير في البيئة الإعلامية الرقمية للمستخدمين المنتشرين دون حدود للزمان والمكان؛ إذ من الصعب قياس رجـع الصـدى ومـدى تـأثر الجمهور بمضمون الرسالة إلا بعد إجراء استطلاعات الرأي العام حول القضايا محور الدراسات، بينما يذهب بعض الباحثين الغربيين للتشكيك فيها، مثل بيير بورديو (Pierre Bourdieu) الذي نفى وجود ما يسمى بالرأي العام الحقيقي؛ إذ لا يعدو أن تكون استطلاعات الرأي وسيلة من وسائل العمل السياسي التي يلجأ إليها أصحاب السلطات لإضفاء الشرعية على نظامهم السياسي القائم(105). كما أشار والتر ليبمان (Walter Lippmann) إلى أن الفرد بمفرده ليس لديه آراء بشأن جميع القضايا العامة، إضافة إلى اختلافاتهم الفكرية والعلمية بشأن ماذا يحدث؟ وكيف يحدث؟، لذلك كيف يمكن أن يكون لهؤلاء قوة موجهة ومؤثرة ومستمرة في هذه القضايا. وإذا كانت هذه حال بحوث الرأي العام في الدول الغربية التي تتمتع بقدر من الحرية في التعبير عن الرأي والرأي الآخر، فهل يمكن أن تطبق على دول تفتقر إلى القدرة على التعبير عن حرية الرأي العام؛ حيث تسود فكرة مفادها أن الرأي العام في دول الجنوب، ومنها البلدان العربية، سطحي وفاعليته محدودة وفرص وجوده إزاء القضايا المهمة والحيوية ضئيلة للغاية، وبالتالي كيف يمكن قياس شيء لا وجود له أو كامن؟!(106).

3.2. الإشكاليات النظرية للبحوث الإعلامية العربية

– إشكالية تطويع العديد من النظريات التي كانت تستخدم في بحوث الإعلام التقليدي لتطبيقها على الإعلام الجديد، مثل: نظريات الاستخدامات والإشباعات، ونظرية الاعتماد على وسائل الإعلام وغيرها من النظريات، لتحديد أسباب استخدام شبكات التواصل الاجتماعي أو المواقع الإلكترونية، والبحث عن المعلومات أو الاتصال لتكوين علاقات اجتماعية لتطبيقها على بحوث الإعلام الجديد(107)، متجاوزين اعتماد البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة على التفاعلية التي انتفى خلالها النموذج الخطي الذي يقوم على أن الإعلام يسير باتجاه واحد.

– لم تخرج الكثير من البحوث الإعلامية العربية في البيئة الرقمية الجديدة عن توظيف الإطار التقليدي للنظريات المتعلقة بالتعرض ودوافعه، والتعرف على عادات وأنماط الاستخدام، إضافة إلى اهتمام هذه البحوث بمضمون الرسالة الذي ينطلق منه تحديد التأثيرات والأدوار، ومن ثم إغفال المستخدمين في البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة التي تتميز بالتفاعل بالدرجة الأولى. وتعظِّم هذه النظريات التقليدية في مجملها من دور الإنترنت كوسيلة كما تعظم من تأثيره على الجمهور(108).

– إشكالية تطبيق بعض نظريات التأثير المعتدل لوسائل الإعلام، ومنها نظرية ترتيب الأولويات، على بحوث البيئة الرقمية الجديدة، والتي تركز على أن وسائل الإعلام تقوم باختيار مواضيع وقضايا محددة وإبرازها والتحكم فيها للتأثير في جماهيرها. ووفق هذه النظرية، فإن وسائل الإعلام ترتب أولويات الجمهور من حيث أولويات القضايا التي تطرحها(109)، وهذا يتنافى مع البيئة الجديدة؛ إذ لم تعد وسائل الإعلام بأحاديتها قادرة على وضع أولويات القضايا والمواضيع التي يهتم بها مستخدمو هذه البيئة، الذين أصبحوا طرفًا مشاركًا مع وسائل الإعلام في إنتاج ونشر القضايا والمواضيع التي تهمهم. فظهور صحافة المواطن والمصور الصحفي الذين يكتبون ويصورون وينشرون يمكن أن يشكِّلوا أجندة أسرع من وسائل الإعلام.

– إشكالية عدم توظيف مداخل نظرية في بحوث البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة؛ إذ لا يستند عدد كبير منها إلى قواعد ورؤى نظرية، أو يعتمد على مقولات ونماذج تقليدية قد لا تتناسب مع طبيعة الظواهر الاتصالية الجديدة بسبب تغير خصائصها وتداخل عوامل مغايرة في تشكيلها يصعب حصرها أو تعميمها(110). وقد تستخدم هذه البحوث بعض النظريات بشكل سطحي ولا تختبر فروضها، ويكتفي الباحث بعرض مطول في كثير من الأحيان للنظريات دون توضيح طريقة معالجته لمشكلة الدراسة.

– لا يخلو تطبيق نظرية حارس البوابة والقائم بالاتصال من إشكاليات في سياق البيئة الإعلامية الجديدة، نظرًا لما أسهمت به شبكة الإنترنت في الحد من احتكار المعلومات والبيانات من قِبَل وسائل الإعلام التقليدي التي كانت المتحكم الوحيد في تدفق الأخبار والمعلومات للتأثير في الجماهير أو تأطير القضايا التي تخدم مصالحها وسياساتها(111). لذلك لم تعد هذه النظريات تطبق بشكل دقيق في بحوث الإعلام الجديد، لأن القائم بالاتصال وحارس البوابة لم يعودوا المتحكِّمين في غرفة الأخبار والمسيطرين على المعلومات التي تُبَث للجمهور، كما أن مستخدمي الشبكات لم يعودوا بحاجة لحراس بوابة؛ إذ أصبحوا أصحاب القرار لما يتابعونه وفي أي وقت. ويقوم الاتجاه القديم على حجب المعلومات والأخبار، وحماية الأسرار لصالح القوى السياسية والاقتصادية وغيرها، أما الاتجاه الجديد فيهدف إلى تتبع ونشر المعلومات المتستر عليها لصالح الجمهور المتباين الذي يهدف إلى التغيير في شتى مجالات الحياة(112)، إلا أن هذه المعطيات لا تعني أن توظيف نظرية حارس البوابة في بحوث البيئة الإعلامية الجديدة لم يعد مفيدًا، وإنما لم يعد مفهوم حارس البوابة كما كان سابقًا في عملية تداول الأخبار؛ إذ انعكس هذا المفهوم ليصبح مراقبة البوابة -بدل حارس البوابة- التي تُعد ممارسة اتصالية بدأت تحلُّ تدريجيًّا مكان العملية التقليدية؛ حيث يؤدي الصحافيون وحراس البوابات دورًا ثابتًا، بينما يقوم الجمهور بدور في عملية حراسة البوابة ويمثِّل حارس بوابة ثانويًّا(113) ومشاركًا في إنتاج الرسالة الإعلامية. وفي المقابل، وضعت إدارات الشبكات الاجتماعية شروطًا عامة لاستخدام خدماتها وشروطًا أخلاقية وأخرى تتعلق بالملكية الفكرية، والتي تشكِّل حارس بوابة يراقب ويتابع ما ينشر من نصوص وصور وفيديوهات.

3.3. صعوبات تواجه بحوث ودراسات البيئة الإعلامية الرقمية

على الرغم من الاجتهادات البحثية والنظرية التي بدأت بالاهتمام بالمواضيع والظواهر المتعلقة بالبيئة الإعلامية الرقمية من منظور الجمهور المستخدم، إلا أن غالبية البحوث لا تزال تتجه للتيار البحثي التقليدي الذي يتعاطى مع هذه البيئة باعتبارها وسائل مكملة وإضافة للبحوث التقليدية. لذلك هناك عدد من الصعوبات التي تواجه الباحثين، منها:

– صعوبة الوصول إلى بيانات التطبيقات والشبكات الاجتماعية التي تسيطر عليها الشركات التي تملك هذه البيانات، وتحكم هذه العملية أيضًا اتفاقيات الخصوصية مع مستخدمي التطبيقات والشبكات، فالعديد من الشركات لا يقوم بمشاركة كمٍّ كبير من التفاصيل حول التفاعلات التي تحدث على منصات التواصل الاجتماعي التي يملكها أو يمنعها، (مثلما حصل في حرب غزة، في مايو/أيار 2021)؛ إذ يمكن ملاحظة وتحليل التفاعلات على شبكات التواصل الاجتماعي، إلا أن الفروق الدقيقة أو السياقات المهمة قد تكون مفقودة. إضافة إلى ذلك، ثمة غموض حول كيفية تصميم حزم البيانات، لأن شبكات التواصل الاجتماعي تُغيِّر من وظائفها وإعداداتها بشكل مستمر، وهذا يؤثر في عملية جمع وتحليل البيانات.

– عدم مصداقية البيانات الديمغرافية لمستخدمي تطبيقات الإعلام الاجتماعي؛ إذ يستخدم عدد كبير منهم هويات مجازية تؤدي إلى إخفاء هويتهم الحقيقية، ومن ثم عدم مصداقية إجراءات المعاينة؛ حيث يصعب تحديد هوية الأفراد في البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة، ومن ثم إجراء دراسة على مجتمع افتراضي بدون هوية أو ثقافة مميزة له.

– عدم القدرة في كثير من الأحيان على التمييز بين عملية جمع البيانات من شبكات التواصل الاجتماعي وجمع البيانات من وسائل أخرى، التي تحتاج إلى امتلاك القدرة على تصميم أدوات تكنولوجية آلية يمكن توظيفها من أجل جمع وتخزين حجم كبير من البيانات وتحليلها بسرعة عالية(114).

– عدم مصداقية الآراء والأفكار التي ينشرها بعض المستخدمين؛ إذ قد تكون مغايرة للواقع، وقد لا تُعبِّر بدقة عن الآراء الحقيقية(115)، وهذه المعطيات لن تكون مؤشرًا دقيقًا عن الواقع الحقيقي لهؤلاء المستخدمين.

– اختلاف محتوى وتكوين البيئة الرقمية الجديدة عن محتوى بيئة وسائل الإعلام التقليدي؛ إذ تتسم بالتغير والتجدد باستمرار؛ الأمر الذي يثير إشكالية للباحثين فيما يخص تحديد واختيار وحدات الدراسة، لاسيما فيما يتعلق بإعادة تطبيق اختبار الصدق والثبات لعينة البحث(116).

– صعوبة الاعتماد على المواد الإعلامية والخبرية التي يتم نشرها عبر الشبكات والمدونات لدراستها، لأنها لم تعد تقتصر على نقل الأخبار والمضامين كما هي بسبب خاصية التعليقات التي تُغيِّر من المحتوى، وتناقلها بين المستخدمين من خلال الحوارات التي تدور حول هذه المضامين، والتي لا يمكن الاعتماد عليها مادة متشعبة للتحليل.

– صعوبة التحكُّم في محتوى البث المباشر الذي تُتيحه البيئة الإعلامية الرقمية عبر شبكات التواصل الاجتماعي لمستخدميها مباشرة من حساباتهم التي أضحت متاحة للجميع، وسمحت لهم بالتعليق وإضافة الرموز التعبيرية أثناء البث. ويمكن حفظ البث المباشر إلى فيديو عادي يستطيع المشاهدون متابعته في أي وقت؛ إذ قامت شركة “ميتا” بإبرام عقود مع أكثر من 140 شركة إعلامية ومشاهير لإنشاء مقاطع فيديو لهذه الخدمة(117).

– لا يمثِّل مستخدمو تطبيقات وشبكات التواصل الاجتماعي جميع السكان، لذلك قد توجد تحيزات وصعوبات في النتائج العامة للدراسات إلا إذا كان التركيز على مجموعة نشطة معينة وعلى منصةٍ ما(118).

– إشكالية تحديد عينات الدراسة وإجراءات المعاينة في البيئة الإعلامية الرقمية، وصعوبة تحديد إطار عام لمجتمع الدراسة نظرًا للمرونة الشديدة التي تتميز بها شبكة الإنترنت، وعدم ثبات المواقع والحسابات الإلكترونية، وصعوبة استخدام محركات وتقنيات البحث التي تتتبع الروابط، مثل “ويب كراولر” (Web crawler) الذي يحدد الارتباطات التشعبية في الصفحة ويضيفها إلى قائمة العناوين المطلوب زيارتها. ولهذا يبقى عدد كبير من المواقع والصفحات بمنأى عن الدراسة والتصنيف، ومن ثم استحالة الاعتماد على إطار ثابت ومحدد يمكن سحب عينة عشوائية منه(119)، لذلك لا يمكن التعامل مع عينات عشوائية يتعذر تعميم النتائج من خلالها.

– اختلاف وتنوع اللغات والسياقات الثقافية بين مستخدمي البيئة الإعلامية الرقمية، ومن ثم صعوبة استخدام الترميز الإلكتروني في تحليل المضامين المنشورة عبر هذه البيئة التي تؤدي إلى عدم دقة النتائج، بل غالبًا ما سيؤدي هذا الترميز إلى نتائج مضلِّلة عند تطبيقه(120).

– صعوبة قياس التعرض للوسائط الحديثة بطريقة موثوقة وصالحة؛ إذ يمكن أن يؤدي ضعف موثوقية مقاييس التعرض إلى إضعاف العلاقة بشكل كبير بين متغيرات النتائج، كما أن انخفاض الصلاحية يجعل من الصعب تفسير أي علاقة(121)؛ إذ يطلق الباحثون على قياس التعرض للوسائط صفة الـعمل الفوضوي. إضافة إلى أن البحوث والدراسات الإعلامية العربية تطرقت إلى التأثيرات المختلفة لاستخدام الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، لكنها لم تقدم أية مقاييس تطبيقية لرصد هذه التأثيرات، وإنما استندت إلى مقاييس أجنبية سبق تجربتها.

– صعوبة إجراء دراسات متعددة المراحل أو دراسة على فترة طويلة، نظرًا لطبيعة الشبكة الرقمية التي تسهِّل ظهور منصات جديدة وإلغاء ما سبقها أو استبدال غيرها بها، ويُعد ذلك من التحديات التي واجهت وتواجه إنجاز البحوث المتعلقة بهذه المنصات والتطبيقات.

– ضعف الاهتمام بتقديم دراسات ورؤى مستقبلية واستشرافية تتنبأ بالمشكلات وتقدم الحلول للقضايا والظواهر المتعلقة بالبيئة الإعلامية الرقمية الجديدة.

– تأخر الباحثين والدارسين في تبني النظريات التكنولوجية وتطبيقها على بحوث البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة؛ إذ تحتاج هذه النظريات إلى وقت لمعرفتها والاعتراف بها وتطبيقها، إضافة إلى مقاومة باحثي الإنسانيات لتأثير التكنولوجيا الحديثة(122).

 

  1. أساليب لتطوير البحوث الإعلامية العربية في سياق البيئة الإعلامية الرقمية

بعد رصد أهم الإشكاليات المنهجية والنظرية والصعوبات التي تواجه البحوث الإعلامية العربية في سياق البيئة الرقمية الجديدة، تقدِّم الباحثة بعض المقترحات العلمية الممكنة لأساليب تطوير هذه البحوث في التعامل مع الإشكاليات والصعوبات التي تواجه المجتمع البحثي.

4.1. أساليب تجاوز الإشكاليات المنهجية

تحتاج البحوث الإعلامية في سياق البيئة الرقمية الجديدة إلى مقاربات شاملة منهجيًّا وليست جزئية لحلها؛ إذ تنفرد هذه البيئة بخصائص تختلف عن البيئة التقليدية، مثل التفاعلية، والنص المتشعب، وغيرها، وهو ما يفرض الاستعانة والبحث عن أساليب تكون أكثر فعالية لتفسير الظواهر الإعلامية الجديدة نظرًا للتغييرات التي طرأت على وسائل الإعلام من حيث الممارسات والمضامين والاتجاهات والأدوات والأساليب والتطبيقات. ومن أبرز هذه الأساليب التي تم استخلاصها:

– الاتجاه نحو الدراسات التحليلية النقدية والمنهج المقارن بشكل أكبر لدراسة البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة التي قلما تناولتها بحوث الاتصال ودورياتها العلمية.

– العمل على المزج بين المناهج الكمية والكيفية في بحوث البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة لتحقيق التكامل بينهما؛ إذ لا يوفر الاعتماد على هذه المناهج منفردة تصورًا آمنًا لدراسة البيئة الرقمية(123).

– الاتجاه نحو اعتماد مناهج وأدوات بحثية أخرى استُخدمت في العلوم الإنسانية، مثل التحليل الأسلوبي والدلالي، والاتجاه نحو مقاييس الاختبارات السيكومترية والسوسيومترية، وتطبيق نماذج وأدوات التحليل السياسي والثقافي والأورغونومي، وتحليل الخطاب، وتحليل الأطر، والتحليل السيميولوجي، ومقاييس يسر الاستخدام، ومقاييس الانقرائية، وتحليل المحادثة، والتحليل البلاغي، وتحليل الحجج، وتحليل السياق، وتحليل المستوى الثاني، وأسلوب دراسة الحالة، وبحوث الفعل والبحوث التسجيلية، وبحوث الفعل الشبكية، وبحوث الفعل التشاركي(124).

– التوجه إلى التفكير في أساليب وطرق مختلفة لقياس وتحليل المواد والأخبار التي يتداولها المستخدمون عبر شبكة الإنترنت لقياس أبعاد سيولتها وإخضاعها للبحوث الأمبريقية لتجاوز الحدود المنهجية التي تميز منتجي الأخبار عن متلقيها/جمهورها/مستخدميها(125) في ظل ظهور المواطن الصحفي ومنتج المواد الإعلامية أو غيرها.

– تنويع استخدام العينات؛ إذ اقتصرت معظم البحوث والدراسات الإعلامية على الشباب وطلبة المدارس والجامعات، فيما أهملت باقي شرائح المجتمع وكأنها خارج إطار الإعلام الرقمي الجديد.

4.2. أساليب تجاوز الإشكاليات النظرية

يتمثَّل تطوير الإشكاليات النظرية التي تواجهها البحوث الإعلامية العربية في سياق البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة في جدلية صلاحية تطبيق النظريات التقليدية، وظهور نظريات ونماذج خاصة بالبيئة الإعلامية الجديدة التي غيَّرت من طبيعة الرسالة الإعلامية ومضمونها ومكانها وزمانها. فلم تعد تلك الرسالة تُنْتَج من قِبَل القائمين بالاتصال في المؤسسات الإعلامية فقط، وإنما أصبح هناك مشاركون جدد في إنتاج الرسالة الإعلامية، ومضمون جديد مغاير لما سبق، وأدى ذلك إلى ضرورة إعادة النظر في النظريات التقليدية لدراسة وتفسير البيئة الرقمية الجديدة. ومن ثم، هناك بعض الأساليب والمقترحات التي قد تساعد في تطوير البحوث الإعلامية، ومنها:

– البحث عن النظريات المستحدثة أو المتطورة التي تلائم خصوصية البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة، والعمل على تطويعها لتتواءم مع المشكلات المطروحة؛ أما الرأي الذي يرى “العجز في النظرية، لأنها غربية ولا تتلاءم مع المجتمعات العربية” فلا يخلو من مغالطة، لأن الأطر النظرية والجهاز المفاهيمي لهذه النماذج المعرفية تساعد الباحثين على فهم الظواهر الإعلامية وتفسيرها وتحليلها رغم اختلاف السياقات. وقد ذهب أحد الباحثين إلى أن عددًا كبيرًا من دارسي العلوم الاجتماعية والإنسانية ومدرسيها في المنطقة العربية تبنَّوا فكرة التبعية للنظريات الغربية في مجال البحث في العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية من دون فحص وتحليل وأعلنوا قصورها في فهم الظاهرة الاجتماعية والإعلامية على المستوى العربي(126). لذلك يجب العمل على اعتماد مرجعيات تساعد على الدراسة العميقة وعلى رأسها الإثنوغرافيا(127).

– ضرورة الاتجاه نحو فهم النظريات ومكانتها ودورها في البحث العلمي بما يتلاءم مع أبحاث البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة، من خلال القيام بتطوير نماذج من النظريات التقليدية، مثل النموذج المعلوماتي، والتواصلي، والتفاعلي، والشبكي المتداخل. كما أن هناك حاجة إلى تجربة النظريات التي تبحث في السلوكيات الناتجة عن البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة وتجاوز الاستخدامات والإشباعات ونظريات التأثير وغيرها، والاتجاه إلى نظريات العصبية الافتراضية، ونظرية التشبيك، والفعل الاجتماعي، والرأسمال الاجتماعي… للتعرف فيما إذا كانت تتلاءم مع دراسات البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة، والعمل على تبني مداخل نظرية بينية تربط بين الإعلام والعلوم ذات الصلة، مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الحاسوب، بما يتيح للباحث الجمع بين تحليل المحتوى والتحليل الإثنوغرافي لفهم المستخدمين وتفاعلاتهم(128).

– هناك نظريات تتراجع أهميتها في التحليل، مثل نظرية التأطير (Framing)، رغم أنها أكثر النظريات استخدامًا في البحوث الإعلامية؛ إذ لا يُعد ذلك بالضرورة مؤشرًا على نجاحها في البيئة الرقمية الجديدة؛ حيث يجب مراجعتها نظرًا لغموضها(129)، إضافة إلى وجود ارتباك مفاهيمي وتطبيقي يحيِّد هذه النظرية لصعوبة عزل تأثيرات الأطر عن تأثير ترتيب الأوليات أو التهيئة المعرفية في البيئة الرقمية، لذلك من الممكن تحويلها إلى نموذج جديد يوضح تأثيرات الوسائط في هذه البيئة الجديدة(130).

– اللجوء إلى بعض النظريات التي يمكن تطبيقها في البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة، مثل نظرية ثراء وسائل الإعلام، التي تتناول تأثير التطورات الرقمية في بعض وسائل الإعلام التقليدي. وتُستخدم نظرية ثراء وسائل الإعلام لدراسة الاختيار بين وسائل الإعلام وفقًا لدرجة ثرائها المعلوماتي، وتوضح أن فعالية الاتصال تعتمد على القدر الذي تستخدم به الوسيلة(131). ويمكن أيضًا اعتماد نظرية التماس المعلومات التي يمكن أن تعيش في البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة التي تفترض أن التعرض الانتقائي للأفراد يجعلهم يختــارون المعلومــات التي تلبي احتياجاتهم، كما تفترض أن هناك محفزات تسهم في توجيه الأفراد للسعي نحو جمع المعلومات التي تُعد متاحة عبر شبكة الإنترنت.

– الاتجاه نحو نظريات التحليل الشبكي والشبكات الاجتماعية في الوقت الذي أصبح فيه الإعلام الرقمي الجديد يأخذ منحى المقاربة الشبكية وكأن الفضاء العام أصبح متجسدًا في شكل العقد والصلات. فقد وجدت الدراسات أن نظريات الإعلام التقليدي أصبحت تستخدم المقاربة الشبكية التي تتضمن مصطلحات عن التأطير الشبكي، وشبكة ملكية القضية، وشبكة الرسائل، ووضع الأجندة الشبكية، وحراسة البوابة بشكل شبكي، وغيره من دلائل التحول نحو تصور شبكي للإعلام وكل ما يتصل به(132). كما ظهرت مصطلحات أكثر قوة في دلالتها على تغيير تصور العملية الإعلامية والاتصالية نفسها، مثل الاتصال الشبكي، والفضاء الشبكي العام. ويتبنى الباحثون تصورًا جديدًا يركز على مسائل السياق بدلًا من السببية وقياس حجم الأثر، ويدرس هذا التصور ظواهر الانغلاق أو انفتاح الحدود التي تسمح بتدفق الرسائل والمعلومات بين مختلف قنوات الاتصال التقليدية والبديلة في الشكل الشبكي المتداخل إذا أراد هذا الاتجاه النظري النجاة في عصر الشبكات(133).

4.3. مسارات تطوير البحوث الإعلامية

إن الإشكالات المنهجية والنظرية التي تواجه البحوث والدراسات العربية -ولربما تشكِّل عائقًا لإنجاز البحوث الإعلامية العربية في ظل البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة وتؤثر على قيمتها- تحتاج إلى إعادة النظر في بناء أسس منهجية ونظرية للجيل القادم من الباحثين للإلمام بالأصول الصحيحة لإعداد الأبحاث والرسائل. ويتضمن تطوير الإشكاليات التي تواجه البحوث العربية الإعلامية مسارين متوازيين:

أولًا: تطوير المراكز البحثية والجامعات والجهات التعليمية الحكومية

– الاهتمام بالمراكز البحثية وزيادة عددها في الجامعات العربية، لأن الأبحاث تمثِّل مصدرًا رئيسيًّا للمعلومات التي يتم استنباط نتائجها وتأثيرها على صنَّاع القرار؛ إذ تقوم مراكز الأبحاث بدور مهم في تطوير المنظومة التعليمية وسياساتها، على أن تتمتع باستقلالية تامة ومحددة الأهداف والأدوار.

– متابعة الدراسات الإعلامية الدولية وترجمة المؤلفات الحديثة، وخاصة الدراسات الاستشرافية التي تُعد من المتطلبات الرئيسية للتخطيط الاستراتيجي في الدول المتقدمة.

– إنشاء شبكة بحثية إعلامية عربية تجمع الباحثين العرب لتبادل الخبرات والمعلومات والمعرفة، والتشارك في الدراسات والأبحاث التي تهم مجتمعات هذه الدول ونشرها للإفادة منها، وتنظيم ورش العمل والمؤتمرات بدعم من حكوماتها.

– تكثيف جهود الجامعات العربية ومراكز الدراسات الرسمية والخاصة في العمل الشبكي لتبادل المعرفة، وإعداد الدراسات المشتركة بين الباحثين والدارسين التي تساعد في تطوير البحث العلمي وأدواته ومناهجه.

– تكثيف جهود الجامعات في العمل على عرض ونشر ملخصات بحوث الحلقات الدراسية، وفسح المجال للوصول إلى قاعدة البيانات في الجامعات لإتاحة الفرصة أمام الجميع للاطلاع عليها.

– الاتجاه نحو إنشاء مجلات دورية متخصصة محكمة في الإعلام والاتصال تابعة لكليات الإعلام معترف بها تتيح للباحثين نشر بحوثهم ودراستهم؛ إذ قلما توجد مثل هذه المجلات في معظم الدول العربية.

ثانيًا: تطوير تدريس مناهج البحث الإعلامي ونظريات الاتصال والإعلام

– الاتجاه نحو تطوير واستحداث المقررات الدراسية والتعليمية لطلبة الإعلام من خلال تأسيس برامج خاصة تواكب تطور الإعلام الرقمي، والذي بدأ به العديد من الجامعات العربية لاستكمال مسيرة البحث الإعلامي.

– إعادة النظر في أساليب تدريس مناهج البحث الإعلامي لطلبة البكالوريوس من خلال التركيز على الجوانب المنهجية والنظرية والميدانية والتطبيقية.

-تكثيف جهود المسؤولين في الجامعات والمعاهد لإيجاد آليات لرفع مستوى طلبة الدراسات العليا في إعداد البحوث والرسائل من خلال التوجه إلى أساليب التدريس المتعلقة بالتفكير والتفسير والتحليل والنقد والابتعاد قدر الإمكان عن التلقين، والانتقال بالتدريس من دراسة وسائط الإعلام لدراسة عملية الوساطة نفسها. ويتطلب التطوير أيضًا تعديل أساليب تدريس مساقات مناهج البحث الإعلامي ونظريات الاتصال والإعلام لطلبة الدراسات العليا بالتركيز على البرمجيات الإلكترونية والطرق والأساليب الحديثة في بحوث البيئة الرقمية، وتخصيص مساقات خاصة لتدريب الطلبة على الأساليب والتقنيات التكنولوجية الحديثة في ميدان البحوث العلمية في البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة (الشبكات الاجتماعية، صحافة البيانات، صحافة الموبايل، التطبيقات الذكية…).

– إيجاد طرق لإتاحة الدخول إلى المكتبات وقواعد البيانات الأجنبية للطلبة العرب بشكل عام، والعمل على تحسين إجادة اللغات الأجنبية والترجمة في أقسام وكليات الإعلام بشكل أفضل.

 

خلاصة

لا يمكن إنكار أن هناك قصورًا وصعوبات في إعداد البحوث الإعلامية العربية في سياق البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة كما بيَّنت محاور التحليل؛ إذ اعتمد معظم هذه البحوث مقاربات كمية ولم يتعمق في المقاربات الكيفية لتحليل البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة. ولا يمكن أيضًا إنكار أن عددًا لا يستهان به من الدراسات استعان بالأدوات الكيفية لتحليل البيئة الرقمية الجديدة، بينما اعتمدت بحوث أخرى مقاربات مشتركة كمية وكيفية. أما القصور الذي لاحظه بعض الباحثين بشأن العجز عن وضع نظريات إعلامية خاصة بالبيئة العربية، فليس له علاقة بالاستعانة بالنظريات الغربية، وإنما بالتطبيق الصحيح لهذه النظريات في البيئة العربية؛ حيث نجد عددًا من البحوث العربية التي تمكنت من تطويع النظريات الغربية والاستفادة منها في سياق البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة.

وعلى الرغم من الإشكاليات المنهجية والنظرية التي تواجه البحوث العربية، فإن هناك اتجاهًا واضحًا نحو التجديد والتطوير لدراسة وتطبيق مناهج ونظريات حديثة للبحوث المستقبلية، تتناسب مع خصوصية البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة. وفي هذا السياق، اقترحت الباحثة رؤى لتطوير البحوث العربية تمثَّلت في مقترحات لإعادة النظر في الأدوات والأساليب البحثية المستخدمة من خلال مناهج بحثية جديدة لرفع قيمة هذه البحوث، والعمل على استقراء أسس نظرية تتجاوز الاتجاهات البحثية الكلاسيكية لتأسيس تصورات أكثر تمثيلًا وانفتاحًا للتغيير والتطوير الذي يحتاج إلى تضافر الجهود لتعديل المنظومة التعليمية الحالية، من خلال إتاحة الولوج إلى قواعد البيانات الأجنبية للباحثين والدارسين وطلبة كليات الإعلام في الدول العربية، والتركيز على التدريب للوصول إلى أسس سليمة لإعداد البحوث العربية الرقمية بإطارها المنهجي والنظري.

* د. منال المزاهرة، أستاذ مشارك بقسم الصحافة والإعلام الرقمي في جامعة البترا، الأردن.

Dr. Manal Hilal AlMazahreh, Associate Professor of Journalism and Digital Media at University of Petra.