رسائل جامعية

أطروحة دكتوراه                                                                       PhD Dissertation 

إعداد – by

عبد العزيز المنتاج – Abdelaziz Elmountaj

 

إشراف – Supervisor

د. محمد جلال أعراب – Dr. Mohamed Jalal Aarab

 

كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير- المغرب

Ibn Zohr University, Faculty of Arts and Humanities

Agadir, Morocco

السنة – Year

2020-2021

 

اللغة: العربية – Language: Arabic

مقدمة

تهدف التنمية إلى تحقيق حياة أفضل للمواطنين، وتعزيز وعيهم بالمشكلات المحيطة بهم، وتقنين الاستهلاك والحيلولة دون استنزاف البيئة، وتوزيع السكان جغرافيًّا بشكل متوازن والحد من الهجرة القروية، وتوفير الأمن والتعليم والصحة، ومحاربة الجوع والفقر والأمية والتوزيع العادل للثروات، ومجابهة الظلم والاستعباد ومحاربة الفساد. ويقوم الإعلام جزئيًّا ببعض هذه الوظائف والأدوار داخل المجتمعات، لذلك يلتقي مع التنمية في تحقيق بعض هذه الأهداف، بل قد يكون الإعلام محفزًا ورقيبًا وداعمًا للمشاريع التنموية ومصححًا لتوجهاتها، ومثيرًا ومنبهًا لكل أسباب التخلف؛ إذ إن الإعلام له القدرة على إثارة النقاش العام وتركيز اهتمامه على المشاكل وتحويلها إلى انشغال عمومي.

من هذا المنطلق، تحاول الدراسة رصد التغيير الذي أحدثه الإعلام الجديد في المجتمع المغربي، وإبراز حجم مساهمته في التحول الاجتماعي ودعمه لقضايا التنمية، خاصة تنمية الأفراد (بناء الأفراد والرأسمال البشري) والمجتمع، وتحسين الموارد والدخل. وتحاول الدراسة الإجابة عن هذا الحقل الاستفهامي: كيف يُسهِم الإعلام الجديد في تحقيق التنمية الشاملة في المجتمع المغربي؟ وما وظائفه وأدواره؟ وكيف يؤثر الإعلام الجديد في إنجاح التنمية بالبلدان النامية، وخاصة المغرب؟ ألا يُعد تهميش دور الإعلام الجديد في التنمية من أسباب تعثرها؟ متى يفشل الإعلام في أداء دوره التنموي ودعم قضايا التنمية؟ ما حجم اهتمام الإعلام الجديد بقضايا التنمية في المغرب؟ وهل الإعلام الجديد مؤهل لدعم قضايا التنمية بالمغرب؟ وهل الإعلام الجديد قادر على قيادة تغيير اجتماعي يخلق أرضية مناسبة للتطور والتحديث والتنمية في المغرب؟

للإجابة على هذا الحقل الاستفهامي، تستعين الدراسة بالمنهج الوصفي التحليلي باعتباره المنهج الأكثر استخدامًا وملاءمة لدراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية؛ إذ يعتمد الوصف ركنًا أساسيًّا في رصد الوضع الراهن للتنمية بالمغرب، والبحث في علاقة الإعلام بتنمية الأفراد وبناء المجتمع وإشباع احتياجاته، ثم علاقة ذلك بالتنمية الشاملة. كما استخدمت الدراسة أداة المقابلة لجمع المعلومات والبيانات التي تساعد في فهم وتحليل أبعاد المشكلة البحثية. وأجرى الباحث مقابلات مع شخصيات إعلامية متخصصة، واستعان أيضًا بأداة صحيفة الاستبيان التي مكَّنته من معرفة طبيعة علاقة المبحوثين بالإعلام الجديد وتأثيراته المعرفية والسلوكية في عينة الدراسة. واهتم الباحث بتحليل عينة من المحتويات الإعلامية التي نُشرت في مواقع إلكترونية وبُثت في إذاعات وقنوات رقمية ووسائل تواصل اجتماعي ومدونات، وذلك لرصد التناول الإعلامي لكل ما له علاقة بالتنمية ومجالاتها وأبعادها.

 

  1. الإعلام والتنمية: أية علاقة؟

اهتمت الأطروحة بدراسة العلاقة الجدلية بين الإعلام والتنمية، واعتبر الباحث عبد العزيز المنتاج أن التنمية رافعة لتأهيل الإعلام في المجال التنموي، وأن الإعلام أيضًا أداة من أدوت تحقيق التنمية، سواء على مستوى العنصر البشري أو على مستوى البنيات التحتية. وفي هذا السياق، فإن الإعلام التنموي الذي يُسمى بصحافة التنمية -بحسب ليونارد سوسمان (Leonard Sussman)- يركز على أخبار التطورات في مجالات التنمية. ويتلخص دور هذا الإعلام في تبني المشاريع التنموية ودعم مؤشراتها والدفاع عنها في محاولة لخلق الجو المناسب لتحقيق نتائجها، ويستخدم مختلف الوسائل لتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، بالإضافة إلى التوجيه والرقابة والنقد. ومن جهة أخرى يسعى إلى إحداث التحول الاجتماعي والمساهمة في تقدم المجتمع وتطويره، وقد مرَّ الاهتمام بالإعلام التنموي بثلاث مراحل:

– أولًا: مرحلة الإهمال، وانطلقت في نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الستينات، وكانت نظريات التنمية لا تعير اهتمامًا للإعلام وترى ألا أهمية له في تحقيقها؛ إذ إن التنمية مرتبطة بالجانب المالي والاقتصادي والاستثماري فقط.

– ثانيًا: مرحلة المبالغة، وامتدت خلال الستينات والسبعينات، وساد اعتقاد بأن للإعلام دورًا كبيرًا وفعالًا في تعبئة الموارد البشرية، وذلك من خلال اكتساب قيم واتجاهات وأفكار تنموية جديدة.

– ثالثًا: مرحلة التوازن، واعتبرت وسائل الإعلام مهمة في تنفيذ الخطط التنموية، من خلال تركيز الاهتمام على مشاكل التنمية وأهدافها، وقدرتها على النهوض بمجالاتها؛ ذلك أن الإعلام عامل مؤثر وأداة للتغيير في نظام اجتماعي شامل.

ويشير الباحث المنتاج إلى تعاظم دور الإعلام التنموي بسبب ثورة المعلومات، وظهور الإعلام الجديد وما يتيحه من خصائص المشاركة والتفاعل؛ إذ ضاعف من حجم الاهتمام بقضايا المجتمع وما يعانيه من مظاهر التخلف. وأصبحت الحياة اليومية للمواطنين أكثر حضورًا من خلال هذا الإعلام الذي أسهم في زيادة فرص التعليم والتعلم والتوعية. كما عمل على تحفيز الأفراد على المشاركة في المشاريع التنموية والقبول بها وتبنيها.

 

  1. الإعلام الجديد والمشاريع التنموية في المغرب

يقوم الإعلام الجديد بدور ناجع في خلق المناخ المناسب لنجاح المشاريع التنموية؛ إذ يدفع إلى إشراك جميع فئات المجتمع في الاهتمام بقضايا التنمية، وتحويلها إلى عامل مساند وداعم لما يُنجز من مشاريع؛ فلا تنمية بدون إعلام، كما بيَّن عدد من الباحثين. ويمكن -بحسب ولبور شرام (Wilbur Schramm)- توظيف وسائط الإعلام داخل المجتمع بغرض تعزيز القيم الإيجابية وتنمية الاتجاهات التنموية. ويبدو أن الإعلام الجديد كفيل بخلق هذا الوعي التنموي لدى الأفراد، ودفعهم إلى تبني ما تنجزه الدولة من مشاريع تنموية واحتضانها. ويقول الأكاديمي، فاروق أبو زيد: “إن دور الإعلام يتمثَّل في كونه منبِّهًا للتنمية من خلال إثارة اهتمام المواطنين بقضاياها وحشد الدعم الشعبي لها؛ لأنها تفقد مضمونها دون مشاركة شعبية فعلية”. وقد أكدت الأمم المتحدة هذا الرأي في أحد تقاريرها؛ إذ اعتبرت أن “تحسين نشر المعلومات وتعبئة الرأي العام يزيد من رفع الوعي بقضايا التنمية، ويعزز فرص تحقيق أهدافها”. وهو الأمر نفسه الذي أقرَّ به شرام الذي يرى أن نجاح التنمية لا يتحقق إلا بقرارات يتخذها المعنيون بها، وقبل اتخاذ هذه القرارات، يجب أن يُعطى للإعلام فرصة خلق الجو والظروف الملائمين لها… وجعل شعوب الدول النامية تتخذ قرارات التنمية، وتُتاح لها قاعدة المشاركة، فإذا أتيح لهم تدفق إعلامي، فإنهم سيكونون قادرين على فعل أشياء كثيرة بشأن تحديد الأهداف وتقرير متى يتغيرون وكيف يتغيرون وماذا يريدون لمجتمعهم من تغيير.

وتشير الدراسة إلى أن الإعلام الجديد في المغرب استطاع خلق إجماع وطني حول مشاريع التنمية من خلال مواكبته وتغطيته لمشاريع ومنجزات وطنية كبرى، وبسبب توفيره لقاعدة مهمة من المشاركة والتفاعل، ونتيجة لما يُقدَّم حولها من أرقام ومعطيات، تجعل المواطن أكثر قناعةً بجدواها، وأكثر استعدادًا للانخراط في دعمها واحتضانها بشكل فعال. وتبيِّن نتائج استطلاع الرأي مع المبحوثين أن الإعلام الجديد استطاع خلق إجماع وطني حول بعض القضايا؛ إذ عبَّرت نسبة 89.20% من المبحوثين، من أصل 186 فردًا، عن ثقتهم في الإعلام الجديد وقدرته على خلق هذا الإجماع، بينما أكد 10.8% من المبحوثين أنهم غير متأكدين من ذلك.

إن التغطية الإعلامية المكثفة التي قامت بها وسائل الإعلام الجديد للمشاريع التنموية في المغرب (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ميناء طنجة المتوسطي، مشروع نور للطاقة الشمسية، مشروع تهيئة ضفتي أبي رقراق، مشاريع صناعات السيارات، مشروع المدينة الذكية طنجة تيك، مشروع الأقمار الصناعية، مشروع المخطط الأخضر…)، مكَّنت الجمهور من متابعتها والتعرف عليها. واستطاعت التغطية أن تخلق جوًّا عامًّا إيجابيًّا حولها يدفعهم للانخراط في دعمها وحسن التفاعل معها. لذلك، فإن هناك مهامَّ إضافية للإعلام داخل المهمة الرئيسية لتعبئة الموارد البشرية -بحسب بعض الباحثين- إذ لابد أن يتلقى الناس المعرفة التي يحتاجونها كي يستقر رأيهم فيما يعتقدونه استقرارًا نهائيًّا (…) فبدون إعلام كاف لن يكون هذا القرار قوميًّا؛ لأنه لم ينبن على إرادة شعبية؛ ذلك أن الإعلام يعمل على خلق الإجماع حول القضايا الأكثر أهمية، ويخلق الجو العام المناسب لنجاحها، ويهيئ الظروف الاجتماعية والنفسية والثقافية للأفراد والجماعات من أجل الاستجابة للخطط والبرامج التنموية بشكل فعال. وقد قام الإعلام الجديد من خلال متابعته لمشاريع التنمية التي أطلقها المغرب بخلق الجو الملائم لها.

لكن هذا الإعلام نفسه نشر وجهات نظر منتقدة لبعض المشاريع التنموية، وكان هذا النقد تارة بنَّاء يكشف ظروف تنزيل تلك المشاريع وإكراهاتها وعيوبها، وتارة أخرى كان نقدًا ساخرًا يبيِّن رأي فئة من المغاربة تجاه هذه المشاريع التنموية. ورغم قسوة هذه الانتقادات، فإنها تشير إلى اهتمام المواطنين بالمشاريع التنموية والتفاعل معها والمشاركة فيها والتوجيه لمساراتها. لذلك يتجلى دور الإعلام في التنبيه للمخاطر قصد تداركها ومعالجتها قبل فوات الأوان.

 

  1. الإعلام الجديد تعزيز لمؤشرات التنمية

دأبت الأمم المتحدة في تقاريرها السنوية على تعريف التنمية بأنها توسيع للخيارات أمام الناس، مثل حياة صحية طويلة وتقاس بمتوسط العمر المتوقع عند الولادة، والقدرة على اكتساب المعرفة التي تقاس بمتوسط سنوات الدراسة والعدد المتوقع لها، والقدرة على تحقيق مستوى معيشي لائق. بمعنى أن الأمم المتحدة تركز في تقاريرها على التعليم والصحة وتحسين الدخل، وهي الأبعاد الثلاثة التي تعتبرها الأمم المتحدة مؤشرات أساسية، ولكي يكون القياس أكثر شمولية تضيف إليها الأمم المتحدة دلائل أخرى مثل تكافؤ الفرص، والمساواة بين الجنسين، ودرجة تمكين المرأة، بالإضافة إلى قياس ظواهر أخرى كالفقر والهشاشة والبطالة والفساد.

وفي مجال التعليم، بيَّنت نتائج استطلاع الرأي أن 61.2% من عينة الدراسة يستخدمون الإعلام الجديد للتعليم، في حين أقر 97.3% أن وسائل الإعلام الجديد أفادتهم فعلًا في التعليم والتعلم الذاتي. لذلك فإن التقنية الجديدة، بوجهها الإعلامي، قد تكون عاملًا مساندًا ومكملًا لما تقوم به المدرسة، بل إن وسائل الإعلام الجديد حدَّت من احتكار المدرسة للتربية والتعليم ليصلا إلى بيئة تعليمية عالمية في الفضاء الافتراضي.

ويستغل التلاميذ والطلبة مواقع التواصل الاجتماعي لإنشاء صفحات ومواقع وقنوات للمراجعة والدعم يشتركون فيها لتبادل المعارف والمعلومات والمراجع والأبحاث، ويجيبون عن تساؤلات بعضهم البعض. كما ينشرون فيها الدروس والمحاضرات وأسئلة الامتحانات، ويتعاونون في الإجابة عليها. وتنتشر هذه الصفحات والمواقع في المغرب تارة بأسماء مديريات التعليم، أو باسم الثانويات والإعداديات والجامعات، مثل صفحة “طلبة الدراسات العربية بجامعة ابن زهر” التي تضم حوالي 10 آلاف مشترك، أو “ملتقى طلبة العلوم القانونية بأكادير” الذي يضم 84000 مشترك، وقناة الجامعة المغربية، ناهيك عن العديد من الصفحات على فيسبوك ويوتيوب ومجموعات الواتساب، مثل قناة مغرب الطلبة، وهي قناة تنشر روابط مواقع وقنوات مفيدة للطلبة، بالإضافة إلى نشر تمارين ودروس وامتحانات وملخصات.

وتنتشر على يوتيوب وفيسبوك مواقع وقنوات تعليمية تهتم بجميع أنواع التعليم، سواء تعليم اللغات أو تعليم المهن والتدريب عليها. وتزخر هذه المواقع بكل ما يبحث عنه المستخدم مهما كانت اهتماماته، سواء أراد تعلم لغة أو علم أو اكتساب معرفة، أو أراد تعلمًا يدويًّا، أو تقنيًّا كالميكانيكا أو الكهرباء أو الترصيص أو الرسم أو النحت أو البحوث المرتبطة بالزراعة والفلاحة وتربية المواشي.

 

  1. الإعلام الجديد وتحسين الدخل ومحاربة الفقر

بعد انتشار الإنترنت واشتراك فئات واسعة من المجتمع في خدماته، أنشأ عدد كبير من المغاربة صفحات عبر شبكات التواصل الاجتماعي وقنوات رقمية وإذاعات خاصة، وشرعوا في تقديم محتويات متنوعة، فنية وكوميدية وبرامج ثقافية، تشمل الطبخ والغناء وتسجيلات لحياتهم اليومية وللعادات والتقاليد المغربية. وأدى ذلك إلى انتشار واسع وازدهار كبير لصناعة المحتوى في الإعلام الجديد، وكشفت دراسة أجراها مكتب مجموعة “إنتيل” (intell) أن 97% من المستجوبين المغاربة يعتبرون أنفسهم مبدعين في صناعة المحتوى، وأن 42% ممن يشتغلون في صناعة المحتوى جلهم من الشباب. وقد مكَّنت هذه الأنشطة الإعلامية الجديدة بعض صانعي المحتوى من جني أرباح مهمة تصل إلى 20 ألف درهم شهريًّا (حوالي ألفي دولار)، سواء من خلال ترويجهم لفيديوهات ينتجونها أو من خلال استفادتهم من الإعلان.

لا يقتصر جني الأرباح عبر وسائل التواصل الاجتماعي على الإشهار وصناعة المحتوى، بل نجد مغاربة يربحون أموالًا من خلال قيامهم بالوساطة الإلكترونية؛ حيث يقومون بترويج روابط المنتوجات أو بيعها للمستهلكين مقابل حصولهم على نسبة من المواد المبيعة، أو مقابل كل ولوج للموقع المحدد. فالوسيط يحصل على قدر محدد من المال عن كل شخص دخل إلى موقع معين أو اشترى عبره، كما تُجنى الأرباح كذلك من بيع الصفحات والمواقع الإلكترونية بحسب سمعتها وعدد مشاهديها ومتابعيها. وخلال 2016، سارعت الحكومة المغربية إلى إصدار قانون جديد للصحافة والنشر المعروف بقانون رقم 88.13، وقد جاء في إحدى مواده ضرورة خلق مقاولات إعلامية، والتعهد بتوظيف ثلاثة أشخاص والتصريح برواتبهم ووضعيتهم المالية، قبل التقدم بطلب الحصول على ترخيص الملاءمة، وهو ما يعد توسيعًا لفرص العمل في أوساط الشباب ومحاولة لمحاربة البطالة وتحسين الدخل.

إن لجوء المغاربة إلى وسائل الإعلام الجديد أمْلته الحاجة إلى تحقيق دخل فردي وعائدات مالية لمواجهة الفقر وتحسين الدخل، وهو التوجه الذي أصبح رائجًا في العالم؛ حيث يلجأ أصحاب المواهب في إنتاج الفيديو إلى إنشاء شركات صغيرة للتعامل مع مختلف العملاء عبر العالم.

 

  1. التنمية السياسية والثقافية والمحافظة على البيئة

يتشكَّل الوعي السياسي بفضل مؤسسات التنشئة السياسية، من جمعيات وأحزاب ونقابات ومنظمات حقوقية، لكن يبقى الإعلام من أبرز وسائل التأثير في نشر الوعي السياسي وأكثرها تحكمًا في تأطيره. وفي السياق المغربي، أسهم الإعلام الجديد في نشر وعي سياسي بين المغاربة، بعد أن جعلهم أكثر اهتمامًا بقضايا الشأن العام، وأكثر انخراطًا فيما يجري على الساحة السياسية، سواء من خلال التعبير أو المشاركة. فقد عبَّر 85% من أفراد عينة الدراسة عن أن الإعلام الجديد أسهم في إيجاد نقاش عام حول القضايا التي تمس الحياة اليومية للمواطن، وأكد 84.6% من المبحوثين أن هذا الإعلام جعل المغاربة أكثر اهتمامًا بقضايا الشأن العام. وتتوافق هذه النسب مع ما جاء في إحدى الدراسات التي بيَّنت أن 85% من طلبة الجامعة بالمغرب يشاركون في الحراك الجماهيري والسياسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، علمًا بأن فاعلية الديمقراطية تظهر في تشجيع المواطنين على الإدلاء بآرائهم، والمشاركة في الحركات الاحتجاجية.

وإذا كانت التنشئة السياسية تتحقق عبر نشر الوعي، فإنها تتجسد أيضًا عبر التعريف بمؤسسات الدولة وأدوارها. وقد أسهم الإعلام الجديد في تعريف المغاربة بالحكومة والبرلمان والمعارضة والعلاقة بينهما، بعد أن أصبحوا أكثر إدراكًا لكيفية تشكيل هذه المؤسسات المنتخبة. ويوجه المغاربة سهام انتقاداتهم للحكومة ولأغلبيتها البرلمانية، باعتبارها المسؤولة عن تدبير الشأن العام، ويلجأ هؤلاء إلى نشر مداخلات نواب المعارضة ومشاركتها احتجاجًا على القرارات الحكومية.

ومن القيم الجديدة التي تعمل وسائل الاعلام الجديد على غرسها في المجتمع المغربي الحفاظ على البيئة وتجنب ما يتسبب في تدهورها، مثل تلوث الماء والهواء والتصحر، كما تسعى إلى خلق الوعي بأهمية التعايش المتبادل بين الإنسان والبيئة والملاءمة بين التقدم الاقتصادي والإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية والبيئة، خاصة أن هناك جهات تعتبر الفقر أكبر ملوث ومدمر للبيئة. فكيف تعمل وسائل الإعلام على مواجهة الفقر والحفاظ على البيئة؟

تعمد المنظمات البيئية إلى إطلاق مواقع إلكترونية وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للتأثير في الأفراد وتأطير الرأي العام، ودعوته إلى المحافظة على البيئة، مثل صفحة “جمعية المحافظة على البيئة”، و”منتدى المواطنة والمحافظة على البيئة”، وصفحة “البيئة في المغرب” على فيسبوك. كما تنشر هذه المواقع منشورات تدعو إلى احترام البيئة والمحافظة عليها، وقد أطلق نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي مبادرات وحملات بيئية تفاعل معها المغاربة بشكل إيجابي، مثل الحملة التي استهدفت فضيحة استيراد نفايات إيطاليا، وتحولت هذه القضية إلى رأي عام وطني؛ الأمر الذي أثار غضبًا عارمًا، أطَّرته وسائل التواصل الاجتماعي وانتهى بإيقاف الحكومة المغربية لهذه الصفقة، وإعفاء الوزيرة المعنية بها. وقد نبهت عدة مواقع إلكترونية إلى خطر تلوث الهواء حيث تعرف عدة مدن مغربية هواء ملوثًا.

 

  1. الإعلام الجديد وإكراهات تحقيق التنمية

من الإكراهات التي قد تعطِّل التنمية في المغرب ما يُعرف بالفجوة الرقمية، أي الهوة بين الأشخاص الذين يستطيعون استخدام الإنترنت والتقنية الرقمية بسبب امتلاكهم المهارة اللازمة والقدرة المادية والوسائل الأساسية، والأشخاص الذين لا يستطيعون بسبب غياب عامل من هذه العوامل. ويمكن أن يؤثر اتساع الفجوة الرقمية في إنجاح مهام وأدوار الإعلام الجديد؛ ذلك أن افتقار فئات اجتماعية لهذه الخدمات قد يحرمها من الانخراط في التطور والتغيير الاجتماعي، والمشاركة في المسار التنموي.

يتعرض الإعلام الجديد لحملات تشكيك في قدرته على قيادة التغيير؛ إذ يؤكد كثير من الآراء آثاره السلبية، ويتغاضى عن إيجابياته. لكن في الواقع، فإن طبيعة الاستخدام هي ما يحدد وظائفه وآثاره، فإذا استُعمل الإعلام الجديد استعمالًا إيجابيًّا، فإنه يؤدي إلى تحقيق نتائج تخدم التنمية. بالمقابل، إذا أُسيء استعماله، فإنه يؤدي إلى نتائج سلبية تؤثر في التنمية، ولعل المتابع لوسائل الإعلام الجديد في الحالة المغربية سيدرك طبيعة الممارسات التي تحد من أدواره الإيجابية، ومنها: تركيز بعض وسائل الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي على نشر التفاهة والخرافة، من خلال تداول أخبار ومواضيع تافهة ومبتذلة، وذلك بهدف واحد هو البحث عن رفع نسب المشاهدة ونيل كثرة الإعجابات والمتابعات، دون اهتمام بالمسؤولية الإعلامية التي تقتضي من هذه الوسائل الحرص على تهذيب الذوق العام، والالتزام بمبادئ وأخلاقيات المجتمع، واحترام الذوق العام وحقوق الآخرين.

ويؤخذ على وسائل الإعلام الجديد أيضًا ضعف قدرة أدواتها على التمييز بين الأخبار الحقيقية والزائفة؛ إذ تنشر أحيانًا أخبارًا كاذبة، لكن الأخطر أن هذه الوسائل تتعمَّد نشر الأخبار الزائفة والمُضَلِّلَة والإشاعات والترويج لها بهدف تضليل الرأي العام وتوجيهه لأغراض دعائية؛ مما يؤكد صعوبة التحكُّم في هذه الوسائل وضبطها. وتركز بعض وسائل الإعلام الجديد غير المسؤولة على الفضائح وأخبار الجنس والجرائم، وتقديم نماذج سيئة للمجتمع؛ مما يؤدي إلى التأثير في الشباب والمراهقين. وهو ما يفرض على المواقع الإلكترونية والصفحات الاجتماعية أن تستحضر مسؤولياتها الأخلاقية، وتقدم مصلحة خدمة المجتمع على الأرباح المادية.

خاتمة  

بيَّنت الدراسة أن هناك توافقًا بين أهداف التنمية وأدوار الإعلام الجديد الذي يسعى إلى تحقيق ما ترمي إليه التنمية الشاملة ودعم مؤشراتها في المجتمع المغربي، من خلال التعريف بالمشاريع التنموية، وإقناع الجمهور بأهميتها، وإيجاد إجماع وطني حولها، ما يُعد اهتمامًا بالإنسان وإقرارًا بمشاركته ودوره في هذه المشاريع. كما وجَّه هذا الإعلام انتقادات للمشاريع التنموية، وأبرز ملاحظات المواطنين حولها، ما أدى إلى الإسراع في تداركها وإصلاحها. لذلك، فإن الإعلام الجديد لا يحشد الدعم للمشاريع التنموية فقط، وإنما يُوجِّه ويقترح ويقوِّم. وقد أكد قدرته على المساهمة في تحسين خدمات قطاعي التعليم والصحة من خلال كشف عيوبهما وما يعترضهما من مشاكل، وكذلك قدرته على أن يكون وسيلة تعليم وتثقيف وبناء الذات، تنشر الوعي وتؤدي إلى غرس قيم جديدة، كما يوفر كمًّا هائلًا من المعلومات في جميع الميادين، ومنها التعليمية والصحية.

وأوضحت الدراسة، على المستوى التنموي الاجتماعي بالمغرب، أن الإعلام الجديد يعمل على محاربة جميع أشكال التخلف، من أجل بناء مجتمع المؤسسات عوض المجتمع القائم على القبيلة والزاوية والأعراف، بالإضافة إلى نشر قيم التسامح والتعايش، والتضامن، والتآزر، ومحاربة العنف، وكل أشكال التطرف. فتسهيل التواصل، بهذه الصيغة الديمقراطية، كفيل بخلق رابطة اجتماعية وتحقيق تماسك اجتماعي، خاصة إذا كان هذا التواصل إيجابيًّا، يركز على تحقيق إشباعات معرفية ونفسية، ويعمل على إدماج الأقليات، وينشر قيم الاختلاف، وتقديم المصلحة العامة، واحترام القانون ومؤسسات الدولة.

وبيَّنت الدراسة أن الإعلام الجديد يشكِّل دعمًا للاقتصاد الوطني، سواء بما يحققه من عائدات مالية، أو بما يوفره من فرص العمل والرواج التجاري، وتعزيز قطاع التجارة الإلكترونية، ودعم المنتجات المحلية، الفلاحية والصناعية والتقليدية، ودعم السياحة الداخلية، بالإضافة إلى قدرته على جلب استثمارات أجنبية بفضل ما يقدمه عن المغرب وقدراته الطبيعية والجغرافية والتاريخية.

وأكدت الدراسة أن للإعلام الجديد دورًا مهمًّا في تشكيل الرأي العام واستعادة الفضاءات العامة وخلق نقاشات عمومية في الشأن السياسي محليًّا ووطنيًّا ودوليًّا؛ إذ استطاع الإعلام الجديد أن يحول المواطنين إلى كائنات سياسية، ويدفع عددًا هائلًا من المهمشين لمتابعة قضايا الشأن العام والمشاركة السياسية. وتشير وتيرة ارتفاع الاحتجاجات منذ العام 2007 حتى اليوم إلى ارتفاع منسوب الوعي بالقضايا العامة ورغبة في المشاركة لتحديد مسارات التنمية؛ ما يعد مؤشرًا قويًّا على دور الإعلام الجديد في تحقيق التنمية السياسية التي ترتكز على بناء مؤسسات ديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، والمشاركة فيها انتخابًا وترشيحًا وتصويتًا واقتراحًا.