حنان المليتي – Hanen Melliti *

فتيحة زماموش – ** Fatiha Zemmamouche

ملخص:

تُحلِّل الدراسة بنية الخطابات الإعلامية في المواقع الإخبارية الدولية الناطقة بالعربية، التي اهتمت بموضوع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في مايو/أيار 2021، وذلك للكشف عن الإستراتيجيات التحريرية وأساليب الإقناع في مضامين المادة الإعلامية. ويتكون المجتمع البحثي للدراسة من “فرانس 24″ و”روسيا اليوم” و”سكاي نيوز عربية” و”الجزيرة نت”، وبلغ مجموع مفردات العينة القصدية 451 مادة إعلامية. وتُصنَّف هذه الدراسة ضمن البحوث الوصفية التحليلية التي اعتمدت المنهج المسحي إضافة إلى أداة تحليل المضمون في تفكيك بنية الخطابات الإعلامية للعينة المدروسة. واستندت أيضًا في بنائها النظري إلى نظرية الأطر الخبرية في تحليل أُطُر المعالجة الإعلامية للمواضيع المتعلقة بالحدث خلال فترة الحرب. وتوصلت الدراسة إلى أن المواقع الإخبارية التي تمثِّل المجتمع البحثي اعتمدت خطابًا إعلاميًّا يتواءم، أولًا، مع سياستها التحريرية، وثانيًا: ينسجم مع الموقف العام للدول التي تحتضن تلك المواقع الإخبارية، وثالثًا: يعكس اختيارات السياسة الخارجية للدول المعنية تجاه القضية الفلسطينية والحرب الإسرائيلية على غزة.

كلمات مفتاحية: تغطية إعلامية، مواقع إخبارية، أطر خبرية، إستراتيجيات إعلامية، الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

Abstract:

This study analyses the structure of media discourses in Arabic-language international news websites that covered the Israeli war on Gaza in May 2021, in order to uncover the editorial strategies and persuasive techniques in media content. The research community for this study consists of France24, Russia Today, Sky News Arabia, and Al Jazeera Net, with a total of 451 media articles in the purposive sample. The study is classified as descriptive-analytical research, employing the survey method in addition to the content analysis tool to dissect the structure of media discourses in the studied sample. The theoretical framework of the study is based on the framing theory in analysing the media frames regarding the topics related to the event during the period of the war. Ultimately, the study finds that the news websites representing the research community adopted a media discourse that aligned with their editorial policy as well as the general stance of the countries hosting them, and reflected the foreign policy choices of countries concerned with the Palestinian cause and the Israeli war on Gaza.

Keywords: Media Coverage, News Websites, News Framing, Media Strategies, Palestinian-Israeli Conflict.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

شكَّلت القضية الفلسطينية مركز اهتمام وسائل الإعلام الدولي عمومًا والعربي خصوصًا؛ إذ منذ بدء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ظل الإعلام بوسائله المختلفة يتتبَّع مسارات القضية وتطوراتها، لاسيما الحروب التي شنَّتها إسرائيل على قطاع غزة في العقد الأخير، والاعتداءات والانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية.

وكانت الحرب التي أسمتها إسرائيل بـ”حارس الأسوار” (مايو/أيار 2021)، أو معركة “سيف القدس” كما أسمتها حركة المقاومة الفلسطينية، فصلًا بارزًا في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وقد اندلعت الحرب على إثر اقتحامات المستوطنين باحات المسجد الأقصى، وتسارع المخططات الإسرائيلية لترحيل سكان حي “الشيخ جراح” في البلدة القديمة بالقدس.

في ظل الظروف التي خلقتها الحرب، تزايد الاهتمام بتغطية القضية الفلسطينية في وسائل الإعلام العربية والدولية. وبرز الإعلام مصدرًا أساسيًّا لرصد تطورات ساحات المعركة؛ إذ اهتمت وسائل الإعلام الدولية، خاصة المواقع الإخبارية الناطقة باللغة العربية، بمتابعة سياقاتها وأهدافها وأبعادها، كما تعددت زوايا المعالجة الإعلامية لتلك الأحداث وتداعياتها.

وفي هذا السياق، تحاول الدراسة تحليل الموضوعات والقضايا التي ركزت عليها عينة البحث في تغطية الأحداث خلال فترة الحرب بين 10 و21 مايو/أيار 2021، ومقاربة الأطر الخبرية التي كانت تُقدَّم من خلالها مسارات الصراع وأبعاده، وإبراز الإستراتيجيات التحريرية التي اعتمدت عليها التغطية، فضلًا عن تحديد أوجه الاتفاق والاختلاف بين عناصر العينة في معالجتها لموضوع الدراسة.

  1. الإطار المنهجي والنظري للدراسة

مشكلة الدراسة وتساؤلاتها

برزت المواقع الإخبارية بشكل جلي في تغطية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بوصفها فاعلًا مهمًّا في نقل الأخبار ومتابعة تطورات الحرب التي شنَّتها إسرائيل على قطاع غزة، في مايو/أيار 2021؛ إذ تتمتع بتأثير في تكوين التمثلات حول الأحداث وبناء دلالاتها للتحكم في طبيعة تحرك الرأي العام إزاءها. وتقوم وسائل الإعلام عمومًا بـ”تجديد سياق الحدث داخل نظام من التفكير سابق الوجود بهدف توجيه ذهن المتلقي إلى سياق موحد يُفهم من خلاله هذا الحدث، ويكوِّن رأيًا حوله. والسياق هو الذي يمنح المعنى للحدث، ويوفر المحددات المعرفية المحفزة للموقف والرأي والسلوك”(1).  

وهنا، تركز الدراسة على رصد وتحليل الأطر الخبرية في تغطية المواقع الإخبارية التي تمثِّل المجتمع البحثي، وهي: “فرانس 24″، و”روسيا اليوم”، و”سكاي نيوز عربية”، و”الجزيرة نت”، لمسارات الحرب وتطوراتها، وملامح الإستراتيجيات التحريرية والمقارنة بينها. ومن هذا المنطلق، يبرز السؤال الإشكالي للدراسة: كيف تناولت المواقع الإخبارية الدولية الناطقة بالعربية، والممثلة لعينة البحث، الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في مايو/أيار 2021؟

ويرتبط بهذا السؤال الإشكالي سؤالان ثانويان حول الكيفية التي تناولت بها عينة البحث الحرب على غزة، وهما:

– ما الإستراتيجيات التحريرية التي استخدمتها عينة البحث في التغطية الإخبارية لحدث الحرب الإسرائيلية على غزة في مايو/أيار2021؟

– ما أساليب الإقناع التي وظفتها عينة الدراسة في التغطية الإخبارية لحدث الحرب الإسرائيلية على غزة، في مايو/أيار2021؟

أهداف الدراسة

تهدف الدراسة إلى استكشاف الإستراتيجيات التحريرية التي استخدمتها عينة الدراسة للحرب على غزة، في مايو/أيار 2021، والعوامل التي تؤثر فيها، وذلك عن طريق تحديد أبرز المواضيع التي تناولتها التغطية، والفاعلين الأساسيين وأدوارهم في مسارات الأحداث. كما تهدف الدراسة إلى إبراز أهم اتجاهات مضامين المعالجة الإعلامية لمسار الحرب، والتعرف على الخلفيات التي تستند إليها عينة الدراسة في إنتاج خطاباتها الإعلامية حول الحرب، ورصد استمالات التغطية وأساليب الإقناع التي تستخدمها.

مجتمع الدراسة وعينته

يتكون المجتمع البحثي من المواقع الإخبارية الدولية الناطقة باللغة العربية؛ وتمَّ انتقاء أربعة مواقع، هي:

– فرانس 24: موقع إخباري شامل تابع لشبكة “فرانس 24”. ظهر على شبكة الإنترنت في العام 2007 عقب إطلاق القناة التليفزيونية بالفرنسية والإنجليزية (فرانس 24) في 2006 المدعومة من قبل الحكومة الفرنسية. وهو موقع موجه للجاليات العربية في العالم(2).

– روسيا اليوم: موقع إخباري تابع للقناة الفضائية الروسية يبث الأخبار الشاملة باللغة العربية منذ 2007. يتوجه الموقع للجمهور العربي عبر العالم، ويحمل شعار “اسأل أكثر” وذلك لزيادة قدرة الجمهور على الوصول إلى الأخبار(3).

– الجزيرة نت: تأسس الموقع الإخباري في 2001، بالعاصمة القطرية، الدوحة، ويقدم خدمة إخبارية متنوعة تتضمن الأخبار والتغطيات الخاصة والتفاعلات الحية والبث الحي للقناة تحت شعار “الرأي والرأي الآخر” قصد تمكين الجمهور من المتابعة التفاعلية للأخبار والبرامج التي تقدمها قناة الجزيرة وتحليلها على شبكة الإنترنت(4).

سكاي نيوز عربية: موقع إخباري تابع لمؤسسة إخبارية شاملة للسمعي البصري ومقرها أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة، تأسس عام 2012 في إطار شراكة بين الشركة الدولية للاستثمارات الإعلامية وشركة سكاي البريطانية(5).

ويرجع اختيار هذه المواقع الإخبارية إلى اختلاف توجهاتها وسياساتها التحريرية، فضلًا عن اختلاف الجمهور المتلقي لما تنشره من محتوى، وهو ما يسمح بالتعرف على الإستراتيجيات التحريرية والأطر الإعلامية للتغطية. وفي ضوء ذلك، تعتمد الدراسة عينة قصدية تتكون من المقالات المنشورة بالمواقع الإخبارية عن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي خلال فترة الحرب بين 10 و21 مايو/أيار 2021.

جدول (1): مقالات عينة الدراسة في “فرانس 24″ و”روسيا اليوم” و”سكاي نيوز”

و”الجزيرة نت” خلال الحرب على غزة في مايو/أيار 2021 

م المواقع الإخبارية الملف المعتمد في صفحات المواقع الإخبارية عدد المقالات
1 فرانس 24 أرشيف الشرق الأوسط، ملف النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني 103
2 روسيا اليوم أخبار العالم العربي 190
3 سكاي نيوز عربية ملف الشرق الأوسط، أخبار فلسطين 233
4 الجزيرة نت ملف فلسطين 255
المجموع 781

ويوضح الرسم البياني رقم (1) تطور نسق عملية النشر للمقالات يوميًّا طوال فترة البحث في المواقع الإخبارية التي تمثِّل عينة الدراسة.

شكل (1): سيرورة النشر اليومي للمقالات عن الحرب على غزة في عينة الدراسة

ونظرًا للعدد المرتفع للمقالات المنشورة خلال فترة الحرب، وقع الاختيار على تحليل عشر مقالات يوميًّا من بداية الحرب إلى نهايتها، وبذلك بلغ مجموع مقالات عينة الدراسة 451 مادة إعلامية.

جدول (2): توزيع عدد مقالات عينة الدراسة

م المواقع الإخبارية مقالات مدونة التحليل
1 فرانس 24 91*
2 روسيا اليوم 120
3 سكاي نيوز عربية 120
4 الجزيرة نت 120
المجموع 451

* ملاحظة: مقالات فرانس 24 لم تصل حد 10 مقالات في عدد من أيام الحرب لذلك بلغ مجموعها 91 مقالًا.

منهج الدراسة

تندرج الدراسة ضمن البحوث الوصفية التحليلية التي تهدف إلى تجاوز وصف المحتوى الظاهر للمادة الإعلامية والتركيز على استجلاء معانيها المضمرة. واعتمدت المنهج المسحي لجمع البيانات والمعلومات، وأداة تحليل المضمون لفهم وتحليل وتفسير تغطية هذه المواقع الإخبارية للحرب على غزة. وهنا، تستخدم الدراسة التحليل الكمي القائم على تفسير البيانات تفسيرًا كميًّا بحساب درجة تكرارها، والتحليل الكيفي الذي يسمح بدراسة المعطيات الكمية ومقاربة أبعادها لاستخلاص النتائج؛ إذ يعد التحليل الكيفي أساسًا لدراسات تحليل الأطر الخبرية، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبحوث التي تجرى في إطار تفسيري وتعنى بمسألة إنتاج المعنى وبنائه(6). واعتمدت الدراسة أيضًا المنهج المقارن لتحديد الخصائص والصفات المشتركة أو المتباينة للمضامين الإعلامية في عينة الدراسة، ورصد أوجه الشبه والاختلاف بين الأطر الخبرية المستخدمة من قِبَل المواقع الإخبارية في معالجتها لموضوع الحرب على غزة.

المدخل النظري

تستند الدراسة إلى نظرية تحليل الأطر الخبرية (News Framing Analysis) التي “تسمح بقياس المحتوى الضمني للرسائل الإعلامية التي تعكسها وسائل الإعلام، وتُقدِّم تفسيرًا منتظمًا لدور وسائل الإعلام في تشكيل الأفكار والاتجاهات حيال القضايا البارزة، وعلاقة ذلك باستجابات الجمهور المعرفية والوجدانية لتلك القضايا”(7). ويعرف روبرت إنتمان (Robert Entman) الإطار بتحديد جوانب معينة من الحدث أو القضية وجعلها أكثر بروزًا في النص الإعلامي. لذلك فإن مهمة وسائل الإعلام تتلخص في ما يسمى بـ”قولبة” الأحداث وبناء “رأس مال رمزي” من التمثلات والصور الذهنية في أطر تفكير الأفراد، ثم توجيه سلوكهم وتصرفاتهم في النهاية(8).

ويساعد نموذج إنتمان في التعرف على الأطر الخبرية التي وُظِّفت في المواد الإعلامية، فضلًا عن تحديد القوى الفاعلة فيها والحلول التي يقترحها للقضايا. أما النموذج الثاني فيعود إلى زهونغدانغ بان (Zhongdang Pan) وجيرالد كوزيكي (Gerald Kosicki)، ويبحث في الإستراتيجيات التحريرية لبناء الحدث الإخباري ومصادره، والأفكار الرئيسية في تغطيته، والاستنتاجات الضمنية. ويبحث النموذج الثالث لماكسويل ماكومبس (Maxwell Mc Combs) ودونالد شو (Donald Shaw) في تحديد السمات الموضوعية والسمات العاطفية في تغطية الحدث، وكذلك كيفية تناول الأطراف والشخصيات الواردة ضمن سياق القضية، سواء كان ذلك بصورة إيجابية أو سلبية(9). وتُعد هذه النماذج التحليلية الأنسب والأكثر شمولًا لمعرفة الأطر والإستراتيجيات التحريرية المستخدمة في تغطية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في عينة الدراسة من جوانب متعددة.

الإطار المفاهيمي للدراسة

يتناول هذا الجزء أهم المصطلحات التي تستخدمها الدراسة، وهي: التغطية الإعلامية، والإعلام الدولي، إضافة إلى مفاهيم الإستراتيجيات الإعلامية وأساليب الإقناع.

التغطية الإعلامية

تُعد التغطية الإعلامية عملية بحثية تتناول تفاصيل الخبر وتواكبه بصفة فعلية، وهي عملية الحصول على المعلومات والبيانات حول حدث معين والتفاصيل المتصلة به، بما يسمح للجمهور بمعرفة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء وقوع هذا الحدث، وتناول أهم الشخصيات المشاركة فيه(10). وتُعرَّف التغطية الإعلامية أيضًا بتمثيل الحدث وتحويله إلى صورة ذهنية عبر مجموعة من الرموز. ويحظى موقع الوسيلة الإعلامية من النظام الاجتماعي القائم ومدى ارتباطها بمصالح معينة (نمط الملكية وأساليب السيطرة، والنظم الإدارية وضغوط الإنتاج، والمنافسة من مؤسسات أخرى) بدور مهم وملموس في شكل المضمون المقدم للجمهور(11).

الإعلام الدولي

تتنزَّل المواقع الإخبارية في إطار الإعلام الدولي الذي يُعرِّفه عدد من أساتذة وخبراء الإعلام والرأي العام بالإعلام الموجه الذي يخترق الحدود الدولية ليصل إلى الجمهور الخارجي في منطقة جغرافية مستهدفة لتحقيق أحد أمرين: الأول: تعريف شعوب العالم بالواقع الثقافي والفكري والحضاري للدولة، وتفسير وجهات نظرها السياسية بشأن المشكلات والقضايا الدولية والإقليمية والمحلية ومساندة سياستها الخارجية، والثاني: خدمة إخبارية وثقافية غير دعائية تسعى لتزويد الرأي العام الدولي أو الإقليمي بالأخبار والمعلومات الصادقة المتعلقة بالقضايا التي تشغل فكره وتثير اهتمامه(12).

ويعتبر الإعلام الدولي وسيلة مهمة من وسائل السياسة الخارجية ومن أهم سماته وخصائصه التركيز على جماعات التأثير في النظم السياسية المختلفة، ومن ثم فـ”هو يعمل بشكل مقصود وليس بشكل ارتجالي أو عفوي. كما أن دور الإعلام الدولي يبرز أثناء الحروب والأزمات؛ حيث يسعى إلى تعبئة الكراهية ضد العدو والحفاظ على صداقة الصديق والحصول على تعاون المحايدين وتحطيم الروح المعنوية لجمهور الدولة المعادية”(13).

وقد أضفى انفجار المعلومات وثورة الاتصال طابعًا دوليًّا على كافة وسائل الإعلام الجماهيرية، فأضحى من الصعوبة بمكان التمييز بين ما هو إعلام وطني وإعلام دولي. فقد أصبح للإعلام الوطني، بشكل من الأشكال وبصفة مقصودة أو غير مقصودة، بعد دولي. وهو ما يشير إليه عدد من المحطات الأميركية والأوروبية وحتى العربية؛ إذ أصبحت تشاهد عبر الأقمار الصناعية في أنحاء متفرقة من العالم واكتسبت بذلك بعدًا دوليًّا لم تكن تسعى إليه في الأصل(14).

إجرائيًّا، تعتمد الدراسة مفهوم الإعلام الدولي الذي يمثِّل إعلامًا موجهًا للجمهور الخارجي لتفسير وجهة نظر الجهة المالكة له بشأن القضايا والمشكلات الإقليمية والدولية ومساندة سياستها الخارجية.

المواقع الإخبارية

يُقصد بها المواقع الإخبارية التابعة لشبكات إعلامية دولية ناطقة باللغة العربية، التي توجه محتواها الإعلامي للعالم العربي باللغة العربية، وذلك حسب ما تخططه الدول ضمن سياستها التحريرية الإعلامية؛ إذ يصل صوتها وفق سياسة إعلامية تخطط لأهدافها وليس بشكل عادي وعفوي للتأثير في الجمهور العربي لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية(15). ولأهداف الدراسة، يمكن تعريف المواقع الإخبارية الدولية الناطقة بالعربية إجرائيًّا بأنها تلك المواقع التي تنشر موادها الإخبارية وخدماتها الإعلامية الموجهة للعرب مع اختلاف ملكيتها سواء كانت دولًا عربية وأجنبية، من خلال الاعتماد على مراسلين وإعلاميين عرب أو يتقنون اللغة العربية بهدف تحقيق مصلحة معينة(16).

الإستراتيجيات التحريرية

تُعرَّف الإستراتيجيات بالإطار العام الذي ينظم جميع السياسات في شتى المجالات، ويرى فريق من الباحثين أن الإستراتيجيات التحريرية أو السياسات التحريرية تمثِّل مجموعة المبادئ والمعايير والقواعد والأسس أو الخطوط العريضة والتوجهات والأساليب التي توضع لتوجيه نظام الاتصال في بلد ما، وهي عادة بعيدة المدى وتتناول الأمور الأساسية وتنبع من الأيديولوجية السياسية والظروف الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع والقيم الشائعة فيه(17). وتعتبر أيضًا “المبادئ والمعايير التي تحكم نشاط الدولة تجاه تنظيم ورقابة وتقييم ومواءمة نظم وأشكال الاتصال المختلفة، وخصوصًا منها وسائل الاتصال الجماهيري من أجل تحقيق أفضل النتائج الاجتماعية الممكنة في إطار النموذج السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تأخذ به الدولة”(18).

كما تُعرَّف الإستراتيجيات التحريرية بـ”مجموعة المبادئ والقواعد والخطوط العريضة التي تتحكَّم في الأسلوب أو الطريقة التي يُقدَّم بها المضمون الصحفي، وفي الغالب تكون غير مكتوبة، بل مفهومة ضمنًا من جانب أفراد الجهاز التحريري، وتظهر في سلوكهم وممارستهم للعمل اليومي، وهي تخضع لقدر من المرونة تختلف درجتها من جهة الى أخرى”(19). ولذلك تمثِّل “جملة الضوابط والمحددات التي تنظم إدارة محتوى الرسالة الإعلامية للمؤسسة؛ إذ تعكس رؤيتها، وتسير نحو الأهداف التي حددتها لنفسها”(20).

إجرائيًّا، تعرِّف الدراسة الإستراتيجيات التحريرية بالمبادئ والقواعد والتوجهات التي تتحكم في سلوك المواقع الإخبارية من حيث طريقة تقديمها للمضمون الإعلامي وفقًا لأهدافها المرسومة سلفًا، والتي عادة ما تتنزَّل في إطار شروط الأيديولوجيا السياسية حسب ملكية الوسيلة الإعلامية والقيم والمعايير التي ترتكز إليها في البلد المعني.

أساليب الإقناع

يمكن اعتبار أساليب الإقناع في الخطاب، أو الرسالة الإعلامية بصفة عامة، أحد أنواع التأثير الاجتماعي لوسائل الإعلام التي تستهدف من خلال خطاب تنظيمي إحداث تغيير في الغير تجاه تبنِّي أفكار ورؤى واتجاهات أو سلوكيات معينة بأساليب عقلانية ومنطقية لتغييرها كليًّا أو جزئيًّا من خلال عرض الحقائق بأدلة مقبولة وقوية وواضحة(21). وهي أيضًا “عملية اتصالية تراكمية تعتمد على جهود متتالية تستهدف استمالة العقل أو العاطفة أو كليهما معًا لدى الفرد المستهدف بطريقة مباشرة لتحقيق أهداف القائم بعملية الاتصال في تعامله مع الجمهور(22).

إجرائيًّا، تُعرِّف الدراسة الأساليب الإقناعية بالطرق التي تحمل المتلقي على الاعتقاد بالرأي، والتي تُستثمر في التأثير وإقناع مستخدم المواقع الإخبارية الدولية بالفكرة المراد الوصول إليها أو تحقيق هدف أو أهداف تسعى إليها هذه الوسائل الإعلامية من خلال عدد من الأساليب والاستمالات منها الحجاجية والعقلية وأخرى عاطفية وغيرها.

سيركز تحليل المضامين الإعلامية لعينة الدراسة على عنصرين أساسيين: أولهما: الأساليب التحريرية للمواقع الإخبارية باعتبارها محددات كبرى تتحكم في طريقة تقديم المحتوى لكل موقع إخباري، وذلك من حيث انتقاء المواضيع ومعالجة زواياها واتجاهات تناولها، وكيفية التعاطي مع الفاعلين في الحرب، ثم طرق تمثيل الأحداث وترتيبها وإبرازها فيما يُسمَّى بعملية التأطير الإعلامي. أما العنصر الثاني للتحليل فهو الأساليب الإقناعية التي تستخدمها هذه المواقع للتأثير في المتلقي بشأن الرواية الإخبارية التي تقدِّمها وذلك باستخدام أساليب حجاجية أو استمالات متنوعة منها العقلية والعاطفية أو تلك التي تعتمد على الترهيب أو التخويف وغيرها.

  1. نتائج الدراسة التحليلية

أ- الإستراتيجيات التحريرية في تغطية الحرب على غزة

تركز الدراسة في هذا المستوى التحليلي على جملة من العناصر ضمن الإستراتيجيات التحريرية، والتي تشمل اختيار مواضيع التغطية وزواياها المختلفة، وتحديد اتجاهات المعالجة الإخبارية، والبحث في كيفية تعاطي المواقع الإخبارية مع الفاعلين الأساسيين في الحرب والأطراف ذات العلاقة بالأحداث، وانتقاء المعلومات وترتيبها وتمثُّلها في سياق التغطية.

مواضيع التغطية الإخبارية للحرب

تركز التغطية الإعلامية لأي حدث على موضوعات وقضايا مختلفة، وقد توزعت المقالات التي سلطت الضوء على حدث الحرب على المجالات العسكرية (الأمنية) والسياسية والاجتماعية الإنسانية والثقافية والدينية والاقتصادية، بدرجات متفاوتة كما يتضح ذلك من خلال المعطيات الإحصائية في الجدول رقم (3).

جدول (3): توزيع نسب مواضيع التغطية للحرب على غزة في عينة الدراسة

 

م

طبيعة

المواضيع

فرانس 24 روسيا اليوم سكاي نيوز عربية الجزيرة نت
ك % ك % ك % ك %
1 عسكري/أمني 84 92.30 82 68.3 94 78.33 89 74.7
2 سياسي 82 90.10 89 71.7 102 85 97 80.8
3 اجتماعي 54 59.34 12 10 49 40.83 24 20
4 ثقافي 20 21.97 7 5.83 16 13.33 51 12.5
5 ديني 8 08.79 3 2.5 4 3.33 7 5.8
6 اقتصادي 9 9.89 3 2.5 12 10 15 12.5

 

تشير بيانات الجدول رقم (3) إلى اهتمام “فرانس 24” بالموضوعات العسكرية (الأمنية) والسياسية؛ إذ ركزت تغطية الموقع الإخباري على متابعة الاشتباكات بين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية، في العاشر من مايو/أيار 2021، في باحات المسجد الأقصى إثر مرابطة مئات الفلسطينيين داخله في آخر أيام شهر رمضان من أجل منع دخول المستوطنين للاحتفال بما يعرف بـ”يوم توحيد القدس”، الذي يتزامن مع احتلال الشطر الشرقي من القدس عام 1967، ما أدى إلى مواجهات عنيفة بين الطرفين. وقد دفع ذلك “كتائب القسام” (الجناح العسكري لحركة حماس) إلى توجيه صواريخها نحو إسرائيل، وتطورت الأمور إلى مواجهات عسكرية أدت إلى مئات القتلى -مثلما ذكر الموقع- في صفوف المقاتلين والنساء والأطفال والشيوخ في الجانب الفلسطيني، و12 قتيلًا من الجانب الإسرائيلي. واحتلت المواضيع الاجتماعية المركز الثالث في مساحة التغطية الإعلامية؛ إذ فاقت المقالات المنشورة في الموقع الإخباري 59.34% وركزت بالخصوص على تدهور الأوضاع المعيشية وسوء الظروف الإنسانية في ظل العنف المتزايد و”الغارات المتواصلة” في قطاع غزة.

بينما حضر الجانب الثقافي في تغطية الحرب بنسبة بلغت 21.97%، وتوجهت بالأساس إلى التعريف بخلفيات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وتداعياته عبر مختلف المحطات الزمنية، إضافة إلى التعريف بأماكن الصراع (القدس الشرقية، أحياء عرب إسرائيل، حي الشيخ جراح، غزة) عن طريق إضاءات تاريخية تحيط المتلقي بسياق الحرب من أجل تفسير الواقع وتعريف الجمهور بالقضية وفهم ملابساتها وتطوراتها.

ووردت المواضيع الاقتصادية والدينية في أقل من عشر مقالات لكل واحد منهما، وركزت على الكلفة الاقتصادية للحرب على غزة بسبب تدمير البنية التحتية، واهتمت بالمساعدات الاقتصادية الدولية إثر الدمار الذي لحق بالبنية التحتية وبموارد عيش الفلسطينيين في المدن والأحياء التي استهدفتها الغارات الإسرائيلية. وفي الجانب الديني، تناولت التغطية الأماكن المقدسة وضرورة احترامها في القدس المحتلة، وكذلك الصراع الديني حول أحقية امتلاك المسجد الأقصى كمكان مقدس.

وأظهرت النتائج، في تغطية الحرب بموقع “روسيا اليوم”، تصدر المواضيع العسكرية/الأمنية والسياسية المراتب الأولى بنسبة 68.3% و71.7% على التوالي، ويشكِّل ذلك محددًا من محددات السياسة الإعلامية للموقع الإخباري الروسي، الذي سلط الضوء على الأحداث وتطوراتها وعنونها “لحظة بلحظة” لإبراز تطورات المواجهة بين “سيف القدس” و”حارس الأسوار” والكشف عما يحدث من تصعيد عسكري/أمني يومي.

أما المواضيع الاجتماعية فاحتلت المرتبة الثالثة بنسبة 10%؛ إذ اهتم الموقع بكل ما له علاقة بالواقع الإنساني للفلسطينيين والمدنيين، ولفت أنظار العالم نحو ما يواجهه الفرد الأعزل في هذا الصراع، خاصة ما يتعلق بإغاثة الجرحى وضعف الخدمات الصحية وانهيارها بسبب الحرب. كما تابع الموقع الإخباري سبب هذا الاحتقان؛ إذ ترى القيادة الروسية أن “منشأه الظلم وغياب العدالة وظروف الاضطهاد العرقي التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، وسياسة التوسع الاستيطانية”. أما اقتصاديًّا، فتناول الموقع مسألة آثار الحرب وانهيار البنية التحتية في قطاع غزة؛ إذ بلغت نسبة تغطية هذا الموضوع 2.5%، وركزت على أهمية ضمان أمن المدنيين وسلامتهم، وإيقاف أعمال العنف.

وتناول الموقع الإخباري الأبعاد التاريخية للصراع الديني القائم في “الأراضي المقدسة”، ويرى أن القضية الفلسطينية تُعد “المعادلة الجوهرية والأكثر أهمية في المنطقة”، كما رصد “تضامن القيادة الروسية مع سكان القدس الشرقية ودفاعهم عن مقدساتهم”. ويلاحظ تركيز الموقع على التصريحات الرسمية لمختلف أطراف النزاع والأطراف الخارجية المساهمة في تخفيف تداعيات العدوان وإيقافه.

احتلت المواضيع السياسية والعسكرية/الأمنية، في تغطية “سكاي نيوز عربية” للحرب، المراتب الأولى بنسبة 85% و78.33% على التوالي، وكان التركيز على الدور المصري وتحركاته في الضغط على الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، للتوصل إلى وقف لإطلاق النار والعودة إلى طاولة المفاوضات. كما اهتمت التغطية بالدور العربي وأساسًا الأردني والسعودي والإماراتي وكذلك المغربي ثم الأوروبي، لاسيما الفرنسي.

وجاءت المواضيع ذات الطابع الاجتماعي في المرتبة الثالثة بنسبة بلغت 40.83%، وركزت على الحالة الإنسانية لسكان غزة وبعض أحياء القدس الشرقية التي أصبحت تعاني من صعوبات متراكمة على مستوى أبسط مرافق الحياة اليومية، إضافة إلى التهديد اليومي لحياتهم بسبب انهيار المنظومة الصحية. وتناولت التغطية أيضًا المواضيع ذات الطبيعة الثقافية التاريخية؛ إذ حلَّت في المرتبة الرابعة بنسبة 13.33%، وحاولت إلقاء الضوء على تاريخ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وتحديدًا فيما يخص أصل الصراع في حي “الشيخ جراح” وكيفية تطوره. واهتمت التغطية بالتأثيرات الاقتصادية لهذه الحرب على الجانبين بنسبة 10%؛ إذ كانت الكلفة باهظة من حيث الدمار الذي أصاب البنية التحتية، بالإضافة إلى تعطل الحركة التجارية والاقتصادية طيلة فترة الحرب. أما الجوانب الدينية للصراع فلا تكاد تُذكر في تغطية “سكاي نيوز عربية”؛ إذ لم تتجاوز نسبتها 3.33%؛ إذ تناولت بعض التحركات الاحتجاجية للمتطرفين اليهود ضد الفلسطينيين في باحات المسجد الأقصى، وإبراز البعد الديني الذي تحتله مدينة القدس بالنسبة إلى “كل المؤمنين” من جميع أنحاء العالم.

وضمن المسار نفسه الذي فرضته الحرب على غزة، حظيت المواضيع السياسية بأكبر النسب في تغطية “الجزيرة نت“؛ إذ بلغت 80.8%، واشتملت على عناوين ذات صلة بالعدوان والتحركات السياسية الداخلية والخارجية وبيانات الحكومات حيال ما يحدث في فلسطين، وغيرها من المواقف السياسية. وتُبيِّن الأرقام أن التغطية أولت الأهمية في المرتبة الثانية للمواضيع العسكرية/الأمنية بنسبة 74.7%، وشملت تطورات الوضع في غزة منذ بدء الحرب، خاصة ما اتصل بعمليات “القصف الهمجي” و”عدد الصواريخ التي تلقتها مراكز المقاومة الفلسطينية وأحياء المدنيين التي تعرضت للقصف” وأيضًا “منشآت البنى التحتية”. وتابعت التغطية التطورات الأمنية خلال فترة الدراسة تحت عنوان كبير “لحظة بلحظة.. آخر تطورات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية”، وكان يقدم سيرورة الحرب على فترات متواترة في اليوم الواحد.

أما فيما يتعلق بالمواضيع الاجتماعية ذات البعد الإنساني، فبلغت نسبتها 20%، وشملت معلومات عن انتهاكات حقوق الشعب الفلسطيني، التي لها صلة بـ”حريته وكرامته وحقه في العيش والأمن والاستقرار”، وبرز ذلك من خلال معالجتها لـ”تضامن الفلسطينيين من الخارج”، ما يدل على حقيقة واضحة ذات بعدين: الأول يتعلق بشتات الفلسطينيين في عدد من البلدان، أما الثاني فيتعلق بمدى تضامن الفلسطينيين المعنوي فيما بينهم داخليًّا وخارجيًّا. وجاءت التغطية بنوع من التركيز على البعد الإنساني للقضية الفلسطينية وإفراد مساحة مهمة لتغطية صعوبة الأوضاع، ومعاناة الفلسطينيين بسبب العدوان الإسرائيلي و”عزل مليون شخص عن العالم”. في مقابل ذلك، أثارت التغطية مواضيع تبعث على “الأمل رغم الألم”، و”المقاومة رغم العدوان”، وذلك عبر استدعاء المشاعر الإنسانية التي وصفتها بأنها أكسبت الفلسطينيين تضامنًا عربيًّا ودوليًّا وعالميًّا، ودعت إلى “إنقاذ الفلسطينيين”، و”إنقاذ حي الجراح”.

وفيما يخص الموضوعات الثقافية والاقتصادية فبلغت نسبتهما 12.5% لكل واحد منهما، وتناولت أساسًا تفسيرًا لتاريخ الأرض، والقضية الفلسطينية عمومًا، وسلطت الضوء على “حي الشيخ جراح” “المُغتصَب ظُلمًا”، فضلًا عن إبراز بعض المواقف العالمية وحملات قادها مثقفون وفنانون؛ ما يعطي انطباعًا بالتضامن الدولي مع القضية بعيدًا عن الجغرافيا والهوية. ويلاحظ أيضًا النزعة التفسيرية التي ترمي إلى توضيح حقيقة ما يحدث بحي “الشيخ جراح” بالرجوع إلى الخلفية التاريخية لإنشاء هذا الحي قبل سبعة عقود من الزمن. كما نبَّه الموقع الإخباري العالم إلى تأثيرات الحرب على الاقتصاد بعد تدمير البنى التحتية في غزة؛ ما يكبد قطاعات ومجالات حيوية خسائر تقدر بالمليارات، وتكلفة باهظة أخرى لإعادة البناء والإعمار. وجاءت المواضيع الدينية بنسبة بلغت 5.8%، وتناولت “الجزيرة نت” هذه المواضيع من أجل التنبيه إلى كيفية تعامل إسرائيل مع المقدسات في محاولة لـ”طمس الحقيقة التاريخية”.

نلاحظ من خلال هذا التحليل تباين تغطية عينة الدراسة للحرب؛ إذ تناولت مواضيع وقضايا مختلفة سياسية وعسكرية/أمنية وإنسانية واقتصادية وثقافية، لكن غلب عليها البعد العسكري/الأمني والسياسي نظرًا لطبيعة الصراع. فقد ركز موقع “فرانس 24” على جانب احتواء الأزمة، بينما حاول موقع “روسيا اليوم” مراعاة مصالح روسيا والتعاطي مع الحدث بعين “دبلوماسية” تتواءم مع مواقف الدبلوماسية الروسية. وعالج موقع “سكاي نيوز عربية” الأحداث من زوايا مختلفة كانت تميل إلى إقرار الحق الفلسطيني وفق المواثيق الدولية، أما “الجزيرة نت” فركز على سردية المقاومة الفلسطينية وردِّها على العمليات العسكرية، والتطورات السياسية المرتبطة بالعنف وأخبار الاعتقالات. لذلك فإن اختيار هذه الزوايا من المعالجة يبرز ما تهتم به هذه المواقع تجاه المتلقي في مقام أول، وبما ينعكس على تفسيره للحدث وطريقة قراءته له. فلئن أرادت المواقع الإخبارية الغربية تقديم حدث الحرب سياسيًّا وأمنيًّا في المقام الأول إضافة إلى الجانب الاجتماعي بالنسبة إلى موقع “فرانس 24″، فإن المواقع الإخبارية العربية -إضافة إلى الزاوية السياسية والعسكرية التي تفرض نفسها- قدمت هذا الحدث بصفة أبرز في مستواه الاجتماعي الإنساني وكذلك الاقتصادي والثقافي والديني. وهنا، يمكن فهم إستراتيجية هذه المواقع الإخبارية وأساليبها في التأثير على تفسير المتلقي للحدث.

اتجاهات المعالجة الإخبارية للحرب

تعكس المواد الإعلامية التي تنشرها وسائل الإعلام حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني رؤيتها السياسية للقضية بشكل أو آخر، وذلك وفق إستراتيجيات تحريرية معينة قد تكون محايدة أو على مسافة واحدة من مختلف الأطراف، وقد تختار الانحياز والاصطفاف إلى أحد أطراف القضية، ويظهر ذلك عبر قرائن دالة تُبيِّن مواقفها حيال تطورات الحدث. وقد حددت الدراسة اتجاهات مضمون عينة الدراسة في تغطيتها للحرب، كما يوضح الشكل رقم (3).

شكل (2): توزيع نسب اتجاهات تغطية الحرب على غزة في عينة الدراسة

ركَّز موقع “فرانس 24” على الاتجاه الإيجابي والسلبي في معالجته لأحداث الحرب الإسرائيلية على غزة بنسبة 57.14% لكليهما، فنجده يوازن بين إبراز الانتقادات الدولية لعمليات تهجير الفلسطينيين من حي “الشيخ جراح” وممارسات التصعيد الإسرائيلية في باحات المسجد الأقصى وغاراتها على غزة، التي خلَّفت مئات “القتلى”، والتأكيد أن “إطلاق الصواريخ والبالونات الحارقة من قطاع غزة باتجاه إسرائيل هو أمر يجب إدانته وبشدة. كما يوازن بين الدعوة إلى الوقف الفوري للغارات الإسرائيلية على القطاع، والتي هدمت عددًا من الأبراج السكنية والإعلامية أيضًا وأودت بحياة المئات من المواطنين العزل وبين “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” من “آلاف الصواريخ التي تطلقها فصائل المقاومة الفلسطينية”، وإبراز حجم الوفيات وتدمير البنية التحتية والخسائر الاقتصادية والبشرية التي أصابت الجانب الإسرائيلي، وبين التأكيد على الدعوات الدولية الرافضة للعنف والباحثة بشتى السبل عن وقف سريع لتبادل إطلاق النار بين الطرفين والتشديد على التعنت الأميركي والإسرائيلي في التفاعل مع هذه الدعوات قبل تحقيق إسرائيل أهدافها لوقف “إرهاب الفصائل الفلسطينية” وتقزيم قوتها. ولعل هذا المسار في المعالجة يعكس في جزء كبير منه طبيعة العلاقة الفرنسية بين طرفي النزاع؛ إذ في الوقت الذي تشكِّل فيه فرنسا ثالث موطن لليهود بعد إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، فإن “فرانس 24” تتوجه بالأساس إلى الشعوب العربية التي تربطها بفرنسا علاقات تاريخية وكذلك علاقات اقتصادية تسعى إلى تدعيمها وتوسيعها في ظل منافسة شرسة من الدول الكبرى على المنطقة.

بدورها، حافظت “روسيا اليوم” على معالجة إعلامية متوازنة، تعكس سياسة موسكو في عدم انحيازها لطرف على حساب آخر. فقد كانت مختلف المواد المنشورة تنطلق من البحث عن حل للأزمة دون الاصطفاف وراء طرف بعينه، وهو ما تبيِّنه نسبة المعالجة المحايدة التي استخدم فيها الموقع مصادر رسمية وعسكرية وبيانات بنسبة 67.5%. في المقابل، احتلت المعالجة الإيجابية المرتبة الثانية بنسبة 56.7% تضمنت دعوات لإيقاف إطلاق النار، فضلًا عن تحذيرات من تفاقم الوضع الإنساني السيء الذي يهدد الأبرياء، بينما كانت نسبة المعالجة السلبية 25.8% لإبراز تأثيرات الحرب على الفلسطينيين وكذلك الاقتصاد وتكلفة الدمار وإعادة الإعمار. ويعكس هذا المنظور اختيارًا إستراتيجيًّا لـ”روسيا اليوم” في عدم الانحياز لطرف على حساب الآخر، وتكريسًا لمبدأ “احتواء الصراع وعدم الصدام”؛ ذلك أن أمن روسيا هو أولًا وقبل كل شيء أمن الأسواق المُستهدفة، لذلك فهي تسعى إلى تبني إستراتيجية “الباب المفتوح تجاه دول الشرق الأوسط”(23).

أما تغطية “سكاي نيوز عربية” للحرب فحرصت على التقارب بين المنظور الإيجابي والمنظور السلبي للأحداث بما يقارب 70% وإن مالت الكفة قليلًا للاتجاه السلبي (67.5%)، وقد تجسد ذلك أساسًا في التركيز على فظاعة الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في حق الفلسطينيين تقتيلًا وتهجيرًا وتشريدًا وفقدانًا لأبسط ضروريات الحق في الحياة. وورد الاتجاه الإيجابي بنسبة 64.16% للإشادة بالدور المصري الذي عاد بكامل قوته ووزنه ليضغط على الجانبين من أجل التهدئة بحكم العلاقات الدبلوماسية، فضلًا عن علاقات الجوار. هذا إضافة إلى التركيز على الفاعل السياسي لاعبًا مركزيًّا لتثمين الجهد العربي والإقليمي والدولي والدفع نحو الوقوف إلى جانب المتضررين من خلال الإغاثة والإمدادات والدعوة إلى إيقاف الحرب وإعادة البناء.

وفي تغطية “الجزيرة نت”، ورد الاتجاهان، السلبي والإيجابي، بنسب متقاربة؛ إذ حلَّ الاتجاه السلبي في المرتبة الأولى بنسبة 69.2% والمعالجة الإيجابية بنسبة 66.7%. وقد انخرطت في متابعة الأحداث أولًا بأول، واعتبرت ما يحدث “عدوانًا وعزلًا لمليوني شخص عن العالم”، وأن إسرائيل “تمارس جرائم حرب في غزة”، و”قاتلة لأمان الفلسطينيين، وقاتلة للحلم”، مقابل “صمت دولي تجاه القضية الحقوقية”. كما اهتمت التغطية بمحاولات التعتيم الإعلامي من خلال “إعاقة الصحفيين عن أداء واجبهم الإعلامي ونقل الحقيقة” واستهداف إسرائيل لعمل وسائل الإعلام في غزة. واهتمت “الجزيرة نت” بدعم “المقاومة” وعبَّرت عن موقفها الداعم للقضية الفلسطينية، إضافة إلى إظهار قدرة الفلسطينيين على الخروج من المأساة، علاوة على تركيزها على المظاهرات في العواصم الغربية الرافضة للعدوان الإسرائيلي على غزة.

وعمومًا، يمكن القول: إن اتجاهات المعالجة الإخبارية للحرب في عينة الدراسة كانت منسجمة إلى حد كبير مع توجهات السياسة الدولية للبلدان التي تنتمي إليها وطبيعة علاقتها مع طرفي النزاع. فلئن حرصت المواقع الإخبارية الغربية على التوازن بين الاتجاه الإيجابي والسلبي في معالجة الأحداث، لاسيما فيما يخص موقفها الرافض للتهجير القسري للفلسطينيين وتسليط الضوء على تدمير البنية التحتية وتدهور الوضع الإنساني والاقتصادي الفلسطيني، فإنها لم تغفل عن التذكير بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” من “إرهاب الفصائل الفلسطينية” إضافة إلى إبراز حجم الخسائر البشرية والمادية في الجانب الإسرائيلي كذلك. وتعكس هذه المواقف حرصًا على العلاقات التي تريدها فرنسا وروسيا مع الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني والعربي بصفة عامة، من جهة بحكم تأييدها لإسرائيل، ومن جهة أخرى لعدم رغبتها في خسارة علاقاتها التاريخية أو الاقتصادية في المنطقة التي تبني حولها رهانات عدة. لذلك تبقى المعالجات المتوازنة والمحايدة سبيلًا لعكس هذه السياسات الإستراتيجية تجاه المنطقة حفاظًا على مصالحها وأمن أسواقها.

وظهرت المواقع الإخبارية العربية أكثر تحفظًا في تبنِّي التوجه المحايد في معالجة الحرب مقابل ارتفاع منسوب المعالجة الإخبارية السلبية، والتي ركزت فيها على فظاعة جرائم الحرب في حق الفلسطينيين المعزولين عن العالم في الوقت الذي يتم في التعتيم الإعلامي على نقل الحقيقة في ظل صمت عالمي تجاه القضية رغم المجهودات التي تقوم بها عدة دول عربية، وخاصة الجانب المصري للضغط على الجانبين. كما سعت هذه المواقع إلى إبراز الدعم الذي تحظى به القضية الفلسطينية، وحجم التعاطف معها في بعض العواصم الغربية الرافضة للعدوان على الشعب الفلسطيني، وإظهار مدى استعداد الفلسطينيين لمواجهة الأزمة. ويمكن تفسير هذه المعالجة بطبيعة العلاقات السياسية العربية تجاه طرفي النزاع ذلك أن علاقات الجوار والانتماء العربي تنعكس على مستوى توجه المعالجة المساندة في مجملها لحق الفلسطينيين.

تبدو اتجاهات المعالجة الإخبارية للحرب على غزة في ظاهرها تميل إلى التوازن بين الاتجاه الإيجابي والسلبي، غير أن عينة الدراسة قدمت في الحقيقة سردية للأحداث تشير إلى اصطفاف المواقع الإخبارية وراء التوجهات السياسية للبلدان التي تنتمي إليها من خلال إبراز الوقائع أو الأحداث أو المواقف التي تنسجم مع ذلك في تغطية الحرب.

الفاعلون في التغطية للحرب

يُعنى هذا العنصر بدراسة كيفية تعاطي العينة المختارة من المقالات مع الفاعلين الأساسيين في الحرب الإسرائيلية على غزة، أو الجهات التي لها علاقة بسياق الأحداث، أو الأطراف المعنية بموضوع الحرب، من دول وحكومات، ومنظمات دولية، وأحزاب وشعوب وجماعات أيضًا، كما يظهر في الشكل رقم (3).

 

شكل (3): توزيع نسب الفاعلين في تغطية الحرب على غزة

وردت الدول والحكومات أول الفواعل الرئيسية في تغطية “فرانس 24” بنسبة 85.71%، بما في ذلك طرفا النزاع إضافة إلى الدول المتدخلة في الصراع عن طريق التنديد أو التحذير أو المشاركة الفعلية في إدارة المفاوضات، والبحث عن طرق لإيجاد حلول لوقف إطلاق النار بين جانبي الصراع. وقد كان التركيز في المقام الأول على الدور الفرنسي في تعاونه وتنسيقه مع بقية الدول في مجلس الأمن أو بشكل ثنائي مع الأطراف النافذة وبشكل أساسي مع الطرف المصري والطرف الأميركي، حتى إن التغطية ذهبت إلى حد التركيز على صراع وخلاف محتمل على مستوى العلاقات الفرنسية-الأميركية في حال اعترضت واشنطن على مشروع قرار تقدمت به فرنسا إلى مجلس الأمن من أجل التصويت على الوقف الفوري لإطلاق النار في قطاع غزة.

وقد جاءت الأحزاب في المرتبة الثانية من الفاعلين، وتمثِّل أساسًا الأحزاب والفصائل الفلسطينية باعتبارها طرفًا في الصراع. ولأن التغطية الإعلامية الغربية لا تشير إلى الدولة الفلسطينية، لذلك غالبًا ما يكون الفاعل الأساسي هم “الفلسطينيون” أو “الفصائل الفلسطينية”. وتقاربت النسب المخصصة لرؤساء الدول ورؤساء الحكومات وكذلك المنظمات والهيئات الدولية بما يعادل نصف مقالات العينة؛ ذلك أن القضية استدعت ثقلًا دوليًّا في المقام الأول عن طريق دبلوماسيتها الخارجية وأيضًا الهياكل والمنظمات ذات التحرك الدولي، بينما حضر الرؤساء من الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، إضافة إلى الرئيس الفرنسي ثم بعض الرؤساء الفاعلين في القضية على غرار الرئيس الأميركي ورؤساء منطقة الشرق الأوسط بالأساس بحكم علاقة الجوار والمصالح المشتركة مع طرفي النزاع. كما ورد الفاعل/المواطن الفلسطيني والإسرائيلي في المرتبتين، الخامسة والسادسة، على التوالي بنسبة 37.36% و28.57%، ذلك أن رحى الحرب اندلعت بعد اشتباكات بين مواطنين فلسطينيين وأفراد من الشرطة الإسرائيلية وتواصل الاشتباكات مع متطرفين يهود في باحات الأقصى وكذلك في عدد من الأحياء الإسرائيلية المختلطة، إضافة إلى أن من يعاني ويلات الحرب وتداعياتها هم المواطنون بالأساس. كما حضرت النخب بنسبة 26.37% لتفسير وتحليل الأوضاع القائمة وأبعادها وتداعياتها إضافة إلى شرح التوجهات العامة ومقاصد الطرفين من الحرب ومآلات ذلك. وورد فاعلو الشعوب العربية وكذلك الغربية في التغطية بنسب ضعيفة جدًّا لا تتجاوز 7% للتعبير عن دعمها للشعب الفلسطيني عبر تنظيم مظاهرات ومسيرات حاشدة، ورفضها للعنف الذي يمارَس على شعب غزة مهما كانت الأسباب والمسببات.

وتظهر نتائج التحليل أن “روسيا اليوم” ركَّزت على الفاعلين الأساسيين في هذه القضية من الدول والحكومات مجتمعة لما تُمليه طبيعة الصراع؛ إذ يتداخل فيها الكثير من الفواعل الداخلية والخارجية، مثل الحكومة الإسرائيلية والحكومة الفلسطينية، فضلًا عن الأحزاب السياسية والفصائل الفلسطينية التي تمثِّل المقاومة. ويمكن قراءة اهتمام التغطية بهؤلاء الفاعلين من عدة جوانب ومداخل، أهمها الجانب السياسي الذي فرضه تصاعد الأحداث، ودوره في إيقاف إطلاق النار من قبل مجلس الأمن ودعوات بعض الدول للتهدئة وحماية المدنيين.

وقد جاءت المنظمات الدولية في المرتبة الثالثة من بين الفاعلين في ساحة الصراع بنسبة 17.5%، كما حضرت النخب لإعطاء توضيحات أكثر حول ما يجري في المنطقة وتفسير عمليات التصعيد من كلا الجانبين بنسبة 10.8%. وكان حضور الفلسطينيين فاعلين من خلال الحديث عن تطورات ما يقع في حي “الشيخ جراح” بنسبة 9.2%، واهتمت التغطية أيضًا بالمستوطنين بنسبة 6.7%. كما لفتت النظر إلى مواقف الشعوب المسلمة التي خرجت للتظاهر ضد الحرب على المدنيين، ورفضها للانتهاكات في “حق الشعب الأعزل”.

ويندرج اهتمام “روسيا اليوم” بتغطية الحرب الإسرائيلية على غزة في مسار “إطار تسوية دولية”، وهو ما يُفسر الدعوة إلى المعالجة السياسية لتصاعد الأحداث، بناء على محددات السياسة الخارجية الروسية ومصالحها في المنطقة. وفي ضوء ذلك تناولت الأحداث من زوايا تطور المواقف السياسية الدولية تجاه إيقاف العنف، والوقوف على مسافة واحدة مع طرفي النزاع.

ومن أبرز الفاعلين في الحرب الإسرائيلية على غزة، بحسب تغطية “سكاي نيوز عربية”، عدة دول وحكومات بما في ذلك الدول التي شاركت في المفاوضات بين طرفي الصراع، وبلغت نسبة هذا الفاعل 88.33%، بالإضافة إلى الوزراء والمتحدثين الرسميين. وورد في المرتبة الثانية رؤساء الدول والحكومات المعنية بالقضية بنسبة 52.5%، ثم الأحزاب السياسية في المرتبة الثالثة بنسبة 42.5%، وهي أساسًا الأحزاب أو الفصائل الفلسطينية التي تُعد طرفًا أساسيًّا في الحرب. وجاءت المنظمات الدولية التي قامت بأدوار مهمة في هذه الحرب بنسبة 33.33%، ومنها مجلس الأمن الدولي وجامعة الدول العربية إضافة إلى منظمات الصليب الأحمر ومنظمات الإغاثة ومنظمة الصحة العالمية وغيرها ممن تدخل بشكل أو بآخر للضغط على طرفي النزاع للتوصل إلى حلول لوقف إطلاق النار أو لإغاثة جرحى الحرب. وورد الخبراء والنخب السياسية والاقتصادية أساسًا لتفسير الوضع وشرح تداعياته على الطرفين وكذلك المنطقة بنسبة 21.66%. فيما كانت النسبة الأقل للمواطنين الفلسطينيين (8.33%) والمستوطنين الإسرائيليين (5.83%) في سياق الحديث عن بعض المظاهرات أو الصدام من الجهتين، بالإضافة إلى تناول الأوضاع الإنسانية. ويلاحظ من خلال هذه النسب حضور الفاعل السياسي عنصرًا أساسيًّا في التغطية؛ الأمر الذي يبرره نوع القضية موضوع الدراسة؛ إذ يوجه هذا الفاعل سير الأحداث وفقًا “للأهداف المرسومة مسبقًا والتي لابد من تحقيقها مهما كانت الضغوط”. لذلك كان حضور المواطن مقتصرًا على بعض المظاهرات والاحتجاجات التي تندد بـوحشية “القتال” وتوسع الصراع بين الطرفين.

من جهته، تفاعل موقع “الجزيرة نت” مع مختلف الأطراف الفاعلة في ساحة الحرب بحسب تطورات الوضع في الميدان، وفي خضم تقصي المعلومات من مصادر مختلفة تناول الموقع ردود الفعل عن الحرب؛ إذ وردت الشخصيات الرسمية، الفلسطينية والإسرائيلية، ورؤساء الدول والهيئات الدولية، بنسب أعلى من جملة الفاعلين الأخرين، ما يلفت الانتباه إلى تنوع عدد الفاعلين في الصراع. كما حضر المواطنون الفلسطينيون في المواد المختارة في عينة الدراسة بنسبة 45.8%. أما الأحزاب فكان حضورها بنسبة 39.2%، من بينها القوى السياسية والفصائل الفلسطينية، ووردت الدول والحكومات بنسبة 34.2%. كما ظهرت المنظمات والهيئات الدولية بنسبة 25% من مجموع الفاعلين في التغطية، ووردت الشعوب التي تظاهرت في الشوارع “ضد العدوان” بنسبة 24.2%، ونذكر هنا على سبيل المثال حراك الشارع الفرنسي ضد الحرب رغم تحذير الحكومة الفرنسية للجمهور من الخروج والتظاهر في الشوارع، وكذلك في بريطانيا “اتهم المتظاهرون حكومة بلادهم بالشراكة في الأعمال الإجرامية طالما أنها تقدم دعمًا عسكريًّا ودبلوماسيًّا وماليًّا لإسرائيل”.

كما أظهر “الجزيرة نت” المستوطنين الإسرائيليين فاعلين أيضًا في هذا الصراع بنسبة 20%، ووردت في المرتبة الأخيرة النخب العربية والدولية متمثلة في الكتاب والأدباء بنسبة 11.7%، التي رفضت رفضًا قاطعًا الاعتداءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وتؤكد أن ما يواجهه الشعب الفلسطيني يُعد “ظلمًا من احتلال غاشم”.

إذن، حاول “الجزيرة نت” تغطية الحرب والفاعلين الذين يؤثرون فيها من زوايا مختلفة، كما اهتم بالأوضاع الإنسانية دون إغفال المواقف السياسية، وسعت من خلال ذلك إلى تحقيق التوازن بين مختلف الأطراف المعنية مع محاولة توخي الموضوعية.

ويمكن تفسير بروز الفاعلين السياسيين في التغطية بنوعية الحدث من جهة (الحرب)، ثم حضور الدول والحكومات، في تناسق مع ما تفرضه الأوضاع والممارسات الإسرائيلية، ودعوات إنهاء العنف والعدوان الإسرائيلي.

وهنا، نستنتج أن حضور الفواعل المؤثرة في الحرب يختلف من موقع إخباري إلى آخر بحسب طبيعة علاقة الدولة التي ينتمي إليها الموقع الإخباري بطرفي النزاع -كما ذكر آنفًا- وكذلك بالنظر إلى موقفها وطبيعة مشاركتها في إدارة المفاوضات حول هذه الحرب. فقد حرص موقع “فرانس 24” على إبراز الدور الفرنسي من خلال الفاعلين الفرنسيين باختلاف تصنيفاتهم في التنسيق والتعاون مع بقية الأطراف الفاعلة في القضية من أجل وقف الحرب. ويحضر بعد ذلك، وبنسب أقل، الفاعلون الفلسطينيون والإسرائيليون والنخب للحديث عن ظروف الحرب وتوجهاتها وتداعياتها المختلفة. أما موقع “روسيا اليوم”، ونظرًا لعدم مشاركة روسيا المباشرة في مفاوضات الحرب، فقد حرص الموقع الإخباري على حضور الفاعلين الأساسيين، وخاصة السياسيين الذين لهم علاقة بمسار الحرب في القطاع ثم بصفة أقل المنظمات والنخب والمواطنون ضمن تغطيته الإخبارية. وتعكس هذه المعالجة السياسية للأحداث على حساب المعالجة الإنسانية اهتمام روسيا في المقام الأول بالتسوية السياسية والأمنية للحرب بما يحفظ لها ذات المسافة من الطرفين كما يخدم مصالحها الخارجية في الانفتاح على دول المنطقة.

وركزت المواقع الإخبارية العربية بدورها على دور الفاعلين السياسيين، وخصوصًا منهم العرب، بدرجة أولى في مجريات التفاوض بين الجانبين. فلئن ذهب موقع “سكاي نيوز عربية” إلى إبراز دور الدول والحكومات والوزراء المشاركين في المفاوضات إضافة إلى الأحزاب والفصائل والمنظمات العربية والدولية ثم الخبراء والنخب والمواطنين عنصرًا فاعلًا في الضغط على طرفي النزاع لإنهاء الحرب، فإن موقع “الجزيرة نت” -إضافة إلى اهتمامه بإبراز دور الفواعل السياسية المختلفة ذات العلاقة بتطورات الحرب- عمد إلى التركيز على شخصيات طرفي النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني مباشرة -الرّسمية وغير الرسمية- ثم بقية الأطراف الأخرى من منظمات ومواطنين ونخب وغيرهم. وقد يعود ذلك إلى المتابعة الميدانية للأحداث التي تُعد السمة البارزة لموقع “الجزيرة نت”؛ الأمر الذي جعل التغطية الميدانية للحدث عبر شبكة المراسلين تتجاوز التسوية السياسية لواقع الحرب وتنفتح على جوانبها الإنسانية في محاولة للتناسق مع الخط التحريري للموقع الذي يروم الموضوعية في تناسق مع ما تفرضه الأوضاع السياسية وكذلك الإنسانية في آن واحد دون إغفال طبيعة الانتماء وطبيعة الحدث. لذلك فإن الاعتماد على المصادر المباشرة للحدث عنصر ميز تغطية “الجزيرة نت” خلافًا لبقية المواقع التي اعتمدت في جزء كبير من التغطية الإخبارية على وكالات الأنباء.

الأطر الخبرية في تغطية الحرب

يتحكم توظيف الأطر الخبرية في تحديد المحتوى الإخباري من حيث جمع المعلومات وانتقاؤها وترتيبها وتمثُّلها، فضلًا عن التوجه السياسي لكل مؤسسة إعلامية، والظروف المحيطة والمؤثرة في المضامين والمخرجات الإعلامية. وتقوم هذه العملية على آليات محددة لتأطير الحدث، أي عبر التكرار وإبراز حدث معين وتأخير حدث آخر، والتي يتم من خلالها بناء مفاهيم وتصورات محددة، تسلط الضوء على أفكار دون أخرى. وتعمل هذه الأطر على جعل بعض المعلومات الواردة في المواقع الإلكترونية أكثر ظهورًا مقارنة بغيرها، وتجاهل أو إقصاء بعض الأفكار. وفي هذا السياق، فإن أحد أجزاء عملية التأطير يتأسس على ممارسات صحفية مستقرة في مجال معالجة الأحداث؛ إذ يعتمد المُحرِّرون على الأطر لنقل المعاني الثقافية المهيمنة وإعطاء معنى للأحداث موضوع التغطية.

جدول (4): توزيع نسب الأطر الخبرية في عينة الدراسة

الجزيرة نت سكاي نيوز عربية روسيا اليوم فرانس 24             المواقع الإخبارية

   الأطر الخبرية

% ك % ك % ك % ك
11.7 14 20.8 25 20 24 33 30 الإطار العام 1
20.8 25 8.33 10 12.5 15 9.9 9 إطار محدد بقضية 2
15.8 19 15 18 8.33 10 7.7 7 الصراع 3
10.8 13 6.7 8 7.5 9 7 6 الأسباب 4
9.2 11 4.2 5 5.8 7 6 5 المسؤولية 5
16.7 20 1% 12 8.33 10 3.3 3 الاهتمامات الإنسانية 6
8.33 10 18.3 22 12.5 15 14.7 13 النتائج الاقتصادية 7
4.2 5 10 12 8.33 10 10.9 10 الحلول 8
2.5 3 6.8 8 16.7 20 8.8 8 النتائج 9
100 120 100 120 100 120 100 91 المجموع

استندت عينة الدراسة، كما تبرز نتائج الجدول (4)، إلى عدة أنواع من الأطر الخبرية، وفق محددات الخطاب الإعلامي في معالجته للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ إذ استخدمت وبنسب مختلفة أكثر من إطار في تناولها للموضوع. فقد وظفت “فرانس 24” الإطار العام في 30 مادة إعلامية بنسبة 33%، بينما حلَّ إطار النتائج الاقتصادية في المرتبة الثانية بنسبة 14.7%؛ إذ تناولت التغطية تداعيات الحرب على البنى التحتية وأهمية الإعمار. في المقابل، ورد إطار الحلول في المرتبة الثالثة؛ إذ وجهت التغطية الأنظار نحو إيجاد مخرج للصراع وتطويق حركة حماس. كما وظفت “فرانس 24” أطرًا خبرية أخرى بنسب متفاوتة، خاصة الإطار الإنساني الذي يكون دائمًا من النتائج الفورية للحرب. وربط الموقع أسباب الصراع بالجانبين، وعالج إطار المسؤولية التي تتحملها إسرائيل بخصوص استمرار العدوان والعنف.

واستخدم موقع “سكاي نيوز عربية” أيضًا عدة أطر خبرية في تغطية الحرب؛ إذ احتل الإطار العام للنزاع المرتبة الأولى بنسبة 20%، وتبعه إطار النتائج بنسبة 16.7%، ثم إطار النتائج الاقتصادية بنسبة 12.5%، وقد عالج الأضرار الناجمة عن العدوان والخسائر التي يتكبدها المواطن الفلسطيني. واهتمت التغطية بإطار الصراع وخلفياته بنسبة 8.33%، وكانت الاهتمامات الإنسانية أيضًا محل اهتمام “سكاي نيوز عربية” نظرًا للأضرار التي فاقت التوقعات.

بدورها، اعتمد “الجزيرة نت” عدة أطر خبرية بنسب متفاوتة لمتابعة الوضع في فلسطين لحظة بلحظة؛ إذ ورد الإطار المحدد بقضية في المرتبة الأولى بنسبة 20.8%، بينما حظي إطار الاهتمامات الإنسانية بنسبة 16.7%، والتركيز على جذوره التي تتمثل في الظلم والعدوان والعنف الممارس ضد الفلسطينيين عبر الآلة العسكرية الإسرائيلية، ثم الانتهاكات التي بلغت مداها إنسانيًّا ما جعل إطار الصراع يحتل أيضًا المرتبة الثالثة بنسبة 15.8%. وهو ما يشير إلى أن خلفية هذا الصراع ترتبط باحتلال أرض واغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني، أما الإطار العام فحلَّ في المرتبة الرابعة بنسبة 11.7%، يليه إطار الأسباب بنسبة 10.8%، بينما وردت أطر النتائج والحلول في المراتب الأخيرة بنسبة 7%.

وعمومًا، تبيِّن نتائج التحليل أن الأطر الخبرية في العينة تتجاذبها اتجاهات متعددة، فإذا كان توظيف الإطار العام والإطار المحدد بقضية فعلًا دالًّا على عدم التعمق في زوايا القضية الفلسطينية وأسبابها، ولعل ذلك يُفهم بسبب الخلفيات الأيديولوجية والسياسية للمواقع الإخبارية، وخاصة موقع “فرانس 24” و”روسيا اليوم”، فإن توظيف أطر “الصراع” و”الاهتمامات الإنسانية” و”النتائج” يرسخ جملة من المبادئ الأخلاقية والإنسانية تتعلق بحق الشعب الفلسطيني في أرضه. ويلاحظ في تحليل المضامين الإخبارية أن عملية استخدام الأطر في معالجة القضايا التي أثارتها الحرب كانت تُغيِّب السياق التاريخي للأحداث، وهو الأمر الذي أغفله موقع “فرانس 24” و”روسيا اليوم”، رغم أنه يمثِّل حجر الزاوية لتحليل القضية الفلسطينية إعلاميًّا.

ولذلك، كانت عملية التأطير الخبري للحدث متباينة بين المواقع المحسوبة على الإعلام العربي وتلك المحسوبة على الإعلام الغربي بسبب اختلاف الأجندات والتوجهات السياسية والعلاقات الدولية التي تحكم بلدانها مع طرفي النزاع. فقد تجاهلت المواقع الإخبارية المحسوبة على الإعلام الغربي عنصر الاحتلال في التغطية، وقامت باجتزاء المعلومة من السياق التاريخي، مثل عمليات التهجير التي تقوم بها إسرائيل في حق الفلسطينيين منذ عقود، فيما فسح “الجزيرة نت” المجال لهذه الجزئية وذكَّرت دائمًا بالخلفية التاريخية وسياق الأحداث غير المنفصلة عن سلسلة الانتهاكات في حق الفلسطينيين.

إذن، تُظهر نتائج الدراسة التحليلية، على مستوى الإستراتيجيات التحريرية، توجُّه المواقع الإخبارية إلى تقديم حدث الحرب على غزة وفق زوايا وسرديات مختلفة تعتمد مصادر وفاعلين مختلفين، ولكنها في النهاية -وعبر مختلف اختياراتها- وإن أدانت فعل العدوان وما خلفه من تداعيات، فإن سرديتها للحدث أبرزت تناسقًا مع توجهات سياسة بلدانها وعلاقاتها مع طرفي النزاع إضافة إلى مراعاة مصالحها في المنطقة. لذلك، وبالنظر إلى هذه العلاقات، نجد أن طبيعة المعالجة الإخبارية كانت تميل إلى الجرأة والموضوعية في “الجزيرة نت”، وبدرجة أقل حدة في “سكاي نيوز عربية”، بينما استند موقع “فرانس 24” وبصفة أكبر “روسيا اليوم” إلى معالجة تحريرية دعائية للحدث.

ب- أساليب الإقناع في تغطية الحرب

تهدف الوسيلة الإعلامية من خلال المضامين التي تنتجها، وخاصة في الملفات والقضايا التي تثير الرأي العام، إلى إقناع المتلقي بتوجهها في معالجة الحدث، وتوجيه تفكيره وعاطفته أيضًا بإستراتيجية الإقناع التي يرمي إليها الخطاب الإعلامي. وتختلف الإستراتيجيات التي تسهم في ذلك من ناحية العلاقة بين طرفي الخطاب أو من ناحية تجسيدها لشكل الخطاب اللغوي. كما تختلف الآليات والأدوات اللغوية، وذلك لاختلاف الحقول التي يمارس المرسل فيها الإقناع، مثل الحقل العلمي أو الاجتماعي أو السياسي. وقد حدد بعض الباحثين(24) عددًا من الأساليب التي يمكن أن يعتمدها القائم بالاتصال في إقناع جمهوره بوجهة نظره، وتشمل الاستمالة العقلية أو تلك التي تستميل العاطفة، أو الاستمالة التي تستخدم أساليب الترغيب والتخويف أو التهديد أو التحذير.

 

جدول (5): توزيع نسب الأساليب الإقناعية في عينة الدراسة

 

م أساليب الإقناع فرانس 24 روسيا اليوم سكاي نيوز عربية الجزيرة نت
ك % ك % ك % ك %
1 خطاب الترهيب والتخويف 53 58.24 17 14.2 68 56.66 37 30.8
2 خطاب الترغيب 50 54.94 7 5.8 55 45.83 17 14.2
3 التهديد والتحذير 22 24.17 10 8.3 21 17.5 29 24.2
4 مخاطبة الوجدان 85 93.40 11 9.2 96 80 21 17.5
5 تقديم تفسيرات للحدث 74 12.08 25 20.8 54 45 25 20.8
6 خطاب يستخدم الأدلة 50 54.94 20 16.7 44 36.66 20 16.7
7 تقديم الحجج من جانب واحد 11 12.08 21 17.5 30 25 27 22.5
8 تقديم الحجج من جانبين 31 34.06 21 17.5 15 12.5 39 32.5

استخدمت “فرانس 24” الخطابات التي تستميل العاطفة وتخاطب الوجدان بما يفوق نسبة 90% من مقالاتها، وذلك من خلال التركيز على خطابات الترغيب والدعوات إلى التهدئة والبحث عن طرق لإيقاف العنف، في مقابل خطابات الترهيب والتخويف من مستوى العنف وفظاعة الظروف الإنسانية التي يعيشها القطاع على جميع المستويات. هذا إضافة إلى خطابات التهديد والوعيد أو التحذير التي يتبادلها بين الحين والآخر طرفا النزاع إثر كل عملية من العمليات القتالية. بالموازاة مع ذلك، اعتمدت عينة الدراسة أساليب تقوم على الاستمالة العقلية وتقديم تفسيرات للحدث من خلال الأدلة والحجج بما يصل إلى حوالي أربعة أخماس المقالات. كما حرصت أن تكون الحجج المقدمة من الجانبين أكثر من حيث النسبة من الحجج ذات الجانب الواحد، وذلك لإبراز التوازن في تغطيتها وإن اعتبرت “فرانس 24″، تصريحًا أو تلميحًا، أن “إسرائيل لها حق الدفاع عن نفسها” رغم العنف الذي تمارسه على الشعب الفلسطيني.

في المقابل، استند موقع “روسيا اليوم” إلى أساليب إقناع عقلانية، مثل تقديم الحجج والأدلة حول الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وتُظهِر الأرقام أن الخطابات التي قَدَّمت تفسيرات للحدث بلغت نسبة 20.8%، فيما وصلت نسبة استخدام الأدلة 16.7%، أما الحجج من جانب واحد ومن جانبين فبلغت مجتمعة نسبة 35%. وبذلك يُبيِّن مسار التغطية خلال فترة الحرب اعتماد الموقع الإخباري على قاعدة الحفاظ على مسافة واحدة من طرفي الصراع على الرغم من تبرير بعض الخطابات رد “كتائب القسام” على القصف الإسرائيلي بحق المدنيين، ووصف الخسائر التي قُدرت بـ8 ملايين دولار بـ”الفادحة”. وقد وظفت التغطية الأساليب العاطفية بنسبة 9.2%، علاوة على استخدام خطابات الترهيب والتخويف بنسبة 14.2%، أما التحذير والتهديد فبلغ نسبة 8.3%، والخطاب القائم على الترغيب بنسبة 5.8%، وذلك من خلال تغطية الأضرار التي ألحقتها الضربات الصاروخية من كلا الجانبين، وخسائر البنى التحتية وقطع الماء والكهرباء بما وصفته بـ”العدوان” على الآلاف من الفلسطينيين.

في تغطية “سكاي نيوز عربية” للحرب وردت الأساليب الإقناعية التي تستميل العاطفة في المرتبة الأولى بنسب مرتفعة بما فيها الترغيب والترهيب والتهديد والوعيد والتحذير؛ إذ تراوحت نسبها بين 45% إلى 80%، أما الأساليب العقلانية فقد جاءت بنسبة 12.5%، ومثَّلت نسبة توظيف الحجج من الجانبين نصف الحجج من طرف واحد. ويبدو من خلال هذه النتائج أن التعاطي مع الحدث غلبت عليه العاطفة على حساب العقلانية وموازنة الحجج من الطرفين، فذهبت “سكاي نيوز عربية” عمومًا إلى إبراز تأثيرات الغارات الإسرائيلية على مجريات الحياة اليومية في فلسطين وتداعياتها على البنى التحتية حتى إن المقالات التي احتوت عددًا من الأدلة كان أغلبها من أجل إبراز فظاعة الجرائم التي ارتكبت في حق الفلسطينيين، وإخبار الرأي العام العالمي بحقيقة ما يحدث في المنطقة دون “الكيل بمكيالين”.

أما موقع “الجزيرة نت” فقد وظف عددًا من أساليب الإقناع في تغطيته للصراع؛ إذ تصدرت الأساليب العقلانية بتقديم الحجج من الجانبين بنسبة 32.5%، واستخدم الخطاب الذي يقدم تفسيرات للحدث بنسبة 20.8%. وورد الخطاب الذي يوظف الأدلة بنسبة 16.7%، أما الأساليب العاطفية فبرزت عبر خطابات الترهيب والتخويف والترغيب؛ إذ فاقت مجتمعة 60%. وتُبيِّن هذه المعطيات أن “الجزيرة نت” أشرك مختلف الأطراف الرئيسية في الحرب، مع منحها مساحة متساوية لإبداء الرأي والتعليق على الأحداث، ويستند ذلك إلى دليل المعايير التحريرية لشبكة الجزيرة الإخبارية، كما نجدها منحازة لتوصيف حصيلة “العدوان” بـ”الشهداء”.

كما استند “الجزيرة نت” في التغطية على خطابات تتوجه نحو عاطفة ووجدان المتلقي بنسبة 17.5%، من خلال بيانات “كتائب القسام”، وتصريحات قادة حركة “حماس”، مثل رفعهم لشعارات “إحنا رجال محمد ضيف” (قائد هيئة أركان كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية) وهو أحد أبرز القادة المطلوبين لدى إسرائيل، والذي تتهمه بالوقوف وراء عدد من العمليات العسكرية الكبرى ضد أهداف إسرائيلية. هذا إضافة إلى نشر صرخات الفلسطينيين استنجادًا بالمجتمع الدولي جرَّاء “وحشية المحتل”، من خلال توظيف القصص الإخبارية الواقعية التي تهدف إلى تجاوز الحيز الجغرافي العربي نحو العالم.

نلاحظ أن أساليب الإقناع التي وظفتها المواقع الإخبارية الدولية المعنية بالدراسة، كانت انتقائية لإبراز ما يتلاءم مع سياسة كل مؤسسة إعلامية في طرق معالجتها للحدث، فضلًا عن الاستثمار في فضاء الحرية المتاحة. فلئن توجَّه كل من موقعي “فرانس 24″ و”سكاي نيوز عربية” إلى مخاطبة العواطف والوجدان وأساليب التهديد والتحذير والتخويف أكثر من مخاطبة العقل وتوظيف الحجج والأدلة، فإن ذلك قد يعود إلى رغبة في الدفع نحو التخويف من حدث الحرب دون تفسيره عقلانيًّا بما لا يتناسب مع مصلحة فرنسا، وهو المسلك الإقناعي الذي قد لا يسبِّب حرجًا دون إهمال تناول الحدث. في المقابل، بدت الأساليب الإقناعية في “روسيا اليوم” أكثر توازنًا وعقلانية بين التوجهين، العقلاني والعاطفي، وإن قدَّم “الجزيرة نت” الأسلوب العاطفي بشكل طفيف خلافًا لموقع “روسيا اليوم” الذي قدَّم الأسلوب العقلاني. وقد يرجع ذلك إلى قاعدة القرب والانتماء فيما يخص موقع “الجزيرة نت” مع حرصه على توازن التغطية الإخبارية للحدث ومعالجته بشكل موضوعي في جوانبه الإنسانية والسياسية وغيرها في حين يميل الموقع الروسي إلى الحفاظ على مصالح البلد فنراه يحافظ على مسافة بين الطرفين عن طريق تحليل عقلاني يقدِّم الحدث أمنيًّا وسياسيًّا دون أن يغفل عن التحذير من تداعيات الحرب.

خاتمة

اهتمت الدراسة بتحليل الإستراتيجيات التحريرية وأساليب الإقناع في تغطية عينة الدراسة (فرانس 24، روسيا اليوم، سكاي نيوز عربية، الجزيرة نت) للحرب الإسرائيلية على غزة، في مايو/أيار 2021، والتعرف على حجم تأثرها بالأجندات السياسية، لاسيما في معالجتها لقضايا تتداخل فيها مصالح الدول. وتبرز توجهات التغطية الإخبارية للحرب من حيث الاختيارات التحريرية أن هناك خطابين اثنين: خطابًا متعلقًا بالأجندة الإعلامية وآخر متعلقًا بالأجندة السياسية، وذلك وفقًا للانتماء الجغرافي لكل موقع إخباري ولإستراتيجياته التحريرية ولجمهوره المستهدف. لذلك تباين التركيز على محاور الاهتمام والموقف منها رغم أن الموضوع كان واحدًا والأولويات متشابهة في تدرجها من العسكري/الأمني والسياسي إلى الاجتماعي/الإنساني ثم الثقافي/الديني والاقتصادي.

ولم تخف عينة الدراسة (فرانس 24، روسيا اليوم) موقفها المساند للتوجه الرسمي الفرنسي أو الروسي من حيث “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”؛ إذ تناولت الموضوع من منظور يتماهى مع موقف البلدين من الصراع الذي يمكن أن يشكِّل خطرًا على مصالحهما رغم محاولتهما النزوع نحو الحياد وتعاطفهما مع “قتلى” غزة. كما لم تخف تغطية “الجزيرة نت” انحيازًا عربيًّا-فلسطينيًّا تجاه الصراع من خلال حقل معجمي وسجل لغوي يركز على “دعم المقاومة والشهداء”، و”التصعيد الإسرائيلي”، و”دوامة الموت”، و”مساعدة الأشقاء واجب”، و”إغاثة الفلسطينيين”. وبذلك يتبنَّى الموقع موقف قطر الداعم للقضية الفلسطينية، خاصة على المستوى السياسي والإنساني، والقيام بدور محوري لصالح الفلسطينيين.

وكانت التغطية الإعلامية مرآة عاكسة لطبيعة العمل والتحرك السياسي الدبلوماسي للدول التي ترتبط بها المواقع الإخبارية. فإذا عملت “فرانس 24” على تثمين التحرك الدولي في إطار المنظمات الدولية، مثل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرها، فإن “روسيا اليوم” عكست احترازًا وتحفظًا من خلال التغطية الإخبارية للحرب تثمينًا لدور رؤساء الدول والأحزاب والمنظمات الدولية، إضافة إلى أهمية دور النخب، الذي جعل روسيا توازن الأحداث دوليًّا لصالحها دون الاصطفاف إلى جانب أي طرف من الأطراف. ومن جهتها، توجهت “الجزيرة نت” نحو إيلاء الأهمية للتحركات الدبلوماسية الرئاسية في إيجاد حل للأزمة والتركيز على تغطية الأحداث الميدانية؛ حيث كان المواطنون الفلسطينيون والأحزاب والفصائل الفلسطينية في صدارة الفاعلين لمدها بآخر التطورات. واتجهت “سكاي نيوز عربية” أيضًا باتجاه تثمين الدور الدولي سواء من قِبَل الحكومات أو الرؤساء، بما في ذلك التعاون مع دول الجوار والدول الأوروبية والأميركية من أجل دعم دورها الإقليمي في القيادة نحو إيجاد حل للأزمة. ولم تهتم بتثمين فعالية دور النخب والشعوب في القضية ولعله انعكاس لطبيعة حضور هؤلاء الفاعلين ضمن السياسات العامة لهذه الدول العربية. وعلى خلاف “فرانس 24” و”روسيا اليوم”، اعتمد “الجزيرة نت” و”سكاي نيوز عربية” أكثر على العلاقات المباشرة بين طرفي النزاع بحكم علاقات الجوار والتاريخ المشترك.

وفيما يخص أساليب الإقناع في التغطية الإخبارية، فإن اختلاف أولويات وأجندات عينة الدراسة لم يمنع من إبراز المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطيني وحجم الدمار، إضافة إلى التحركات والضغوطات الدولية من أجل وقف إطلاق النار والخسائر البشرية في القطاع. فوردت الاستمالة العاطفية في مرتبة أولى تقريبًا بنسب متفاوتة في تغطية جميع المواقع الإخبارية ما عدا موقع “روسيا اليوم” الذي غلَّب الاستمالة العقلية بنسبة طفيفة نظرًا لطبيعة العلاقة والمصالح بين طرفي النزاع في المنطقة. وإذا كانت الاستمالة العاطفية تطغى على تغطية “الجزيرة نت” و”سكاي نيوز عربية”، فإن ذلك يظل محكومًا بعلاقات الجوار والتاريخ المشترك مع الشعب الفلسطيني الذي تراه “مضطهدًا وحقوقه مغتصبة”، وإن جاءت هذه الاستمالة متوازنة تقريبًا مع الاستمالة العقلانية، خصوصًا في “الجزيرة نت” انسجامًا ما يفرضه واقع الحال، خلافًا لموقع “سكاي نيوز عربية” الذي بالغ في توظيف الأساليب العاطفية على حساب الأساليب العقلانية لحدث الحرب. ولعل ذلك يعكس احترازًا من الغوص في تفاصيل القضية بحكم توجهات الشريك البريطاني، المساند لإسرائيل، في هذا الموقع.

إذن، عكست إستراتيجيات التغطية الإخبارية للحرب وأساليبها الإقناعية نوعًا من التمايز في اتجاهاتها وزواياها والفاعلين فيها، إضافة إلى تنوع أساليب تقديم الحرب وفق سرديات تحمل موقفًا سياسيًّا. ولعل ذلك يعود إلى طبيعة الحدث، وطبيعة علاقات الدول المرتبطة بتلك المواقع الإخبارية بأطراف النزاع. لذلك تقلصت الهوامش والقواعد المهنية أمام المصالح والسياسات الدولية، خاصة في المواقع المحسوبة على الدول الغربية.

المراجع

(1) نورمان فاركلوف، تحليل الخطاب: التحليل النصي في البحث الاجتماعي، ترجمة طلال وهبة، ط 1 (لبنان، المنظمة العربية للترجمة، 2009) ص 77.

(2) “من نحن؟”، شبكة “فرانس 24″، (تاريخ الدخول: 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، https://rb.gy/dpi1sh.

(3) “حرب إعلامية تنتصر فيها RT”.. مجلة “نيوزلاين” تلحظ ارتفاع صوت قناتنا في الشارع العربي”، arabic.rt، 20 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 31 ديسمبر/كانون الأول 2023)، https://rb.gy/egeb1w.

(4) “موقع الجزيرة نت”، 1 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 31 ديسمبر/كانون الأول 2023)، https://rb.gy/s2xltp.

(5) “حول سكاي نيوز عربية”، (ب.ت)، (تاريخ الدخول: 31 ديسمبر/كانون الأول 2023)، https://rb.gy/st537k.

(6) سمير حسن، بحوث الإعلام: دراسات في مناهج البحث العلمي، (القاهرة، عالم الكتب، 2009)، ص 131.

(7) حسن عماد مكاوي، ليلى حسين السيد، الاتصال ونظرياته المعاصرة، (القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 1998)، ص 348.

(8) Robert Entman “Framing: Toward Clarification of a fractured paradigm,” Journal of Communication, Vol. 43, No. 4, (December 1993), 51-52.

(9) Pippa Norris, Susan Carroll, “The Dynamics of the News Framing Process: From Reagan’s Gender gap to Clinton’s Soccer moms,” Presented at the annual meeting of the Southern Political Science Association, Norfolk, Virginia, (November 1997), 11.

(10) معجم المصطلحات الإعلامية (إنكليزي-عربي)، (القاهرة، دار الشروق العربي، 1999)، ص 33.

(11) الطاهر بن خرف الله، الممارسة الإعلامية في ظل متغيرات نظم العمل المهني، (الجزائر، منشورات جامعية، 2014)، ص 43-44.

(12) مفتاح مختار السنوسي، الإعلام الدولي: الأسس والمفاهيم، (عمان، دار زهران للنشر، 2013)، ص 15.

(13) المرجع السابق، ص 16.

(14) محمد فؤاد زيد، الإعلام الدولي، (مصر، جامعة المنوفية، 2016)، ص 5.

(15) علي جبار الشمري، “الخطاب التليفزيوني الأميركي الموجه إلى المشاهد العربي”، مجلة الإذاعات العربية (اتحاد إذاعات الدول العربية، تونس، العدد 2، 2010)، ص 17.

(16) جيهان يسري، “القنوات الفضائية الإسرائيلية ودورها في الحرب الإعلامية بين العرب وإسرائيل”، المجلة المصرية لبحوث الرأي العام (جامعة القاهرة، كلية الإعلام، مصر، المجلد 4، ديسمبر/كانون الأول 2003)، ص 72.

(17) ليلى عبد المجيد، السياسات الاتصالية والإعلامية، (القاهرة، عالم الفكر، 1994)، ص 55.

(18) حميد جاعد محسن الدليمي، التخطيط الإعلامي: المفاهيم والإطار العام، رؤية سوسيولوجية لمنطق الظاهرة الإعلامية، (دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، 1998)، ص 73.

(19) نائلة خليل، “السياسات التحريرية في الصحافة الفلسطينية”، سلسلة أبحاث ودراسات الاعلام (مركز تطوير الإعلام، جامعة بير زيت، فلسطين، يونيو/حزيران، 2018)، ص6.

(20) المصدر السابق ذاته، ص 53.

(21) عبد الله عمران علي إبراهيم، “الخطاب الإقناعي في التليفزيون المصري: دراسة في تحليل الخطاب الصحي بالبرامج الحوارية، مجلة البحوث الإعلامية (جامعة الأزهر، كلية الاعلام، مصر، العدد 55، الجزء 4، أكتوبر/تشرين الأول 2020) ص2588 .

(22) فاركلوف، تحليل الخطاب، مرجع سابق، ص 110.

(23) “محددات الموقف الروسي بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”، مركز الدراسات العربية الأوراسية، 24 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 5 يونيو/حزيران 2021)، https://rb.gy/sjeznb.

(24) منى الحديدي، شريف درويش اللبان، فنون الاتصال والإعلام المتخصص، (القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 2009)، ص 55-60.

* د. حنان المليتي، أستاذ مساعد للتعليم العالي بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار، جامعة منوبة، تونس.

Dr. Hanen Melliti, Assistant Professor at the Institute of Press and Information Sciences, University of Manouba, Tunisia.

** د. فتيحة زماموش، باحثة في علوم الاتصال والإعلام.

Dr. Fatiha Zemmamouche, Researcher Specialising in Mass Communication and Media Studies.