خطوات البحث العلمي وتطبيقاتها العملية في الصحافة الاستقصائية

تُقدِّم مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام في هذا العدد ملفًّا بحثيًّا خاصًّا بأعمال المؤتمر العلمي، الذي عقده مركز الجزيرة للدراسات، ومختبر الدراسات الأدبية واللسانية وعلوم الإعلام والتواصل وشعبة علوم الإعلام والتواصل بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بمدينة فاس المغربية، بعنوان “الصحافة الاستقصائية ومنهجية البحث العلمي في تغطية الحروب والنزاعات”، يومي 4 و5 ديسمبر/كانون الأول 2024. وقد انصبَّ اهتمام الباحثين في معظم الدراسات والبحوث على استقصاء أوجه العلاقة بين الصحافة الاستقصائية والمنهجية العلمية، ودراسة تأثير مناهج البحث العلمي في توجيه مسار العمل الصحفي الاستقصائي وعلمية خطواته وإثراء نتائجه، من خلال نماذج تطبيقية عربية وأجنبية، لاسيما في فترات الحروب والنزاعات، فضلًا عن دراسة بعض تجارب الصحافة الاستقصائية في مراحل الانتقال الديمقراطي والإعلامي والمهني (تونس، المغرب).

وتُبيِّن نتائج بعض البحوث والدراسات أن الصحافة الاستقصائية تعمل على “استعادة الحقيقة”، من خلال عُدَّتِها المنهجية ونوع المعرفة الحفرية التي تُقَدِّمها في تغطية الحروب والنزاعات، وذلك في غمار معركة السرد والمعلومات المُضَلِّلَة لأجهزة الدعاية والتضليل الإعلامي. كما تعمل هذه الصحافة، باعتبارها “مؤسسة من مؤسسات البحث عن الحقيقة”، على توثيق الحقائق التي تسعى جهات مختلفة إلى طمسها أو إخفائها أو تشويهها للتغطية على جرائم الحروب وانتهاكها للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني. وقد شكَّلت الحرب على غزة وانعطافها نحو الإبادة الجماعية ميدانًا للعمل الصحفي الاستقصائي الذي يُحاول استعادة الحقيقة باعتماد منهجية علمية تقوم على بناء فرضيات القصة الاستقصائية وصياغة أسئلتها، وجمع المعلومات والبيانات الضرورية، والاستعانة بمنهج علمي في مقابلة الروايات والتثبُّت منها، والتَّحقُّق من المعلومات المُضَلِّلَة والأخبار الزائفة، والرجوع للأدلة والمصادر الموثوقة، والدقة في المعالجة الإعلامية، ومراعاة السياقات المختلفة.

وتستخدم بحوث ودراسات هذا الملف مصطلح منهجية البحث بالمعنى الذي حدَّده الأكاديميان، جون وارد كريسويل (John Ward Creswell)، وجون ديفيد كريسويل (John David Creswell)، في كتابهما: “تصميم البحث: المنهج الكيفي والكمي والمختلط” (2022). ويقصدان بمفهومه خطط وإجراءات البحث التي يتَّسع نطاقها من الافتراضات العامة، وصولًا إلى المناهج التفصيلية لجمع البيانات وتحليلها وتفسيرها. وتتضمن هذه الخطط عدة قرارات، منها المنهج الذي يُسْتَخْدَم لدراسة الموضوع، وإجراءات الاستقصاء، وإستراتيجيات البحث المحددة التي يتم بها جمع البيانات وتحليلها وتفسيرها. وتُفَكِّر هذه البحوث أيضًا في المنهج، باعتباره مجموع العمليات الفكرية التي يسعى من خلالها (الباحث أو) تخصص معرفي إلى الوصول للحقائق والبرهنة عليها والتَّحقُّق منها، أي أشكال الاستدلال والتلقي التي تُمكِّن من فهم وإدراك المشكلة أو الواقعة عبر الإجابة على السؤال: كيف؟ وهو المنظور الذي وضعته السوسيولوجية الفرنسية، مادلين غراويتز (Madeleine Grawitz) في كتابها: “منهاج العلوم الاجتماعية” (2001). هذا التمييز المنهجي والمعرفي بين المصطلحات الثلاثة: منهجية البحث العلمي، والمنهج العلمي، وكذلك البحث العلمي، يبدو ناظمًا لجميع أعمال المؤتمر؛ إذ يُسْتَخْدَم كل واحد منها في سياق مخصوص، وبرؤية مخصوصة.

لذلك تُحدِّد الدراسات والبحوث علاقة الصحافة الاستقصائية بالبحث العلمي، واستلهامها للمنهج العلمي (أو المناهج العلمية التي قد يستخدمها الصحفي الاستقصائي في الإجابة عن أسئلة القصة والتَّحقُّق من فرضياتها)، وقد يستعين الصحفي المستقصي عمومًا بمنهجية البحث العلمي في عمله الاستقصائي. وترتبط هذه الخيارات المنهجية والمعرفية وإمكانية استلهامها في العمل الصحفي الاستقصائي بمستوى التكوين العلمي للصحفي المستقصي، وخبرته الشخصية في التعامل مع مصادر المعرفة. فالوعي بخطوات البحث العلمي يزيد القصة عمقًا وثراءً بحثيًّا، والمنهج العلمي يُساعد الصحفي المستقصي في تقديم القصة من منظورات مختلفة، سواء بالبحث في جذورها (البعد التاريخي)، وتتبُّع أسبابها والعوامل المؤثرة فيها (دراسة الحالة) ووصف متغيراتها ودراسة علاقاتها الارتباطية (البعد الوصفي)، ومقارنة هذه المتغيرات ودراسة أوجه التشابه والاختلاف بينها (الدراسة المقارنة)…إلخ.

وفي هذا الجزء الأول من الملف البحثي، تُحدِّد الأكاديمية وفاء أبو شقرا دورَ البحث العلمي ومناهجه وتقنياته في العمل الصحفي الاستقصائي، من خلال الإجابة على هذا السؤال المركَّب: إلى أي مدى يستلهم الصحفي الاستقصائي أسلوب الأبحاث العلمية لإعداد موضوعه الصحفي؟ وأي دورٍ لهذا الأسلوب في تعزيز قواعد الصحافة الاستقصائية وخلق تمايزها؟ وفي هذا السياق أيضًا، تبحث الدراسة التي أعدَّها الأكاديمي محمد كريم بوخصاص المقاربات المنهجية في العمل الصحفي الاستقصائي وتقاطعاتها مع المناهج العلمية، وسُبُل توظيفها لتحسين جودة التحقيقات الاستقصائية، وتقديم رؤية شاملة للأساليب المنهجية التي تُسْتَخْدَم في هذا النوع من الصحافة.

وتفحص دراسة للدكتور عزام أبو الحمام مدى إلزامية المنهجية العلمية، وخطواتها المعروفة في البحث العلمي، في مجال الصحافة الاستقصائية، وترصد أيضًا حدود التزام الأعمال الصحفية الاستقصائية التي حقَّقت نجاحًا صحفيًّا وإعلاميًّا بالمنهجية العلمية. كما تَتَتَبَّع الدراسة التي أعدَّها الباحث عبد الله سالم باخريصة الإجراءات والخطوات المنهجية التي استندت إليها عينة من التحقيقات اليمنية في بناء قصصها وصياغة إشكاليتها وفرضياتها، وتُحاول الإجابة على سؤال إشكالي محوري: إلى أيِّ حدٍّ تَتَمَثَّل هذه التحقيقات في تحليلها المضاميني، وتَتَبُّعِها للأدلة ومقارنة البراهين والحجج، منهجيةَ البحث العلمي للوصول إلى نتائج كاشفة للحقائق، وللإجابة على جميع الأسئلة التي تُثِيرها قضايا التحقيقات؟

وتسعى دراسة للباحثة مرفت الشقطمي إلى استكشاف الدور المحوري الذي تقوم به الصحافة الاستقصائية في المنطقة العربية خلال فترات الحروب والنزاعات، وفاعليتها في تغطية الانتهاكات وجرائم الحروب، وإبراز التحديات التي تواجه الصحفيين الاستقصائيين وكيفية تجاوزها بفضل التكنولوجيا الحديثة. ويتقصَّى الباحث، أحمد رضوان، التحديات التي واجهها الصحفيون الفلسطينيون خلال تغطية الحرب الإسرائيلية على غزة (2023-2024)، ويبحث المنهجيةَ التي اعتمدها الصحفيون في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي لمتابعة تطورات الأحداث، والتَّحقُّق من دقة الأخبار وصدقيتها في ظل التدفق الهائل للمعلومات وانتشار الأخبار المُضَلِّلَة، ويرصد أيضًا فاعلية هذه المنصات في إثراء محتوى الصحافة الاستقصائية.

وتبحث الدراسة التي أعدَّتها الأكاديمية، فاطمة الزهراء السيد، التحديات التقنية والمهنية والقانونية والأمنية والصحية التي يُثيرها استخدام الذكاء الاصطناعي في إنجاز العمل الصحفي الاستقصائي بمراحله المختلفة. وتُقارِب القضايا الإشكالية التي تطرح السؤال حول إعادة صياغة الدور المنوط بالعامل البشري في العمل الاستقصائي، واعتماد أنماط جديدة من الصحافة التعاونية التي تستند إلى التكامل بين جهود خبراء التقنية وخبرات الصحفيين في التخصصات المختلفة. وترصد دراسة للباحثة صبرين المطماطي تمثُّلات الصحفيين الاستقصائيين التونسيين لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتوظيفها في مراحل الإنتاج الصحفي الاستقصائي عبر دراسة استخداماتها التحريرية والتقنية في الممارسة الإعلامية اليومية وخلال الحروب والنزاعات. وتستشرف الدراسة مستقبل الصحافة الاستقصائية في تونس، في ظل التطورات التقنية المتسارعة وتأثيرها على وظيفة الصحفي الاستقصائي والمنظومة الأخلاقية.

وتهدف دراسة الأكاديمي الصادق الحمامي إلى فهم تجربة الصحافة الاستقصائية في تونس من خلال منهجية مخصوصة تعتمد على مدخلين: يهتم المدخل الأول بدراسة السياقات المؤثرة في تَشَكُّل هذه التجربة، وهي الانتقال السياسي والانتقال الإعلامي والانتقال المهني. ويُركِّز المدخل الثاني على الفاعلين في الصحافة الاستقصائية، وهم الصحفيون، والمؤسسات الصحفية، والمنظمات الدولية، كذلك الدولة. وتبحث دراسة الأكاديمي عمر احرشان إشكالية العلاقة بين الصحافة الاستقصائية وتبنِّي الخيار الديمقراطي في الحالة المغربية من خلال رصد البيئة القانونية والمؤسساتية والسياسية والمهنية التي ميَّزت ظهور وانتشار وتراجع الصحافة الاستقصائية بالمغرب. وتتقصَّى أيضًا تأثير الانفتاح السياسي والحقوقي، الذي شهده المغرب منذ تسعينات القرن الماضي، في العلاقة بين المتغيرين ودينامية تفاعلهما. وتهتم دراسة الدكتور سليمان صالح ببحث أخلاقيات الإعلام التي تُمكِّن من تطوير جودة المضمون الذي تُقدِّمه وسائل الإعلام عبر أشكالها الصحافية المختلفة، خاصة الصحافة الاستقصائية، في ظل الحروب والنزاعات التي تزيد حاجة المجتمعات إلى صحافة تكشف الانتهاكات، وتُوثِّق جرائم الحروب والجرائم ضد الإنسانية.

وفي نافذة دراسات وأبحاث، يقوم الدكتور عبد الحكيم أحمين باستقصاء الأدوار التي اضطلعت بها النخبة العربية، خلال الحرب الإسرائيلية على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ويرصد، في استطلاع للرأي، المبادرات التي سارعت إليها هذه الفئة المجتمعية في سياق مواجهة جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. ويُحدِّد أولويات النخبة، والرؤى التي تُؤَطِّر مبادراتها ونشاطها الفكري، وعلاقاتها بمحيطها السياسي والاجتماعي المحلي والدولي. وتُقَارِب دراسة للباحثة وضحة حسن السويدي سؤالًا محوريًّا عن دور التغطية الإعلامية للحرب الإسرائيلية على غزة من المنظور الإخباري لموقعي “الجزيرة نت” و”بي بي سي عربي”. وتُحلِّل سمات المضمون وأُطُر المعالجة الإعلامية لسيرورة الحرب وتداعياتها، خلال الفترة الممتدة من 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 19 يناير/كانون الثاني 2025.

وفي زاوية “المعجم الإعلامي الحديث”، يُشارك الدكتور غسان مراد بمادة علمية مساهِمًا في بناء لبنات هذا المعجم الذي يمثِّل إسهامًا معرفيًّا لمركز الجزيرة للدراسات في صناعة معجمية تحقق التراكم المعرفي الإعلامي. وتزداد أهمية هذا المشروع باعتبار هذه الصناعة وسيطًا علميًّا يُوثِّق الصلة بمجال اشتغاله، ويُكْسِب المتلقي وعيًا عميقًا بالكيفية التي يُعَبِّر بها النسق المعجمي عن صيرورة الظواهر والقضايا الإعلامية التي يُعالجها من خلال البحث في أصول الكلمات وتَشَكُّل المصطلحات وبلورة المفاهيم واستقصاء تطورها التاريخي.

ويُقدِّم الدكتور محمود محمد الحرثاني والباحثة شيماء محمد شهاب، في قراءتهما لكتاب: الوثاق الرقمي المزدوج: التغيير والركود في الشرق الأوسط”، مقاربةً سياقيةً تَتَتَبَّع دلالة المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها المُؤَلِّفَان، الدكتور محمد زياني والدكتور جو خليل، في دراستهما لواقع التحوُّل الرقمي في العالم العربي من منظور نقدي مُتعدِّد التخصصات. ويرى الحرثاني وشهاب أن الكتاب مرجع مهم لفهم التحوُّل الرقمي في الوطن العربي؛ حيث يُناقش قضايا، مثل السيادة الرقمية والحاجة إلى تفكيك الهيمنة المعرفية الغربية في دراسة هذا التحوُّل. وهو أيضًا دعوة لإعادة التفكير في الكيفية التي يمكن من خلالها للمنطقة أن تُوظِّف التقنيات الرقمية دون أن تقع في فخِّ التناقضات التي تحدُّ من أثرها التنموي.

وفي نافذة الرسائل الجامعية تبحث أطروحة الباحث حمدان علي البادي، بعنوان “الإذاعات العمانية والميديا الرقمية في السياق العماني”، في العلاقة بين الميديا الرقمية والإذاعات العمانية من حيث الإنتاج والتوزيع والإمكانيات التي توفرها البيئة الرقمية لتعزيز العمل الإذاعي عبر الإنترنت، والاستثمار في إذاعات الإنترنت التي تُعد مستقبل الميديا التي تأخذ حيزًا من اهتمام المستخدمين لسهولة الوصول إليها، وما تتميز به من سرعة في التعاطي مع الأحداث وإمكانية مشاركة المستخدمين وتفاعلهم مع برامجهم المفضلة. وتبحث الباحثة إيناس كاظم مطلك دور صحافة المواطن وأهميتها في إثراء محتوى المواقع الإخبارية، وتركز على منصة “مدونات” في موقع “الجزيرة نت”، الذي يولي أهمية كبيرة لمشاركة المواطنين في صناعة المحتوى الإخباري؛ مما يجعله حالة دراسية نموذجية لفهم أهمية دور صحافة المواطن في المحتوى الإعلامي الرقمي. وتُقارِب الدراسة هذه الحالة من خلال الإجابة على هذا السؤال المحوري: ما دور صحافة المواطن (مدونات الجزيرة) في إثراء محتوى “الجزيرة نت”؟