وفاء أبو شقرا – * Wafaa Abu Chakra
ملخص:
تُقارب الدراسة واقع المنظومة الإعلامية اللبنانية وما يحيط به من إشكاليات مهنية وتشريعية وسياسية واقتصادية جعلته أكثر المواضيع السجالية المطروحة في البلد. وتخطت هذه السجالات كل ما يُثار من تحليلات نقدية بخصوص الأزمات السياسية والانهيارات الاقتصادية والمالية التي تعصف بلبنان، منذ خريف 2019، ولم تستثن قطاعًا أو مؤسسة أو طبقة اجتماعية. اعتمدت الدراسة المنظور التاريخي لرصد خريطة المشهد الإعلامي، والأُطر الناظمة للمهنة الإعلامية في لبنان والتحولات التي طرأت عليها، خاصة بين 2011 و2023. وخلصت إلى أن التشوهات البنيوية للنظام السياسي الحاكم معطوفة على طبيعة المِلكية الطائفية والعائلية لوسائل الإعلام، وتقادم قوانين الإعلام المرعية وغياب النقابات الحامية للإعلاميين وفشل النموذج الاقتصادي للمؤسسات الإعلامية، جعلت منظومة الإعلام اللبناني أسيرة “مزاجية” الممولين والسياسيين الذين يقدمون لها الدعم المالي. وترى الدراسة أن معظم الوسائل الإعلامية تحوَّلت في لبنان إلى منصات سياسية تُستخدَم عند الحاجة، وتجرُّ معها البلد إلى مزيد من التوترات التي يعيشها نتيجة أزماته. لذلك بات من الصعب اعتبار النموذج الصحفي اللبناني “تعدديًّا” بالمعنى الذي قصده الباحث الأميركي “وليم روو”، بعدما تشظَّى نظامه إلى “تعدديات زبائنية”، طائفية ومذهبية وسياسية وحزبية.
كلمات مفتاحية: المنظومة الإعلامية اللبنانية، النظام السياسي، النموذج الاقتصادي، الطائفية، التعددية الصحفية.
Abstract:
The study’s examination of the Lebanese media system and its accompanying professional, legislative, political and economic challenges has rendered it one of the most debated subjects in the country. These debates have surpassed all critical analyses regarding the political crises and economic downturns that have plagued Lebanon since the autumn of 2019, affecting every sector, institution and social stratum. The study takes a historical perspective in mapping the media landscape, analysing the regulatory frameworks of the media profession in Lebanon, and assessing the transformations that have occurred, especially between 2011 and 2023. It concluded that the structural distortions of the ruling political system, alongside the sectarian and familial nature of media ownership, outdated media laws, the absence of robust journalist unions, and the failure of the economic model of media institutions, have made the Lebanese media system beholden to the “whims” of financiers and politicians who provide it with financial backing. The study finds that the majority of media outlets in Lebanon have become political platforms utilised as necessary, exacerbating the country’s tensions resulting from its crises. Consequently, it has become challenging to regard the Lebanese journalistic model as “pluralistic” in the sense intended by American researcher William Rugh, as its system has fragmented into sectarian, doctrinal, political and partisan “pluralities”.
Keywords: Lebanese Media System, Political System, Economic Model, Sectarianism, Journalistic Pluralism.
مقدمة
لم تكن 2011 سنة التحولات الاستثنائية في المنظومة الإعلامية اللبنانية، مثلما كانت الحال، ربما، في دول الثورات العربية التي واجهت منظومات إعلامها تحديات جمة كشفت الكثير من عوراتها، وأجبرتها على إدخال تغييرات جذرية في نهجها وصلت، في بعض الحالات، إلى ما يشبه الانقلاب الكامل على الموروث المهني. فالحكاية بدأت في لبنان في العام 2005، حيث عصفت بالبلاد سلسلة أحداث سياسية مفصلية سرعان ما انعكست على حرية الرأي والتعبير التي كانت قد تقهقرت بشكل دراماتيكي خلال حقبة الوجود السوري، وأدخلت القطاع الإعلامي في لعبة الاصطفاف السياسي/المذهبي، ولما يخرج منها بعد.
صحيح أن تناول واقع المنظومة الإعلامية اللبنانية يستدعي منَّا، كباحثين، الحذر من مقاربة الموضوع من زاوية معيارية لا تأخذ في الاعتبار السياقات والظروف المحيطة بالبيئة الصحفية اللبنانية، لكن لا نستطيع، ونحن نرى حال التأزم الذي تقع فيه وسائل الإعلام اللبنانية عند كل مفترق ومع كل محطة حرجة تمر بها البلاد (وما أكثرها في لبنان)، سوى الإقرار بأن هذه البيئة غير سليمة بل هي “فتاكة”(1). نظريًّا، يتمتع لبنان بتجربة فريدة من نوعها فيما يتعلق بحرية الصحافة، مقارنة بغيره من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لكن هذه الحرية تتقلص، يومًا بعد يوم، مع تزايد مستويات الترهيب والرقابة الذاتية التي تنبع من معادلات طائفية وحزبية.
منذ حوالي العقديْن من الزمن، تعصف أزمات متنوعة بأُسُس كيان المهنة الإعلامية اللبنانية، أفضت إلى تحولات بنيوية ومرجعية في تقاليد ممارسة المهنة وأخلاقياتها التي تُرجِمَت، ولاسيما في الإعلام المرئي، تقهقرًا موصوفًا في إنتاج الإعلاميين وأدائهم. لكن ذلك قد لا يكون مفاجئًا، في ظل الانهيار وحالة “التحلل” اللذيْن أصابا معظم القطاعات والمؤسسات الحيوية في البلاد (الخدمات، الصحة، التربية…إلخ)، خاصة في نهاية 2019؛ فجاءا كنتيجة حتمية لعجز مزمن للإعلام عن اتخاذ “شخصية منفصلة” عن الواقع السياسي والاجتماعي في لبنان. إنما لابد من العودة بالتاريخ إلى أساس المشكلة؛ فـ”الخطيئة الأصلية” ارتُكِبَت بحق الإعلام، في الحقيقة، في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، وتمثَّلت في إدخال المؤسسات الإعلامية ضمن منظومة موازين القوى ومحاصصة الدولة.
بكلام أدق، بدل أن يكون الخروج من تلك الحرب مدخلًا لتغيير المشهد الإعلامي في البلاد وبروز مؤسسات إعلامية وطنية التوجه والخطاب، تعززت طائفية الإعلام وفئويته، ليصبح معظمه جزءًا من واقع الاحتراب الشامل في لبنان ومرآة لخارطة انقسامات مجتمعه. ويمكننا القول: لم تعد في لبنان وسائل إعلامية، بالمعنى الصحفي للكلمة، بل “أجهزة إعلامية” استكملت البنى الميليشياوية لتركيبة النظام، ودخلت، من الباب العريض، في متاهات المحاور والتشكيلات والاصطفافات السياسية والطائفية والمذهبية المحلية والإقليمية والدولية، في آنٍ معًا. حاليًّا، تعيش الوسائل الإعلامية اللبنانية المختلفة مشكلة عدم وجود سياسات إعلامية تربط ما بينها؛ ما أدى إلى فوضى مكَّنت عوامل خارجية (أجنبية) من السيطرة على الإعلام اللبناني(2)، ويجد الصحافيون أنفسهم أسرى علاقات القوة التي وقعوا في “شَرَك” لعبة تجاذباتها والتوازنات التي تحكمها. فهؤلاء، وإنْ كانوا الحلقة الأضعف في هذه المرحلة على الرغم من أنهم يبدون الأقوى بسبب الشهرة التي يوفرها لهم عملهم، لكنهم لا يُبالون بالانتقادات التي تُوجه إليهم. هم يعتبرونها مُغرِضة وشكلًا من أشكال تصفية الحسابات بين الجهات السياسية المتناحرة (التي ينطق باسمها معظم الصحافيين)؛ والغريب أنهم لا يقلقون على مصداقيتهم التي زعزعتها أزمة الثقة المتبادلة بينهم وبين الجمهور؛ لأن كل شريحة من الصحافيين لها “جمهورها” الذي تخاطبه ولا يهمها، بالتالي، باقي “الجماهير”.
بطبيعة الحال، هناك مَن يدافع عن مبدأ عدم تحميل الإعلام مسؤولية فيما يعيشه البلد من انهيارات أصابت كافة القطاعات والمؤسسات، بما فيها المؤسسات الإعلامية، وهناك مَن يعتبر، بالمقابل، “أن لبنان قد انهار؛ لأن إعلامه منهار”(3). وأمام هذيْن الموقفيْن حيال ما “إذا كان الإعلام اللبناني أحد ضحايا أزمات البلد” أو “إذا كان أحد المسؤولين الأساسيين عن تلك الأزمات”، تصوغ الباحثة سؤالًا إشكاليًّا مركبًا: ماذا تغير في المنظومة الإعلامية اللبنانية في ضوء رهانات التغيير التي أطلقتها ثورات الربيع العربي والأزمات المتنوعة والمتوالدة التي تعصف بلبنان منذ نحو العشرين عامًا؟ وإلى أي مدى لا يزال ممكنًا اعتبار النموذج الصحفي اللبناني “تعدديًّا”، مع تشظي نظامه إلى “تعدديات زبائنية”، طائفية ومذهبية وسياسية وحزبية؟
- الإطار النظري والإستراتيجية المنهجية للدراسة
لقد اعتمدت الباحثة المنظور التاريخي لرصد واقع المنظومة الإعلامية في لبنان، وخريطة المشهد الإعلامي، والأطر الناظمة للمهنة الإعلامية والتحولات التي طرأت عليها في الفترة الممتدة بين 2011 و2023 (وتحديدًا بعد 2019 التي تُعد سنة انطلاق مسار الانهيارات في لبنان)، إضافة إلى النموذج الصحفي الذي تشكَّل في هذه الفترة. وتندرج هذه الدراسة ضمن الأبحاث العلمية النوعية؛ إذ ترمي إلى مراجعة تقييمية لعمل الصحافيين وأدائهم في بلد يُقال فيه: إن السلطة الرابعة ليست سوى تجلٍّ للسلطة السياسية، وترتبط معها بمصالح مشتركة. وترى الباحثة أن منهج “دراسة الحالة” هو الأكثر ملاءمة لطبيعة الدراسة؛ إذ يساعدنا على التعمق في دراسة حالة المنظومة الإعلامية اللبنانية من خلال تجميع المعلومات والوثائق حولها، من مصادرها الأصلية، ومن ثم تنظيمها وتحليلها وتقييمها، للوصول إلى فهم أفضل لواقع المشهد الإعلامي اللبناني وبيئة عمل الصحافيين وتحديد سماتها والمشكلات والتحديات التي تعترضها، والبحث عن مؤشرات للإجابة عن السؤال الإشكالي واتخاذ التوصيات المناسبة(5).
لقد تألَّفت مدونة البحث من 57 مادة منشورة منذ العام 2011 (دراسات وأوراق بحثية ومواجز سياسات ومعايير وتقارير ومقالات تحليلية وأعمال صحفية تناولت مواضيع ذات صلة بالمنظومة الإعلامية اللبنانية)، ومجموعة القوانين الناظمة للمطبوعات والنشر في لبنان (من القانون العثماني في 1909 حتى يومنا هذا)، والشرعات المحلية والدولية الخاصة بأصول ممارسة المهنة الصحفية. ولأن الدراسة بحث نوعي يغوص في تحليل واقع الإعلام اللبناني ووظائفه ودوره، استعانت الباحثة بأداة المقابلة للتعرف على وجهة نظر الصحافيين، أنفسهم، في ممارسة المهنة الإعلامية في لبنان، وما يواجههم من تحديات خلال هذه الممارسة، وأجرت مقابلات نصف موجهة استندت إلى دليل يتكوَّن من سبعة أسئلة مفتوحة(6) طُرحت على عينة من 26 صحافيًّا لبنانيًّا؛ معظمهم مارسوا مهنة الصحافة على مدى خمسة عشر عامًا كحد أدنى، ومنهم مَن لا يزال يمارس العمل الصحفي في منابر إعلامية، وطنية وعربية وأجنبية، وبعضهم باحثون إعلاميون أو يشغل مناصب نقابية أو أكاديمية (وهؤلاء جميعهم مارسوا مهنة الصحافة لفترات محددة). وأجريت المقابلات بين 25 يناير/كانون الثاني و28 فبراير/شباط 2024، تبعًا للطريقة التي فضلها المبحوثون (عبر الاتصال المواجهي المباشر أو استخدام تطبيق “زووم” أو “واتساب” أو البريد الإلكتروني).
- خريطة المنظومة الإعلامية اللبنانية
عاشت المجتمعات العربية طويلًا تحت وطأة نموذج “إعلام جماهيري لا متكافئ” جسدته هيمنة “الصوت الوطني الواحد” على المنظومات الإعلامية، قبل أن يبدأ هذا النموذج بالانحلال تدريجيًّا بفضل ما أتاحته التقنيات من إمكانات لتلقي الجمهور مضامين إعلامية مختلفة المصادر. لكن ذلك لم يكن واقع حال الإعلام في لبنان المعروف تاريخيًّا، أنه لم يكن، حتى الأمس القريب، مركزًا إقليميًّا للإنتاج الإعلامي فحسب، بل يمكن اعتباره، كذلك، أحد أكثر البلدان ليبرالية وحرية في الشرق الأوسط ويمتاز بتنوع قطاعه الإعلامي. وهو، وعلى الرغم من قلة عدد سكانه وحجمه الجغرافي، “يلعب دورًا مؤثرًا في إنتاج المعلومات في قلب شبكة إعلامية إقليمية ذات آثار عالمية”(7).
يحتاج إنشاء أي وسيلة إعلامية جماهيرية في لبنان إلى ترخيص رسمي، تبعًا لنوعها، عن طريق الحصول على قرار من مجلس الوزراء أو من وزارة الإعلام. وهكذا، لا يمكن للصحف اليومية والدورية ومحطات الإذاعة والقنوات التليفزيونية الأرضية والفضائية وحتى المنشورات أن تتأسس، من دون الحصول على ترخيص مسبق من السلطات الرسمية (الاستثناء الوحيد البارز هو حرية طباعة الكتب؛ ما جعل لبنان ملاذًا للناشرين في العالم العربي). صحيح أن الإعلام في لبنان مزدهر، نسبيًّا، لكنه يخرج عن أي إطار سليم، لكونه يشكو من علَّة مهولة تتجلى في تَطْيِيف شامل للوسائل الإعلامية. فقد توسعت، خلال الحرب، الإدارة الذاتية للطوائف اللبنانية لتمتد إلى شؤون الإعلام، فبات للطائفية دور حاسم داخل المؤسسات الإعلامية، على أنواعها(8)، بهدف تحقيق وظيفة إعادة تشكيل وعي “جمهور الطائفة” وتأطيره، بما يخدم موقف الزعامات الطائفية في تعزيز مواقعها (في صراعاتها) داخل بنية النظام.
لا يلاحظ المراقب الخارجي، ربما، أن لكل مؤسسة إعلامية في لبنان لونًا طائفيًّا أو مذهبيًّا مميزًا، يمكن تلمسه عبر بعض المؤشرات، مثل: الموقع الجغرافي للمؤسسة، والهوية المنسجمة مع هذا الموقع لمالكها وغالبية أعضاء مجالس إدارتها والمسؤولين والعاملين فيها، وجمهورها، والمضمون الذي تحجبه أو تقدمه لجمهورها، والمفردات والتعابير المختارة، واهتمامها بمناطق أكثر من غيرها، وبمناسبات دون سواها، وينسحب هذا “الفرز الطائفي للمؤسسات الإعلامية” حتى على الإعلانات. وفي الوقت الذي نشهد فيه تقهقر “الصحافة الحزبية” في دول العالم، بما فيها الدول العربية، من خلال تغير هوية بعضها واحتضار بعضها الآخر (نتيجة جملة من العوامل)، يبدو لبنان حالة استثنائية، على هذا الصعيد. فأمام تزايد عدد الصحف والمجلات والمحطات الإذاعية والقنوات التليفزيونية فيه، ظهر ما يُسمَّى “الإذاعة الحزبية” و”القناة التليفزيونية الحزبية” و”الموقع الإلكتروني الحزبي”، وهو، بهذا النوع من الإعلام، كما يرى البعض، لا يشكل لبنان نموذجًا فريدًا في الوطن العربي، فحسب، بل في العالم كله تقريبًا(9). وهنا، تحاول الباحثة الإجابة عن السؤال الآتي: ما مكونات منظومة الإعلام اللبناني حاليًّا؟
أول ما يثير انتباه الباحث في القطاع الإعلامي اللبناني ثلاث مسائل: كثرة عدد وسائل الإعلام، وضعفها، وتمركز غالبيتها في العاصمة ومحيطها وابتعادها عن الأطراف. كان لبنان أول ناشر للصحافة على المستوى العربي؛ ذلك أنه كان يُؤمِّن تسويق 1358 عنوانًا مختلفًا (بين صحيفة يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية وسنوية) من أصل 2714 عنوانًا يتم تسويقها في العالم العربي. فكان يصدر في لبنان، حتى سنة 1995، 13 صحيفة يومية سياسية و10 مجلات أسبوعية سياسية إضافة إلى مئات المجلات الفنية والمتنوعة. وتشير المعطيات الإحصائية إلى أن هناك حوالي 42 ترخيصًا لصحف يومية سياسية و39 أسبوعية سياسية و1200 لمطبوعات غير سياسية. أما المشهد السمعي-البصري فكان يضم، إلى جانب مجموعة الإعلام الرسمي -أي “تليفزيون لبنان” و”الإذاعة اللبنانية” و”الوكالة الوطنية للإعلام”-، 7 محطات تليفزيونية خاصة موزعة، محاصصةً، على الطوائف والمذاهب الكبرى والقوى السياسية المُمثلة في السلطة، إضافة إلى 20 محطة إذاعية فئة أولى (يحق لها بث الأخبار والبرامج السياسية) و16 محطة إذاعية مصنفة فئة ثانية (أي فنية)(10).
ونلاحظ فيما يخص المشهد الإعلام الرقمي بروزًا مطردًا للمواقع الإخبارية كبديل للوسائل الإعلامية التقليدية (مع تحفظي على هذه التسمية التي باتت مُعتمَدة)، لكن لا يوجد، لدى وزارة الإعلام اللبنانية، أي إحصاء دقيق لهذه المواقع. وفي هذا الإطار، كشف رئيس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، عبد الهادي محفوظ، (5 يوليو/تموز 2022)، أن “هناك أكثر من ألف موقع إلكتروني إعلامي مسجل في المجلس الوطني للإعلام تحت عنوان العِلم والخبر”. وعلَّق محفوظ بأنه بات لكل سياسي في لبنان، تقريبًا، موقعه الإلكتروني، مرجحًا أن يكون الدافع لهذا الإقبال السياسي الاستثنائي على طلبات إنشاء المواقع (سواء أكانت شخصية أو حزبية)، هو استباقُ فرضِ قيود، في المستقبل، على تأسيسها. وفيما يلي خارطة المنظومة الإعلامية الحالية، بحسب اللوائح الرسمية التي حصلت عليها الباحثة من وزارة الإعلام اللبنانية (بتاريخ 7 مارس/آذار 2024)(11):
جدول (1): توزيع خريطة الوسائل الإعلامية اللبنانية في 2023
م | نوع الوسيلة | العدد | النسبة (%) |
1 | صحف يومية صادرة | 10 | 8.33 |
2 | مجلات أسبوعية | 47 | 39.16 |
3 | مجلات شهرية | 4 | 3.33 |
4 | إذاعات | 13 | 10.83 |
5 | تليفزيونات | 7 | 5.83 |
6 | مواقع إخبارية | 39 | 32.5 |
المجموع | 120 | 100 |
ما أبرز التحولات في خارطة المشهد الإعلامي اللبناني بين 2011 و2023؟
على الرغم من إعادة صدور صحيفة “الجمهورية” في 2011 وتأسيس صحيفة “نداء الوطن” في 2019(12)، فإن التحول الأساسي في المنظومة الإعلامية اللبنانية هو التراجع الكبير جدًّا للإعلام الورقي في لبنان. وبين 2011 و2019، توقفت بعض المطبوعات (المختلفة الاتجاهات والاختصاصات) عن الصدور، وانتقل معظمها إلى النشر الرقمي؛ وهي بحسب تسلسل غيابها: “البيرق”، و”ماندي مورنينغ” (Monday Morning)، و”لاريفي دي ليبان” (La Revue du Liban) ، و”الأسبوع العربي”، و”الكفاح العربي”، و”إسترتيجيا”، و”فن”، و”السفير”، و”الحوادث”، و”الاتحاد اللبناني” (بعد أقل من ثلاثة أشهر على انطلاقها)، و”البلد”، و”دار الصياد” (الذي يضم جريدة “الأنوار” ومجلات “الصياد” و”الشبكة” و”فيروز” و”الدفاع العربي” و”الفارس”). وبعد أكثر من 70 عامًا على إنشائها (في لبنان) وشهر على توقف طبعتها الورقية، أعلنت صحيفة “الحياة”، في 30 يونيو/حزيران 2018، إغلاق مكتبها في بيروت، حيث كانت تصدر النسخة الدولية للصحيفة وتُوزع في أنحاء العالم (النسخة الثانية سعودية محلية). كما صدر العدد الورقي الأخير لجريدة “المستقبل” في 31 يناير/كانون الثاني 2019، لتضرب الأزمة في السنة ذاتها، وللمرة الأولى، الإعلام المرئي من خلال توقف بث قناة “المستقبل”، عقب أزمة مالية عانى منها مالكها رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، ونتج عنها صرف حوالي مئتي موظف موزعين بين عاملين وتقنيين.
هناك تحول آخر في المشهد الإعلامي تمثَّل في دخول مكون جديد إلى المنظومة الإعلامية في لبنان، اصطُلِح على تسميته “الإعلام البديل”، وهو يعني المنصات التي تستخدم الوسائل الرقمية، أو أيضًا وسائل الإعلام المطبوعة، “لتوفير وسائل الاتصال الديمقراطي للأشخاص الذين يتم استبعادهم، عادة، في وسائل الإعلام التقليدية”(13). معلوم أن ولادة هذه المنصات “دشنت” مطلع الألفية الثانية، لكن هذه الظاهرة ازدهرت بعد حدث الربيع العربي؛ إذ إن هناك 19 منصة إعلام بديل في لبنان، تتوجه، حاليًّا، للجمهور باللغتيْن، العربية والإنجليزية (تم تأسيسها بين عامي 2000 و2020)، وتنشر 85% منها بشكل يومي، بينما تعتمد البقية على النشر الأسبوعي أو الشهري(14). وهذا يثير سؤال: مَن يملك الوسائل الإعلامية في لبنان، القديم منها والجديد؟ وما مصادر تمويلها؟
- ملكية المؤسسات الإعلامية وتمويلها ونموذجها الاقتصادي
بالرغم من وجود تشريعات تنظم ملكية وسائل الإعلام في لبنان وتمنح وزارةَ الإعلام سلطة مراقبة شؤونها المالية، لكن ليس للدولة اللبنانية سيطرة تُذكَر على المؤسسات الإعلامية التي تسعى، بغالبيتها العظمى، إلى الاعتماد على المستثمرين السياسيين و/أو المتمولين الأجانب. وباستثناء “الإذاعة اللبنانية” و”تليفزيون لبنان” و”الوكالة الوطنية للإعلام”، يملك مزيج من “رأسماليي السلطة” و”رأسماليي المذاهب”(15)، أي أولئك الذين تحكمهم المصالح السياسية المحلية أو الخارجية، كل القطاع الإعلامي اللبناني. في 27 مايو/أيار 2024، خلصت دراسة استقصائية -حلَّلت قاعدة بيانات عينة من 37 وسيلة إعلامية لبنانية في قطاعات التليفزيون والإذاعة والطباعة والإنترنت تتمتع بأعلى حصص متابعة في لبنان- إلى نتائج لافتة؛ إذ تبيَّن أن 80% تقريبًا من وسائل الإعلام ترتبط، من خلال الأسهم والملكية، بالطبقة السياسية اللبنانية، بما في ذلك أولئك الذين يشغلون مناصب في السلطتيْن التشريعية أو التنفيذية. وأظهرت نتائج الدراسة أن أكثر من 70% من مالكي وسائل الإعلام (من الأفراد والشركات العاملة في الوسائل الإعلامية موضوع الدراسة) مرتبطون بسياسيين منتخَبين أو معيَّنين، بمن في ذلك أعضاء البرلمان أو الوزراء أو قادة الأحزاب. لكن أكثر ما يلفت الانتباه في هذه النتائج أن 90% تقريبًا من وسائل الإعلام اللبنانية تُصر على إخفاء مصادر تمويلها، والتي نادرًا ما ترتبط بالإعلانات أو عائدات الإنتاج(16).
وعندما نتحدث عن النموذج الاقتصادي، نكون نعني، بشكل أساسي، الطريقة التي تؤمِّن بها المؤسسة الإعلامية المبالغ النقدية اللازمة لرأس مالها وإيراداتها ومصروفاتها، وتمكينها من تنفيذ أهدافها، وإبقاء مشروعها الإعلامي مستمرًّا. “في لبنان، لا يمكن التعرف، بأي شكل من الأشكال، على الواقع المالي الفعلي للمؤسسات الإعلامية؛ فهي “تحافظ، ومنذ تأسيسها، على حالة من انعدام الشفافية في تمويلها، وبالتالي، تظل مواردها واقتصادياتها صندوقًا أسود مجهول المصادر”(17). بين العاميْن 2005 و2011، صار الإعلام اللبناني يعيش، بمعظمه، على المال السياسي الذي كان جزء منه “يُجنى” من بعض دول الخليج العربي، بشكل مباشر، ومن إيران، بشكل غير مباشر (جرَّاء الصراع السياسي الذي كان مندلعًا في لبنان والمنطقة). لكن تبعات “الأزمة المالية” بدأت تظهر، بوضوح، في الإعلام اللبناني بين 2013 و2014، أي عندما نضبت موارد المال العربية؛ إما بسبب تدني أسعار النفط أو الأزمات الاقتصادية العالمية أو استنزاف الحروب في سوريا واليمن والعراق أو، كذلك، بسبب انتفاء الوظيفة التي كانت تؤديها الوسائل الإعلامية اللبنانية في إعادة تشكيل وتأطير الرأي العام (بعدما شهدت الدول العربية ولاسيما الخليجية منها نهضة إعلامية عبَّرت عن بيئتها).
استفحلت الأزمة المالية بمعظم الوسائل الإعلامية بعد عام 2018، أي بعدما أصبحت فاتورة التشغيل تتجاوز ما تحققه عائدات الإعلان التي لامست الصفر سنة 2020 (كما يؤكد القائمون على المؤسسات الإعلامية اللبنانية ويشكِّك أهل الاختصاص بدقة الأرقام التي يعلنونها). ومنذ سنوات، كما أشرنا آنفًا، تحاول الكثير من المؤسسات الإعلامية اللبنانية الانتقال إلى المجال الرقمي؛ فأنشأت معظم الصحف والإذاعات والتليفزيونات مواقعها على الإنترنت، وأطلقت بعض الوسائل الإعلامية خدمة الاشتراك الشهري أو نصف السنوي أو السنوي (والتي تتراوح قيمته ما بين 5 و6 دولارات شهريًّا). “وبين 2016 و2018، حصل التحول الكبير والحاسم في موضوع تمويل الإعلام اللبناني؛ إذ أصبح المال السياسي المحلي هو المتحكم الأساسي في المنظومة الإعلامية اللبنانية، وأضحى العامل الوحيد القادر على التأثير في مكونات هذه المنظومة، مؤسسات وأفرادًا. ومصدر هذا المال، هو بعض المصارف والسياسيين الذين وزعوا الرشاوى على الإعلام، ولاسيما في بعض الاستحقاقات المهمة (مثل الدورات الانتخابية)”(18).
غير أن الطامة الكبرى ظهرت في 2019، أي السنة التي انفجرت فيها انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول الشعبية؛ إذ أكدت التقارير التي نشرها المصرف المركزي (ومن ثم تقرير التدقيق الجنائي الذي أجرته شركة “ألفاريز آند مارسال” في حسابات مصرف لبنان ونشرته في 2023)(19) وجود صحافيين يتلقون تمويلًا من حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، وحصول وسائل إعلامية لبنانية بارزة، من تليفزيونات وصحف وإذاعات ومواقع، على قروض ميسرة ومدعومة بلغت، أحيانًا، حدود 20 مليون دولار للمؤسسة الواحدة. “وهذه القروض، التي تحولت إلى ودائع لأصحاب المؤسسات الإعلامية في المصارف اللبنانية، كانت رشوة صريحة من حاكم المصرف المركزي (الملاحَق قضائيًّا والمتواري عن الأنظار)، لكي تستطيع مؤسساتهم الصمود بوجه الشح المالي. وهذه القروض، كما فُهِم من أصحاب المؤسسات أنفسهم، ليسوا بوارد تسديدها، أبدًا؛ لأنهم يعتبرونها، في ظل الأزمة الاقتصادية والفوضى المالية العارمة في لبنان، ديونًا هالكة”(20). ماذا عن النموذج الاقتصادي للمؤسسات الإعلامية اللبنانية؟
يعكس نمط ملكية المؤسسة الإعلامية، في أي بلد في العالم، “النموذج الصحفي” الذي يسود فيه، ويُترجَم، عادة، في هياكل المؤسسة الإدارية والتمويلية وإيراداتها واقتصادياتها وتقنيات إنتاجها وسياستها التحريرية ومفاهيم المسؤولية المهنية تجاه المتلقي والمجتمع. وتتحدد ملكية وسائل الإعلام بطبيعة البلد (الموجودة فيه)، ومستوى التنمية، و”ميل” السلطة للتدخل في الاقتصاد، ونوع النظام السياسي الحاكم(21). ومن أبرز أنماط هذه الملكية: نمط تديره الدولة بالكامل، ونمط التعاونيات حيث تتمتع وسائل الإعلام باستقلال ذاتي في ظل ميثاق عام تضعه الدولة، و نمط المشاركة للمصلحة العامة؛ حيث تدير شركات خاصة الخدمة الإعلامية مع السماح للحكومة بنصيب كبير من أسهم هذه الشركات، ونمط المشروع الخاص؛ حيث تُدار الخدمة الإعلامية كمشروع يسعى للربح وتُقدِّم فيه الدولة تسهيلات التراخيص والترددات والطاقة وغيرها(22).
في لبنان، تتبع معظم المؤسسات الإعلامية النمط الأخير؛ إذ يسيطر عليها القطاع الخاص، كما أشرنا آنفًا، بشكل يقيم حالة من التوازي والتداخل مع النظام السياسي اللبناني والتحزب الإعلامي والاحتكارات المالية. فالنموذج المسيطر هو النموذج الاقتصادي الحزبي (الجامد)، والذي يأتيه التمويل الجاهز من الأحزاب والتيارات والشخصيات الحزبية التي تنطق باسمها بعض الوسائل الإعلامية. وهناك نموذج ثانٍ (ضعيف جدًّا)، هو النموذج الرسمي الذي يعتمد تمويله، بالكامل، على الدولة. أما النموذج الثالث، خارج الدولة والمؤسسة الحزبية، هو النموذج الاقتصادي التقليدي (مرِن) الذي نُسمِّيه “سوقًا بجانبيْن”، ويقوم على بيع المحتوى وعلى الإيرادات التجارية المتأتية عن الإعلانات، لكن في لبنان هذا النموذج “أعرج”، إذا جاز التعبير، بالنظر إلى أن القطاع المرئي والمسموع لا يزال يُقدِّم المحتوى مجانًا للمتلقي، ومن ثم يعمل على بيع هذا المتلقي للمُعلِن لكي يؤمِّن موارد مالية. والنموذج التقليدي، بعامة، لا يؤمِّن التوازن الاقتصادي المالي ضمن المؤسسة الإعلامية، بل هناك دائمًا “شيء خفي” يتمثَّل في الدعم المالي غير المرصود؛ ومصدر هذا الدعم، في الحالة اللبنانية، هو، في الغالب، المال السياسي الداخلي أو الخارجي. و”هناك نموذجان آخران (غير فعاليْن)؛ الأول، تقوم فيه بعض المؤسسات الإعلامية اللبنانية بتقديم خدمات محدودة للمتلقي (مثل خدمة الخبر العاجل)، لكنها لم تتمكن، حتى اللحظة، من أن تُقدِّم خدمات لها قيمة مضافة، تعليمية أو معرفية، مثل خدمة “افعلها بنفسك” (do it yourself). أما النموذج الآخر، الذي يستفيد من التطورات التقنية، فيعتمد على الشراكة من خلال الشراكات مع شبكة الإنترنت والبرمجيات والمنصات؛ لكن هذا النموذج لا يزال “يحبو”، كما يعبِّر بعض الخبراء الاقتصاديين؛ إذ لا يستطيع أن يؤمِّن للمؤسسات الإعلامية اللبنانية الدخل من الخارج (كما يحصل في دول أخرى، لاسيما الغربية)”(23).
جدول (2): النماذج الاقتصادية في المؤسسات الإعلامية اللبنانية
أمثلة من الوسائل الإعلامية التي تعتمده | سمات النموذج | نوع النموذج الاقتصادي |
– الإذاعات والتليفزيونات والمواقع الإخبارية التابعة مباشرة للأحزاب السياسية اللبنانية، وهي محصورة حاليًّا في: “حزب الله”، و”حركة أمل”، و”تيار المستقبل”، و”التيار الوطني الحر”، و”الكتائب”، و”القوات اللبنانية”، و”الحزب الشيوعي اللبناني”، و”الحزب السوري القومي الاجتماعي”، و”الجماعة الإسلامية”، و”جمعية المشاريع الإسلامية”. | – الجمود.
– عدم الاستقرار. – عدم الاستدامة. – عدم القدرة على خلق التوازن (الاقتصادي). – العجز عن الاستجابة لمتطلبات الذوق العام (الجمهور المتلقي الواسع). – العجز عن التوسع في أسواق جديدة (أي عدم القدرة على استقطاب شرائح جديدة من الجمهور). |
النموذج الحزبي (تمويله من الأحزاب والشخصيات السياسية) |
– الإذاعة اللبنانية. – تليفزيون لبنان. |
– عدم الاستقرار.
– عدم الفعالية. – محدودية الموارد (هناك موازنة محددة لا يمكن تجاوزها). – عدم المرونة (لا يمكن القبول بمصادر تمويل أخرى). – محدودية الاستجابة لمتطلبات الذوق العام (بسبب الإنتاج الهزيل). |
النموذج الرسمي (تمويله من الدولة) |
الصحف والإذاعات والتليفزيونات والمواقع غير التابعة لجهات حزبية (“النهار”، “الجمهورية”، “اللواء”، “إل بي سي”، “الجديد”).
|
– عدم الاستقرار.
– عدم الاستدامة. – عدم القدرة على خلق التوازن (الاقتصادي). – المرونة (في مصادر التمويل). – القدرة على التوسع في أسواق جديدة. |
النموذج التقليدي (متعدد مصادر التمويل) |
– بعض الصحف التي تملك موقعًا رقميًّا (مثل “النهار”).
– بعض التليفزيونات التي تملك موقعًا (مثل “إم تي في”، “إل بي سي”، “الجديد”) |
– الاستقرار (إلى حد بعيد).
– موارد إضافية ومتعددة. – قابلية الانتشار الواسع (الوصول إلى كل أنواع الجماهير). – المرونة. – تقديم خدمة مجانية لقاء خدمة مدفوعة (أي، مثلًا، نقرأ بعض السطور في مادة معينة ومن ثم نصبح مضطرين للاشتراك في الوسيلة الإعلامية للحصول على كامل المادة). |
نموذج الخدمات المحدودة (متعدد مصادر التمويل)
|
– بعض الصحف والتليفزيونات (المذكورة آنفًا تقريبًا). | – التوسع الجغرافي.
– الارتكاز إلى خبرات أوسع. – تبادل غير محدود للمعلومات. – مرونة هائلة (في استثمار الخبرات على أنواعها). – القدرة على رفع مستوى الأهداف (مثلًا، التواصل مع الجمهور اللبناني المغترب ومحاكاته ولاسيما فئة الشباب). |
نموذج الشراكات (مع شبكة الإنترنت)
|
- الإطار التشريعي لوسائل الإعلام
قبل سقوط حكومة سعد الحريري، في 12 يناير/كانون الثاني 2011 (باستقالة 11 من وزرائها الثلاثين)، كانت الحكومة اللبنانية في خضم نقاش محموم حول إصلاح القطاع الإعلامي الذي كان قد شهد تسريحًا تعسفيًّا لأعداد كبيرة من موظفي المؤسسات الإعلامية. فالعمل الإعلامي في لبنان، يفتقد إلى القوانين والتشريعات العادلة التي تنظم مهن الصحافة والإعلام، نصًّا وتطبيقًا، وتحمي الصحافيين وتُلزِم الجهات الرسمية بإعطائهم المعلومات من دون تعسف ومنحهم الحق في طلب نشرها. وجميع الحكومات اللبنانية، التي تعاقبت على السلطة، تعاملت مع تطبيق القانون باستنسابية محكومة باعتبارات سياسية وفئوية ضيقة، ولاسيما في ظل التدخلات الإقليمية، وتحديدًا في المرحلة التي سبقت خروج القوات السورية من لبنان في العام 2005. فلبنان المستقل، كوطن محصن، لم يبلور مفاهيمه الخاصة بالإعلام والحرية والحقوق، بل إن المُشَرِّع ارتكز، إلى حدٍّ بعيد، على مفاهيم لا تتطابق مع واقعه، ترجمها واستنسخها عن بعض التجارب الغربية، خاصة التجربة الفرنسية. ولذلك تظهر إلى الواجهة، كل بضع سنوات، التناقضات الفادحة في قوانين الإعلام اللبنانية؛ التي تُعتبَر أُطرًا تنظيمية قديمة ومتفرقة ومفتقرة إلى الانسجام ومليئة بالمواد والتعبيرات المبهمة التي قد تتعارض مع روح الدستور اللبناني، وتولد أحكامها “كابوسًا لوجستيًّا” من الاختصاصات المتداخلة التي نقع عليها في قوانين العقوبات والانتخابات والمطبوعات والقضاء العسكري والمرئي والمسموع(24).
هناك ستة قوانين تنظم عمل الصحافيين اللبنانيين، أُدخِل عليها عشرات التعديلات؛ بدءًا من القانون العثماني في 1909، مرورًا بقانون الانتداب الفرنسي عام 1924، وصولًا إلى قانون المطبوعات في عهد الاستقلال عام 1962 (مع آخر تعديل له في سنة 1994 الذي يُعمَل به اليوم). وتحددت، تبعًا لتلك التعديلات، آليات ممارسة مهنة الصحافة، والموجبات التي يُحاسَب على أساسها الصحافيون خلال ممارستهم للمهنة؛ أما بالنسبة لمحطات الإذاعة والتليفزيون، وباستثناء “إذاعة لبنان” و”تليفزيون لبنان” العائدَيْن للدولة، فكانت تُعتبَر، حتى نهاية الحرب، مؤسسات خارجة عن القانون (بما أنها كسرت الاحتكار الذي كانت تتمتع به الوسيلتان الرسميتان). سُوي وضع هذه المؤسسات بصدور قانون الإعلام المرئي والمسموع في العام 1994، الذي نظَّم قطاع البث الخاص في لبنان، تنفيذًا لبند صريح ورد في اتفاق الطائف (الذي أنهى الحرب). كان ذلك القانون بمنزلة قانون عفو عام عن “إعلام الحرب” أُسوة بالعفو عن جرائم الحرب كافة؛ إذ شَرْعَن وجود معظم الإذاعات والتليفزيونات القائمة بقوة الأمر الواقع، وتلك التي تأسست بعد اتفاق الطائف (من قِبَل أمراء المال ومرجعيات سياسية من داخل النظام وأهله).
وما يثير الانتباه في هذا القانون، ويشير إلى خطورته، أنه شكَّل صفقة “غير شرعية” بين الإعلام والسياسة في لبنان، أطاحت بما بقي من مصداقية “عصر الصحافة المكتوبة”، وأزالت جميع الحدود بين السلطة والإعلام والطوائف والمال في لبنان(25). وإذا كانت الدولة اللبنانية قد صادقت، في عام 1972، على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (الذي يكفل حرية التعبير والنشر والصحافة ونشر المعلومات)، ووقعت، في عام 2016، على قرار مجلس حقوق الإنسان حول سلامة الصحافيين (رقم 33/2)؛ لكن سيف قانون العقوبات (تحديدًا المادة 408) يظل مسلطًا على هؤلاء، ويهدد حرية عملهم وجوهره، من خلال إمكانية مقاضاة أي صحافي لا يُفشي مصادر معلوماته عند استدعائه للشهادة أمام أي محكمة. وفي لبنان، “يمكن للقضاء العسكري (من خارج النصوص القانونية المعمول بها) أن يستدعي بعض الصحافيين للتحقيق معهم على خلفية ادعاءات تستند إلى القانون الجزائي، يتقدم بها المدعي العام أو شخصيات سياسية ومالية ودينية نافذة”(26). هل من تغييرات على صعيد التشريعات القانونية لتنظيم الإعلام في لبنان بعد 2011؟
مع تعاظم دور الميديا وإمكانيات الانتشار غير المحدود في الزمان والمكان، صار تحديد هذا الدور وضبطه مسألة ملحة في العالم. لذا، تظل قوانين الإعلام، في الدول المتطورة، هي الأكثر عرضة للتعديل والتطوير لكي تتلاءم مع الحاجات والقناعات المستجدة لدى الجمهور (المجتمع)، أو لكي تتماشى مع التطورات التكنولوجية المتسارعة. لا شيء من كل ذلك في لبنان، حيث هناك نظرية تقول إنه، وعندما يختص الأمر بتنظيم وسائل الإعلام، تنشط عملية “تصفية الحسابات” التي طُبِّقت في العديد من محطات المواجهة بين القطاع الإعلامي ومسؤولين في الدولة اللبنانية على خلفية المصالح الشخصية والخصومات.
منذ سنة 2010، يقبع مشروع قانون جديد للإعلام في أدراج البرلمان اللبناني، يُؤمَّل في أن يحلَّ محلَّ قانون المطبوعات الحالي لعام 1962 وقانون الإعلام المرئي والمسموع لعام 1994. يُعَد هذا المشروع الأكثر جدية وتطورًا بين حفنة مشاريع قوانين يدرسها النواب اللبنانيون، منذ سنوات طويلة، غير أنه لا يتعدى العملية التجميلية التي لا تعالج المشكلة الأساسية للإعلام. يتضمن المشروع، في أبوابه الثمانية، إصلاحات عديدة تتمثَّل في ضرورة تنظيم وسائل الإعلام، وبينها المطبوعات الدورية وغير الدورية والإعلام التليفزيوني والإذاعي والإعلام الإلكتروني والرسائل الرقمية، ويرمي إلى توسيع العمل الإعلامي ليشمل مختلف وسائل الإعلام الجديدة. والقانون المقترح، الذي يشدد على حماية حرية التعبير عبر شبكة الإنترنت، يفند نصه جرائم الإعلام وعقوباتها، ويتطرق إلى المسؤولية وأصول المحاكمات عن جرائم النشر. لغاية اليوم، يرفض البرلمان اللبناني أن يشارك أصحاب المصلحة والمؤسسات الإعلامية والمنظمات غير الحكومية أحدثَ نسخة للمسودة النهائية للقانون (يوليو/تموز 2021)(27).
وفي صيف 2023، استؤنف النقاش حول هذه المسودة بسرية تامة، ومن دون حضور وزير الإعلام حتى، ويتم إخفاؤها عن التمحيص العام؛ الأمر الذي اعترضت عليه “هيئات حقوقية وإعلامية”. واعتبر حقوقيون، يتابعون مجريات النقاشات، أنه إذا أُقِرَّ “مشروع القانون الجديد”، والذي بات متقادمًا ويحتاج إلى تعديلات جذرية، فإنه سيكون “مقصلة لآخر ما تبقى من حريات في لبنان”؛ لأنه يحوي الكثير من الأحكام المثيرة للقلق والتي من شأنها تقويض ضمانات أساسية لحقوق الإنسان وخنق حريتَي التعبير والصحافة. فنوايا الطبقة السياسية الحاكمة واضحة، في هذا الصدد، وهي توحي بأن “لا أمل في تمرير قانون إعلام لا يكون في مصلحتها؛ ولا يُطلِق يد القوى النافذة لإسكات “الأصوات المزعجة”. أما إذا أقر النواب “قانونًا خاليًّا من هذه الأحكام”، فلن يكون إلا حبرًا على ورق، بغية إضاعة الهدف الأساسي منه، تمامًا كما يتم طبخ قوانين الإصلاح الاقتصادي والمالي الرامية إلى تزوير الإصلاح ودفنه واقعيًّا”(28).
وهناك مسألة مهمة جدًّا، في هذا السياق، تكمن في غياب الصحافيين بالكامل عن هذه النقاشات والمداولات بخصوص القانون الجديد؛ وسبب استبعادهم هو ضعفهم في الوقوف صفًّا واحدًا بوجه “مخططات السلطة”. “فالانقسامات في الجسم الصحفي اللبناني كبيرة جدًّا وعميقة وتحول دون اتفاقهم على مشروع قانون جديد يضغطون باتجاه إقراره؛ والأسوأ أنْ ليس لديهم رؤية موحدة وواضحة بخصوصه (إذ إن معظمهم تابعون سياسيًّا لهذه الجهة أو تلك). أما قوى السلطة، فهي تستفيد، بديهيًّا، من واقع هذا “التشتت الصحفي” لتُمرر ما تريده، أو أقله لتُعطل ما لا تريده، أي إقرار قانون لا يصب في مصلحتها”(29).
- تقاليد ممارسة المهنة وآليات التنظيم الذاتي للصحافيين
يثير مفهوم سياسات الإعلام والأساليب المنظمة لمزاولة العمل الصحفي الكثير من النقاشات والجدل بين أهل الاختصاص، والذين يتلاقون على اعتبار أن هذه السياسات هي ضرورة مجتمعية خاصة؛ بالنظر إلى كون مهنة الصحافة والإعلام تُعتبَر من بين المهن الأقل تنظيمًا. ووجود تنظيم مهني هو أكثر من مهم؛ إذ يضع المبادئ والأسس والقواعد التي يجب أن تحكم عمل النظام الاتصالي والإعلامي، بمجمله، إضافة إلى ترشيد إنتاج وسائل الإعلام وأدائها وتوظيف دورها في خدمة مجتمعاتها (الخدمة العامة). ومعروف، أن دراسة هذه السياسات تكشف، عادة، عن القيم المعيارية التي تضعها الأنظمة الحاكمة للبلدان، لتوجيه سلوك نُظم الاتصال فيها. بمعنى آخر، تتحدد فيها أساليب ممارسة المهنة التي تساعد على توجيه سلوك الصحافيين، ولاسيما ما يرتبط بنوعية المضمون الذي يعالجه هؤلاء. يُعتبَر لبنان من بين الدول العربية القليلة التي تنحو منحى ليبراليًّا في نظامها الاتصالي والإعلامي، من خلال إطلاق حق ممارسة العمل الصحفي للمواطنين جميعًا، من دون أية قيود أو شروط مسبقة. غير أن “هذه الحرية” تركت آثارًا مدمرة في واقع العمل الصحفي في بلد كانت النخبة الإعلامية فيه، ذات يوم، إحدى المجموعات الأكثر حضورًا والأعمق ثقافة والأكثر تأثيرًا في واقعه، على جميع المستويات.
بعد الحرب الأهلية، تغيَّر واقع الإعلام والإعلاميين في لبنان، ولم تعد الثقافة والمعرفة والكفاءة، المعايير المُعتمَدة أو المطلوبة “لاستقبال” الوافدين إلى مهن الإعلام. فأضحى الصحافيون، بغالبيتهم، من ذوي الثقافات المتدنية، ولا تختلف ثقافتهم بشيء عن ثقافة الجمهور العام، حتى إن هناك مَن يفتقد منهم للأدوات والمهارات التي لا يمكن للصحافي الاستغناء عنها في عمله أو القفز فوقها. فـ”هناك انحدار غير مسبوق في مستوى العمل المؤسسي في لبنان، وفي مقدمهم العمل الصحفي؛ الذي باتت وظيفته الأساسية الترويج للانقسامات السياسية في البلد وإخراج توجهات محددة، خدمة لجهات محددة”(30). لعل أبرز مظاهر الفوضى العارمة التي تعم في القطاع الإعلامي اللبناني “هو غياب الإطار النقابي الذي يضع القواعد المنظمة لممارسة المهنة الصحفية. فما يساعد على ترسيخ بُنى السلطة، بأشكالها المختلفة، في قطاع الإعلام في لبنان هو غياب استقلالية الأطر الناظمة للعمل النقابي الصحفي وفاعليتها”(31). ماذا عن هذه الأطر؟
على الرغم من أن لبنان هو الدولة العربية الثانية، بعد مصر، التي مأسست قطاع الإعلام، إلا أنه لا تنظيم ذاتيًّا للصحافيين اللبنانيين يوضح لهم حقوقهم وواجباتهم وحدود علاقاتهم بالسلطة والجمهور، أو التزاماتهم ومسؤولياتهم وأخلاقياتهم حيال المهنة والمجتمع، إلى جانب الإشراف على الممارسة المهنية ذاتها. بتاريخ 10 سبتمبر/أيلول 1948، أُقِرَّ قانون إنشاء “نقابة الصحافة اللبنانية”، والذي جاء عقب سلسلة محاولات قام بها بعض أصحاب الصحف لوضع تنظيم ذاتي لهم، بدأت مع نهاية الحكم العثماني (10 يوليو/تموز 1911). وكانت هذه المحاولات، أحد المؤشرات، يومها، على صعود الدينامية السياسية والاجتماعية اللبنانية، والتي مثَّلت الصحافة تعبيرَها الأوضح. لكن، “منذ أكثر من خمسة عقود، لا يوجد في لبنان تنظيم يستحق أن يُطلق عليه اسم نقابة للصحافيين، وهؤلاء يتحملون المسؤولية الأكبر عن هذا الغياب بسكوتهم عن الواقع الكارثي للنقابات مما أسهم في السيطرة السياسية على الإرادة الصحفية”(32).
تتعدد النقابات الصحفية في لبنان: فهناك أولًا: “نقابة الصحافة” التي تضم مالكي الصحف، وقد تحولت إلى سلك على غرار نقابة المحامين وسواها من نقابات المهن الحرة، وهي لا ترتبط بوزارة العمل كسائر النقابات المهنية، بل بوزارة الداخلية. وهناك ثانيًا: “نقابة محرري الصحافة” التي من المفترض أن تضم جميع الصحافيين العاملين في مطبوعات صحفية تصدر في لبنان، من دون أن يكونوا من مالكيها، لكنها لا تضم سوى 25% من مجموع الصحافيين. ثالثًا: وبموجب قانون سنة 1948، أنشأت مجموعة من الصحافيين العاملين في المؤسسات الإعلامية (في 2012) “نقابة العاملين في المرئي والمسموع”، لكن الانقسامات السياسية عطلت عملها. والنقابة الرابعة هي “نقابة الصحافة البديلة”، التي أنشأتها (بعد أربعة أيام على اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول) مجموعة من الصحافيين غير الممثلين في النقابات الصحفية السابقة. ليس لهذه النقابة كيان قانوني، وجاء إنشاؤها بهدف فتح كوة في جدار “موت العمل النقابي”، كما عبَّر مؤسسوها، وتراجع حقوق الصحافيين وارتفاع أعداد المصروفين من العمل وتعسف المؤسسات الإعلامية.
وهناك، أخيرًا، المجلس الوطني للإعلام، وهو ليس بنقابة إنما مجرد هيئة حكومية استشارية تُعنى بالشؤون الإعلامية، فلا يملك أي صلاحيات نافذة، وتم استحداثه ضمن قانون الإعلام الذي صدر عام 1994، وتتضمن مهامه التحقق من شروط منح التراخيص ومراقبة المحتوى الإعلامي، ويُقدِّم تقاريره إلى مجلس الوزراء. من المهم الإشارة هنا، إلى أن التنظيم الذاتي للصحافيين في لبنان يخضع للتطييف، أيضًا؛ إذ يتولى رئاسة نقابة الصحافة “مسلم”، ورئاسة نقابة المحررين “مسيحي”، والمشكلة أن النقابات الإعلامية في لبنان، كانت ولا تزال وكأنها إقطاع، لا تهتم بالإعلاميين، بل إنها تحرمهم من حقهم التلقائي بالعضوية، ولم تبادر يومًا إلى تفعيل عملها الذي يبدأ بوضع نظام داخلي واضح للنقابة، ولا ينتهي بفتح باب الانتساب إليه(33). وعندما توجهت الباحثة بالسؤال إلى نقيب محرري الصحافة اللبنانية، جوزيف القصيفي، عن أسباب حرمان الصحافيين من حقهم بالعضوية، أكد أنه “بات بإمكان أي صحافي لبناني، اعتبارًا من سنة 2012، أن ينتسب إلى النقابة شرط أن يكون عمله منتظمًا في مؤسسة صحفية (جريدة، إذاعة، تليفزيون، موقع إخباري)”(34). ولكن، هل من دور للنقابات الإعلامية في لبنان؟
الإجابة المباشرة على هذا السؤال: كلا، ليس لها أي دور فاعل أو مؤثر. وهذا الرد الحاسم ليس تأويلًا من قبل الباحثة، إنما جاء على لسان رؤساء النقابات الإعلامية أنفسهم، في مؤتمر عقدته كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، سنة 2015، حول دور النقابات الإعلامية. لكن الأسوأ من نفي فاعلية الدور، هو التبرير الذي ساقه هؤلاء عندما توالوا على الكلام؛ إذ أكدوا أن أحوال النقابات ليست بخير، والسبب يعود، بتقديرهم، إلى تسييس العمل النقابي الذي يعكس، بدوره، الواقع السياسي الطائفي المشرذم، ما يمنع أي قدرة على المطالبة والاحتجاج والمشاركة في صناعة القرار وتطوير العمل الوظيفي(35).
- نموذج العلاقة بين المنظومة الإعلامية والنظام السياسي
تفاوتت العلاقة بين الإعلام والسلطة مذْ ظهرت الصحافة في القرن الثامن عشر، وتراوح شكلها بين الشد والجذب والأخذ والرد، وظهرت رؤى ونظريات تتتبَّع هذه العلاقة وترصد واقعها وتُحدد، على أساس ذلك، الإطار النظري الذي يفسرها ويفسر دور الصحافة في المجتمع ومدى ممارستها للحرية الإعلامية(36). ومنذ ثمانينات القرن الماضي، لفت عالم الاجتماع الفرنسي، ريمي رييفيل (Rémy Rieffel)، الانتباه إلى خصوصية العلاقات القائمة بين ما أسماه “النخبة السياسية” و”النخبة الصحفية”؛ إذ خلُص إلى أن هاتيْن النخبتيْن تتشاركان في كثير من الأمور، غالبًا، ولاسيما في الأصول الاجتماعية والمسارات الدراسية والعلاقات العائلية والصداقات وأماكن الأنس والتسلية والنظرة إلى العالم والمصالح المشتركة(37). ولذلك تشغل إشكالية العلاقة بين الإعلام والسلطة الكثير من الباحثين في الحريات الصحفية ودرجات تمتع الشعوب بها في ظل التراجع الملحوظ في هذه الحريات، خاصة في العالم العربي؛ حيث يختل ميزان العلاقة بين الإعلام والسلطة. ففي لبنان، مثلًا، وعند اندلاع هزات وانفجارات شعبية (2005 و2011 و2015 و2019)، أو، حتى، حين تنشب نزاعات بين الجماعات اللبنانية حول بعض القضايا التي تمس بمواقع نفوذها (إلغاء الوكالات الحصرية، إقرار الزواج المدني، تعديلات على قوانين الأحوال الشخصية، تخفيض سن الاقتراع…إلخ)؛ يختل هذا الميزان ليتجلى، مع اختلاله، “تموضع” الوسائل الإعلامية اللبنانية ودورها في إعادة تشكيل وتأطير الجمهور.
ولكن بأي نظام سياسي يُحكَم لبنان؟
يعيش اللبنانيون في ظل نظام رأسمالي ليبرالي هجين مُعقد البنية و”يمزج” أشكالًا مختلفة من السلطات وقوى النفوذ؛ “سلطته السياسية، هي سلطة أحزاب مسلحة، وبعضها يمثِّل بقايا الإقطاع السياسي، ممن كانت لهم سلطة سياسية قبل الحرب، وتحولوا أثناء المعارك إلى ميليشيات. لكن، لا شيء في هذا النظام ينمو أو يتحرك، قيد أنملة، خارج أسوار الطوائف التي يتم عبرها، وبشكل أساسي، استدراج شتى أشكال الولاء”(38). ولم يشذ النظام الإعلامي عن القاعدة، بل انتظم داخل هذه الأسوار وصار يشكِّل، خاصة الإعلام المرئي، المرآة العاكسة لكافة انقسامات المجتمع السياسي اللبناني، العمودي منها والأفقي. ولابد من التوضيح، بأنه في بلد، مثل لبنان، منهك بالصراعات السياسية والتوترات الأمنية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يصبح من الخطورة بمكان أن يكون الإعلام الجهة التي تقوي خصوصيات وتناقضات المجتمع السياسي.
لطالما اتسمت العلاقة بين الإعلام والسياسة، في دول العالم، بالغموض والتعقيد، لكن الأمر يختلف في لبنان (ما بعد الحرب)؛ حيث يدرك سياسيوه أن “بناء الزعامة” يحتاج إلى منابر الإعلام، باعتبار هذا الأخير الأداة الأهم للسيطرة الثقافية وتحقيق الهيمنة في المجتمع. لذلك إذا أردنا أن نفهم أي موقف إعلامي يصدر في لبنان، فيجب مراقبة خارطة المصالح (الطائفية والحزبية والمالية والشخصية حتى) والعلاقة ما بين الإعلاميين والسياسيين. فـ”الإعلام اللبناني يتفاعل مع السلطة، تمامًا مثلما يتعامل الزئبق مع الوعاء الذي يحاول احتواءَه؛ فهو لا يتخلى عن مواجهتها، في بعض الأحيان، لكنه سرعان ما يصطف إلى جانبها للدفاع عن مصالحها، في معظم الأحيان”(39).
قبل نحو نصف قرن من الزمن، صنَّف الباحث الأميركي، وليم روو (William Rugh)، الصحافة اللبنانية ضمن نموذج الصحافة التعددية، وميزها عن النموذجيْن الآخريْن، وهما “الصحافة التعبوية” و”الصحافة الموالية”. ويقول روو: “ليست الصحف اللبنانية عديدة فحسب، بل إنها تُقدِّم للجمهور أكثر الآراء والمعلومات تنوعًا من أي صحافة عربية أخرى”(40). ويعني الباحث بالنموذج التعددي، هنا، التعددية السياسية التي كانت تُترجَم عمليًّا (ولا تزال) عبر وجود مجموعات وفئات (أحزاب سياسية منظمة أو أشكال أخرى من التجمع) ذات فلسفات أو مناهج مختلفة تجاه السياسة العامة للبلاد. ويسهل للجمهور تمييز هذه الفلسفات والمناهج، ودائمًا بحسب روو، من خلال بعض الاختيارات الواضحة في المضمون السياسي للصحف، والذي يظهر على شكل تحيز، باتجاه أو بآخر، على مستويات: السياسة الوطنية والانتماء الديني والسياسة الإقليمية والعلاقات الدولية. أما بالنسبة لتعاطي الدولة مع “هذه التعددية”، فيمكن اختصارها بالإشارة إلى أن النظام الحاكم في لبنان كان يستطيع، من وقت لآخر، أن يقاضي الصحافة أو أن يتخذ أي عمل آخر لكبح جماحها، غير أنه لا يذهب إلى حد يتوقف معه النقد، كليًّا، أو يخلق به اتساقًا تامًّا(41).
تاريخيًّا، اقترن تطور الصحافة في لبنان بالسياق السياسي وبمنسوب الصراع بين السلطة والأحزاب السياسية؛ إذ “تصرفت الصحافة اللبنانية (في خمسينات القرن الماضي)، من منطلق أنها الند للسلطة، أكثر منها وسيلة معبِّرة عن النشاط السياسي القائم في البلد (سواء أكانت الصحافة مع هذا النظام أو ضده)، وهي كانت جاهزة، حين تدعو الحاجة، لأن تلعب دورًا لتقويض السلطة، إذا رأت فيها، بمعايير الصحافة، سلطة غير ديمقراطية أو جائرة أو غير جيدة…إلخ. لكن، أثناء الحرب الأهلية وما بعد اتفاق الطائف وحتى سنة 2005، اختلف الأمر، جذريًّا؛ إذ تحولت الصحافة إلى أبواق لأهل السلطة والأحزاب التي تتبع لها؛ أما في وقتنا الحاضر، فصارت الطوائف هي مَن يقف وراء الصحافة وليس الأحزاب، وباتت هذه الصحافة المتراس المتقدم للقضية السياسية، مهما كان نوعها وشكلها”(42). فـ”الإعلام الذي كان في لبنان ما قبل الحرب صوتًا سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، بنبرات مختلفة، انتقل بعد ذلك إلى مرتبة الخادم الأمين، “لصاحبه” أو “أصحابه”، إما طواعية أو قسرًا، وصار مُلحقًا بالسياسة والخنادق والمعارك”(43). معروف أن وسائل الإعلام، في أي مجتمع من المجتمعات، تعتمد في بقائها على بقاء النظم الاجتماعية والسياسية السائدة، وهي، بدورها، تساعد النظام السياسي والاجتماعي على الاحتفاظ بنفسه وتقاوم التغيير الراديكالي وتعمل على بقاء المعتقدات والسلطات القائمة وحماية جميع الذين يدافعون عن النظام وعن أوضاعه(44).
وعلى هذه القاعدة، خلق الترابط الوثيق في لبنان، بين المنظومتيْن الإعلامية والسياسية، وسائل إعلامية تابعة بالمطلق، ودفع بالصحافيين إلى ممارسة “الصمت المتبادل” مع الطبقة السياسية(45) والتخلي عن دورهم الرقابي، ليتماهوا، في أكثر من قضية أو حدث، مع الطبقة السياسية بما يخدم سيرورة النظام القائم. وتجلى هذا الارتباط، على سبيل المثال، في التعاطي الإعلامي مع قضية انفجار مرفأ بيروت، وقبلها مع النزوح السوري والانتخابات وكل التحركات الشعبية والأزمة الاقتصادية وغيرها. ومع تفاقم الأزمة المالية، التي تُوِّجت بـ”سرقة صريحة” من المصارف لأموال المودعين اللبنانيين، تولى معظم الإعلام المحلي مهمة الدفاع عن النظام المالي السياسي الذي أودى بلبنان إلى الهاوية. لكن المثال الأبرز تجسد في لحظة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 عندما أظهر الإعلام الصورة الواضحة لشكل العلاقة التي تربطه بأركان النظام اللبناني.
لقد أخرجت شهور الاحتجاجات الشعبية، المترافقة مع الانهيار الاقتصادي المتدحرج في لبنان، مشهدًا إعلاميًّا سرياليًّا، اتسم بفجاجة زائدة؛ إذ خاضت غالبية الوسائل الإعلامية (حتى تلك التي كانت تغطي الاحتجاجات بكثافة) “ثورة مضادة” اقتصرت، في المرحلة الأولى للانتفاضة، على وضع الخطوط الحمراء خلال التغطية، عبر شَيْطَنَة ما يقوم به المنتفضون على الأرض (أحداث شغب، قطع طرقات، تحطيم مصارف…إلخ). كما ظهر حرص شديد على هيبة “الزعماء”، من خلال منع الإعلام للناس المنتفضين من إطلاق الشتائم ضد أركان النظام الحاكم، وفي حال صدور كلام من هذا النوع، خلال التغطية المباشرة، كان الصحافي يسارع إلى مقاطعة “السباب” والطلب منه بالتوقف الفوري عن كيل الشتائم. “وبعد مضي الشهور الثلاثة الأولى للاحتجاجات، وفي أوقات محددة ومفصلية، فُتِح هواء التليفزيونات والإذاعات اللبنانية على مصراعيه للدفاع عن الأعمدة الأساسية للنظام، من خلال استضافة الرموز السياسية والاقتصادية والمالية المسؤولة عن انهيار البلاد، كي تتمكن من تبييض صفحتها أمام اللبنانيين”(46). والسؤال البديهي الذي يفرض نفسه هنا: مع هذه العلاقة “التكافلية” بين أهل السلطة والإعلام في لبنان، أي جهة تهاب الأخرى؟
لا يمكن تجاهل الطبيعة الملتبسة للعلاقة بين الإعلاميين والسياسيين في لبنان، أخذًا بالاعتبار، التناقضات الكثيرة التي تحكم المفاهيم الراعية للعمل الإعلامي في هذا البلد؛ إنْ بالنسبة للآليات المهنية أو تقاليد الممارسة الصحفية التي تأخذ من “التعددية والحرية” عنوانًا لتجميل الانقسامات الحادة في الجسم الصحفي. وجوابًا على السؤال أعلاه، فإن السلطة في لبنان تهاب وسائل الإعلام، في الغالب، أكثر بكثير مما تهاب القضاء، مثلًا، أو المؤسسات الدستورية نفسها. ولكن لا تعود تلك المهابة إلى خشية من قدرة الإعلاميين على محاسبة السلطة والسياسيين، وتأليب الرأي العام ضدهم (بوصفهم سلطة رابعة)، بل إلى واقع التفلت في المنظومة الإعلامية وحالات تناقض المصالح الموجودة بين القوى المتناحرة-المتوافقة-المتنافسة المُمسِكة بالإعلام. لقد أشارت الدراسة في الفقرات السابقة إلى الانتماء الفئوي للمؤسسات الإعلامية اللبنانية، وإلى تبعية كل منها لجهة معينة “ما يُفضي إلى أن كل جزء من السلطة لديه رهاب من “غضب” الصحافيين التابعين للأجزاء الأخرى منها، خاصة الخصوم؛ لأن هؤلاء ينطقون باسمهم ويعبِّرون عن مصالحهم”(47). ولكن بعض الصحافيين اللبنانيين ينظرون إلى هذه المسألة من زاوية أخرى، فيعتبرون “أن نظرة السلطة في لبنان إلى الإعلاميين تشبه نظرة أي شخص إلى حيواناته الأليفة (وظيفة الكلب الأليف). فعلى مدى السنوات الأخيرة، نجحت السلطة في لبنان، وإلى حدٍّ كبير، في تبخيس قيمة العمل الصحفي (بالتدرج) وتدجين الصحافيين، وكان ذلك جزءًا من ترتيبات إخضاع الإعلام، بشكل عام، من خلال إخضاع الصحافيين بالمفرق”(48).
- العمل الإعلامي بين رواية الثقافة السياسية وبناء الخطاب العام
قدمت دائرة المعارف الدولية للعلوم الاجتماعية تعريفًا إجرائيًّا للثقافة السياسية بأنها مجموعة الاتجاهات والمعتقدات والقيم التي تنظم وتعطي معنى للنظام السياسي، بل وتسهم، في بلدان كثيرة، في تحديد شكل هذا النظام وعناصر القيادة السياسية فيه (عائلة معينة، حزب معين، مجموعة صغيرة ذات وضعية خاصة دينية أو مذهبية أو عرقية أو تعليمية…إلخ). وتلعب وسائل الإعلام دورًا مركزيًّا في تعزيز الثقافة السياسية، لكنها تجنح، في أحيان أخرى، إلى تقويض ثقة المواطنين بالعملية السياسية؛ فتتحمل، إذاك، جزءًا من المسؤولية عن تآكل رأس المال الاجتماعي من خلال تغذيتها، في نفوس الجمهور، النزعة الفردية والاتجاه نحو الانسحاب من الحياة العامة(49). لقد أطلق الباحث الأميركي، غابريال آلموند، (Gabriel Almond)، الذي وضع مفهوم “الثقافة السياسية”، توصيف “الثقافة السياسية الضيقة” على الحالة الآنفة الذكر ليميزها عن النموذجيْن الآخريْن لأشكال الثقافة السياسية، أي “الثقافة السياسية التابعة” و”الثقافة السياسية المشارِكة”. ووفقًا لتصنيف آلموند، يمكن نعت الثقافة السياسية السائدة في لبنان، وإلى حد بعيد، بـ”الثقافة السياسية الضيقة”؛ إذ يقتصر دور الفرد فيها على تلقي مخرجات النظام السياسي والامتثال له، في شتى الحالات والأوضاع والظروف، بالنظر إلى جهل هذا الفرد بالبدائل الأخرى، وحتى لو كان يعرف تلك البدائل فهو يعجز (أو لا يرغب) في أن يتحرك لطرحها(50).
تُعد مشاركة اللبنانيين في الحياة السياسية مشاركة متقطعة ولا تتخذ شكلًا منتظمًا، وتتصف، كذلك، بالشكلية والموسمية وعدم الفاعلية، وهي ترتبط، غالبًا، بعملية التعبئة الاجتماعية الجماهيرية أثناء الأزمات؛ إذ يعود المواطن اللبناني إلى سلبيته، خاصة مع تواضع دور المعارضة (انعدامه؟). ولكن، حتى هذه الثقافة السياسية الضيقة لا تنطبق، بالكامل، على الحالة اللبنانية؛ إذ إن لهذا النوع من الثقافة، عادة، مهمة مركزية تتلخص في تحديد النطاق العام المعقول للعمل السياسي وترسيم الحدود المشروعة بين الحياة العامة والحياة الخاصة، وهذا ما لا يحصل في لبنان. سنحاول التعرف، في الفقرات المقبلة، على كيفية مشاركة الصحافيين اللبنانيين في نشر الثقافة السياسية التي تسود في لبنان وتعزيزها؛ من منطلق أن وسائل الإعلام هي الوسائل الناقلة لأنماط التفكير والمعرفة والقيم والإفهام، في المجتمع الناشطة فيه، وتسهم في خلق جانب كبير من الثقافة الاجتماعية (التي تتفرع عنها الثقافة السياسية) ومن الخطاب العام (للمجتمع الذي توجد فيه)، ما يعطيها أحقيتها (كسلطة إعلامية) في إدارة المجتمع وتوجيهه(51).
لابد من التأكيد، قبل ذلك، أن لبنان بلد تغيب فيه السياسة بمعناها الحقيقي، أي بما هي فن قيادة البلد وتطبيق القوانين وتحقيق مصلحة الشعب. ففي الأربعة عقود الماضية أفرغ حكام لبنان الحياة السياسية من مكوناتها الأساسية، وعطَّلوا ممارسة العمل السياسي، بعامة، ووهبوا الأحزاب السياسية الطائفية “الحق الحصري” في تمثيل الشعب والوصول إلى مقاعد السلطة. لكن في انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول، ظهر للعيان أن نبض اللبنانيين، حيال السياسة والأحزاب السياسية، قد خفت إلى سقوف متدنية غير مسبوقة، وتقزم معها، وللمرة الأولى أيضًا، طغيان “الانفعال مع الانتماءات السياسية”. لقد انفضح تواطؤ هذه الأحزاب ضد المصلحة الوطنية من خلال التحاصص، فيما بينها، على تناهب المال العام وجميع مرافق البلاد ومؤسساتها، وتغليبها لفوضى الجمهور الطائفي على عقل الدولة، فضلًا عن رداءة موصوفة في أدائها السياسي. لوَّث سياسيو لبنان مفهوم الثقافة السياسية، لاسيما وأن عالم مُمْتهِني السياسة توسع كثيرًا ليشمل المعلنين والمستشارين الإعلاميين واستطلاعات الرأي، بحسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي، إريك نوفو (Erik Neveu).
والسؤال، هنا: أي ثقافة سياسية في هذه الأوضاع؟
“لا يمكن الحديث في لبنان عن ثقافة سياسية واحدة وجامعة تُبرِزها وسائل إعلامنا، بل يُظهر الإعلام اللبناني مستوييْن من الثقافة السياسية؛ في الأول، يتم التداول بثقافة سياسية رسمية مفبرَكة ومفروضة، ترتقي إلى مصاف اللغة الخشبية المتحكمة في الخطاب السياسي المُعمم من جانب السلطة والقيمين عليها. وفي المستوى الثاني (الذي يكاد يكون موازيًا للأول وغالبًا ما يتفوق عليه)، تتكاثر الثقافات السياسية والحزبية والمذهبية والفئوية التي ترددها وتنشرها كل وسيلة إعلامية، وفقًا للأهواء الظرفية لمالكيها وتبعًا لحساباتهم ومصالحهم”(52). لذا، “لا يمكن توصيف الإعلام اللبناني بـ”الراوي للثقافة السياسية”؛ لأنه، ببساطة، ينقل صورة الجهة التي يتبع لها، وبالتالي فهو يفقد جزءًا أساسيًّا من مهنيته كناقلٍ لخبر أو شارحٍ لقضية، ويتحوَّل إلى بوق يعزف على نغم نشاز، من دون رادع أو وزاع أخلاقي أو موضوعي”(53). من هنا، يمكن القول: إن الخطاب الذي “يبنيه” الإعلام في لبنان “هو خطاب الأزمة اللبنانية الرجعي والعبثي، والمتلون بكل عناصر انقسامات البلد السياسية والاجتماعية والمذهبية؛ فيؤثر هذا الخطاب في تلك الانقسامات ويتأثر بها ويصنعها وتصنعه”(54).
ويرى بعض الصحافيين “أن الثقافة السياسية والإعلام في لبنان هما مثال للتناقض الكلي؛ إذ يكفي استعراض التفاهة والضعف اللذيْن يحفل بهما محتوى ما يُقدَّم في إعلامنا (على بعض الشاشات تحديدًا)، والفظائع التي يتفوه بها، بعض الإعلاميين، لغة ومضمونًا وتسميات ومعانيَ، لنوقن عمق الدرك الذي وصلت إليه الثقافة السياسية في إعلامنا اللبناني. فالغالبية الساحقة من صحافيي البلد يرددون ببغائيًّا ما يُتلى ويُملى عليهم من خطابات عامة، هي، في الحقيقة، لا تتعدى كونها خطابات خاصة أنتجتها الجماعات الحاكمة عندنا، كل بحسب ثقافته السياسية”(55). فهؤلاء الصحافيون، “يُعيدون إنتاج الأوهام من خلال ترويج تعابير ومقولات عن السياسيين وسياساتهم (رادارات، بيضة القبان، القوة الرادعة، الضمير الحر، صمام الأمان، حامي الحقوق)، ويبنون خطابًا إعلاميًّا فيه صور تقديس لزعماء، دون سواهم، وينافي الوقائع التاريخية التي تقول عكس ما يروج له هذا الخطاب”(56).
إذن، الثقافة السياسية التي ترويها وسائل الإعلام في لبنان تجسد “الثقافة التي أرستها جماعات السلطة، والتي تنسحب على الجمهور، أيضًا؛ فاللبنانيون، بمعظمهم، يقتنعون بتبريرات الالتفاف على القوانين، مثلًا، ويتداولون بالمصطلحات التي تكررها وسائل الإعلام (حقوق الطائفة، الديمقراطية التوافقية، الطائفية السياسية، موجبات تمديد ولاية فلان، التعايش الإسلامي-المسيحي، مقتضيات الوفاق الوطني)”(57). “ويؤخَذ قسم كبير من الجمهور المتلقي بالعاطفة والتحريض الطائفي للإعلام؛ إذ إن الكثير من الإشكالات الأمنية، التي شهدتها الساحة اللبنانية، كانت، في الأساس، إشكالات إعلامية أو أثارها صحافيون موتورون أو جهلة. ويمكن القول، في هذا الصدد: إن الخطاب العام في لبنان يتأثر، إلى حدٍّ كبير، بالإعلام وصحافييه الذين يقتصر فَهْمهم للثقافة السياسية وللسياسة على أنهما شجار بين السياسيين (تحديدًا صحافيي الجيل الجديد)”(58).
عندما تخطط المجموعات السياسية والمنظومات الاقتصادية والمصرفية والعواصم الفاعلة على الساحة اللبنانية “لفرض مسار أو خطاب في لبنان يكون الإعلام جزءًا أساسيًّا من منفذي هذه الخطط عبر “حملة إعلامية” (يقومون بها) تركز على قضايا محددة. وهناك تعدد في مفاهيم الثقافة السياسية في لبنان، ما أوجد، في الممارسة الإعلامية اللبنانية الحلَّ للتناقضات التي تنشأ عن تلك “التعددية المفاهيمية” للثقافة السياسية الموجودة في الإعلام اللبناني؛ ثقافة، يرويها الإعلاميون تبعًا للظروف التي تُطرَح فيها العناوين السياسية، والتوقيت المرتبط بمصلحة القوى السياسية والمكونات الطائفية التي تتحكم بمسار هذا الإعلام”(59). “فما يقوم به إعلام لبنان، هو غالبًا شحن للرأي العام وليس توعية وتثقيفًا له. وهذه معضلة (من معضلاتنا الكثيرة)، تتحمل مسؤوليتها إدارات التحرير في المؤسسات الإعلامية التي تعتبر نفسها حامية لسياسات مالكيها وداعميها. وهذا الأمر نراه في ملفات أساسية معقدة في البلد، مثل ملف المصارف والانهيار المالي وسلاح حزب الله واللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين والحريات الفردية والعامة…إلخ، وجميعها قضايا مهمة يتناولها الإعلام مازجًا بين التضليل والتحريف والشحن، كل بحسب خطه السياسي”(60).
أظهر التدقيق في آليات عمل منظومة الوسائل الإعلامية اللبنانية أن لا لبس في هوية هذه الوسائل وموقعها من القضايا الجوهرية في لبنان (الموقف من النظام السياسي الطائفي، موقع لبنان في الصراع العربي-الإسرائيلي، موقف لبنان من النظام الدولي بين الشرق والغرب…إلخ)؛ وتبيَّن أنها تعمم خطابًا تسعى، من خلاله، إلى إعادة تشكيل وبناء الرأي العام الخاص بكل وسيلة، ويبدو ذلك إما في أداء الإعلاميين عبر مختلف الأشكال التي يظهرون فيها في وسائل الإعلام (كمقدمين أو كضيوف)، أو من خلال الجمهور الذي يُسمح له بالإدلاء بدلوه في الشارع أو في الأستوديو (مشاركة منظمة). ويتبيَّن من الآراء التي استقتها الباحثة من مقابلة عينة من الصحافيين اللبنانيين كيف أن وسائل الإعلام في لبنان تقوم، بشكلٍ مباشر وممنهج ومتكرر، باحتواء جمهورها عبر إثارة مواضيع وقضايا تحفزه وتعيد تشكيل وعيه وخطابه حيالها، و”تزوده” بمصطلحات تصبح جزءًا من التعبيرات السياسية لهذا الجمهور، وسمة من سماته التي تشير إلى مسار تأطيره.
- تفاعل الإعلاميين مع بيئتهم وسياق الحريات الإعلامية
لكل مهنة أخلاقياتها وسلوكياتها التي تُترجَم في شكل العلاقة بين أصحاب المهنة كـ”ممارسين” وبين عملائهم كـ”مستفيدين”، ويأتي الإعلام في مقدمة المهن التي تعكس صورة المجتمع بتجاربه ومشكلاته وظواهره، غير أنه يختلف عن باقي المهن بكونه رسالة (قبل أن يكون مهنة)، ولا يتوقف دوره على مجرد أداء لوظيفة اجتماعية أو ممارسة لهواية تثقيفية. فالإعلام له وظائف عديدة تسهم، جميعها، في بناء الفرد والمجتمع (حتى وظيفة الترفيه والتسلية)، ولكن قد يكون أهمها التواصل الحي مع الجمهور؛ إذ تعتمد الأنظمة الديمقراطية على وسائل الإعلام السليمة والمتعددة والمتنوعة والمستقلة التي يمكنها أن توفر منصة للنقاش العام وفضاء اجتماعيًّا يمارس الجمهور، من خلالهما، حق التعبير بشكل فعال(61). فالصحافة، كسلطة رابعة (بالمعنى المجازي وليس الدستوري)، عندها القدرة على ممارسة الرقابة والجدل والبحث والنقد الحر وتمحيص الآراء، لأنها القوة المباشرة للرأي العام الذي يدرك، بوعيه الداخلي، أنه أقرب إلى التعبير عن نفسه عند الضرورة، من كل الذين أنابهم عنه وأناط بهم مسؤولية السلطات الدستورية لنظام الدولة. ما يعني، أنه إذا كان للصحافة (أو الإعلام) القدرة غير المتناهية على التلاعب بوعي الأفراد، فهي تستطيع، في الوقت عينه، المشاركة في مظهر من مظاهر سيادة الشعب عن طريق الكشف الحقيقي عن رغبات الناس واختياراتهم والإسهام الفعلي في صنع القرارات(62).
لا يلزم المراقب للمشهد الإعلامي في لبنان كبير عناء لكي يوقن أن ما ذُكِر بخصوص دور الإعلام لا ينطبق على الوظائف التي يؤديها الإعلام اللبناني. فعلى الرغم من الحضور الكثيف للوسائل الإعلامية في حياة اللبنانيين، فإن هذا الحضور “لا يعني أن الإعلام في لبنان ينحاز لمصالح الناس ويمثِّل، في هذه الأزمة الوجودية التي يواجهها البلد، جسرًا للحوار بين جميع شرائح الشعب؛ بل على العكس، تمامًا؛ إذ لم يكن أداء الصحافيين اللبنانيين مختلفًا عن أداء أهل السياسة والاقتصاد والمال في البلد”(63). غير أن الأسوأ، قد تمثَّل في تغافل غالبية الوسائل الإعلامية عن الحدود الدنيا للمعايير القيمية والاعتبارات الأخلاقية والضوابط المهنية التي يتعين أن تحكم حركية الإعلام وتضبطها. والحديث عن تلك المعايير والاعتبارات والضوابط، صارت في لبنان أشبه بالترف، بعدما أصبحت “القاعدة الذهبية” التي يرتكز إليها الإعلام اللبناني، هي أن مَن يملك أكبر قدرة على تشويه الحقيقة لخدمة أغراضه ومآربه السياسية، فهو المسيطر ومحقق السبق الصحفي. لذا “قد يكون التحدي الأساسي لكافة الوسائل الإعلامية اللبنانية، حتى تلك التي تبذل جهدًا كبيرًا لإنتاج المعرفة المعمقة والبحثية والاستقصائية، هو انفكاك الجمهور عنها؛ إذ بات هذا الجمهور، بمعظمه، لا يهتم لإنتاج إعلامنا، وباتت المتابعات بحسب الأهواء السياسية، وباتت ممارسة المهنة تبعًا للموقف السياسي للمؤسسة الإعلامية والصحافي فيها”(64).
طال الجدل لإيجاد التعريف الأمثل للممارسة الصحفية المسؤولة تبعًا للتغيرات السياسية والاجتماعية التي كانت تنعكس على واقع المهنة، سلبيًّا أو إيجابيًّا، ومن حقبة إلى أخرى. لكن جوهر الخلاف، كان يتركز في التعريفات المتعارضة التي كانت تُعطى لوظائف الإعلام في المجتمع (مطلق مجتمع)، والتقديرات المتباينة لحاجات الجمهور وانتظاراته (مطلق جمهور). والنقطة الأهم كانت تتمحور حول تحديد مفهوم الدور المفترَض للصحافيين ونوعية الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها والمعايير التي يتوجب عليهم الالتزام بها في عملهم واختياراتهم ونشرهم للمواد الإعلامية(65). وإذا كان معظم الصحافيين يشتركون، غالبًا، في الالتزام بالمعايير الخاصة بالأداء المهني، ذاتها، فإن بعضهم يعتقد أن دوره ينحصر في القيام بالوساطة بين الجمهور والمؤسسات الحاكمة، بينما يعتبر آخرون أن دورهم الصحفي يمتد إلى الدفاع عن مكاسب الجمهور.
الصحافيون اللبنانيون هم، بالتأكيد، من الصنف الأول الذي لا يقيم أي اعتبار للجمهور، ولا يعرف أو يهتم بأن يعرف خصائص الجمهور الذي يتوجه إليه (لا تقوم المؤسسات الإعلامية اللبنانية بأي “دراسة جمهور”، على سبيل المثال، لتقصي اتجاهات المتلقين وانتظاراتهم). لكن، من الخطأ الحديث في لبنان عن جمهور واحد لوسائل الإعلام (كما هي الحال في جميع بلدان العالم)، بل عن “جماهير” متعددة؛ فلكل وسيلة إعلامية لبنانية جمهورها الذي تتوجه إليه، وتسعى إلى شد عصبيته بمواجهة الجمهور الآخر، وهي لا تحاول استقطاب جماهير الوسائل الأخرى (ما يتنافى مع أحد أبرز أهداف الرسالة الإعلامية وهو كسب أكبر شرائح ممكنة من الجمهور). بمعنى آخر، “المتلقون اللبنانيون، هم أشبه بزبائن لدى المؤسسات الإعلامية، وكل مؤسسة لها جمهورها الذي يكره المؤسسات الأخرى (وجماهيرها) وقد يحجب هذه الوسيلة الإعلامية عن أهل بيته”(66). كيف تتفاعل هذه الجماهير، بعامة، مع الإعلام؟
قد لا نجد مواطنًا لبنانيًّا واحدًا لا يتذمر من أداء الإعلام المحلي، وعندما تحاول أن تسأل الناس عن رأيهم في واقع العمل الإعلامي في لبنان، سرعان ما يتدفق سيل الانتقادات للصحافيين، خاصة العاملين منهم في التليفزيونات، ما يُفصِح عن تشكل صورة ذهنية سيئة للغاية لهؤلاء، لدى الجمهور المتلقي. صورة ترتكز عناصرها، بمعظمها، إلى انطباعات كوَّنها أفراد “هذه الجماهير” بأنفسهم، أو أخرى رسمتها أخبار وأقاويل وقصص وصلت إليهم بالتواتر(67). يُوجَّه نوعان من الانتقادات إلى الصحافيين: الأول: يسوق لهم اتهامات تتناول عملهم الذي بات “حافلًا” بالسطحية والأخطاء المهنية والتجاوزات واختلاق الأخبار المزيفة والتحريض المذهبي والطائفي، ويُغفِل معالجة المواضيع التي تهم الناس. أما النوع الثاني من الانتقادات، فهو “يُصوب” على أخلاقيات عملهم؛ إذ يُتهَم الصحافيون بأن معظمهم منخرطون في منظومة الفساد التي تحكم لبنان منذ أكثر من 30 عامًا، بعدما طغت مصلحة هؤلاء الشخصية على المصلحة العامة؛ والأخطر، هو اتهامهم بلعب دور أساسي في تأجيج حمى الانقسامات والنزاعات والفتن، بمختلف أشكالها ودرجاتها(68). فـ”الدور الذي يلعبه الصحافيون اللبنانيون، في هذه المرحلة، منسجم مع الواقع السياسي والمالي؛ بمعنى أوضح، فإن معظم الصحافيين يعملون في السياسة وليس في الإعلام، كمهنة تفترض استقلالية آرائهم ومواقفهم”(69).
قد لا يُفاجأ المرء بالمواقف التي يعلنها الجمهور اللبناني العريض (حيال الإعلام)، لأنه، من السهولة بمكان، فهم دوافعه، حتى ولو لم يكن، بالضرورة، على دراية بالوظائف الواجب أن تؤديها وسائل الإعلام؛ كونه يشعر، بالفطرة، بأن ما يحدث في وطنه هو خارج مجاله، لأن وسائل إعلام بلده لا تبحث فيما يهمه، بل في ما يهم الجماعة أو الفئة المتحكمة فيه، حكومة كانت أو ميليشيا أو شركات خاصة(70). لكن المفاجأة تكمن، في الحقيقة، في تطابق آراء العامة، من الناس، مع الآراء التي عبَّر عنها الصحافيون (أنفسهم)، والذين قابلتهم الباحثة في سياق إعداد هذه الدراسة. فقد أجمع هؤلاء، وهم من ذوي تجارب وعقائد وانتماءات (حزبية وطائفية) وولاءات مختلفة، على الواقع المرير والعليل للإعلام اللبناني بكافة وسائله وقنواته ومنصاته؛ إذ يقول مَن قابلتهم: إن المنظومة الإعلامية اللبنانية أضحت مرآة لجميع “الأمراض” التي يعاني منها البلد، حيث اتخذ معظم إعلامه، في هذه المرحلة، طابع “الصحافة السلبية” التي استنسخت وظيفة كلب الحراسة المقتصِرة على حراسة المؤسسات النافذة في المجتمع(71).
وهي لَمفارقة أن يكون لبعض الصحافيين الموالين للأحزاب المشارِكة في السلطة والمتهمة بتخريب البلد وانهياره، الآراء والتعابير، عينها، التي يعلنها زملاء لهم ممن يُعتبَرون مستقلين ويقومون بأدوار صحفية رصينة ومسؤولة. يدافع بعض الصحافيين عن أنفسهم، ويرون أنهم أصبحوا كبش محرقة، وأن جزءًا كبيرًا من هذه الانتقادات ظالمة، ولا تأخذ بعين الاعتبار تأثير السياسات التحريرية المرسومة من أصحاب المؤسسات الإعلامية والشركات الإعلانية والضغوطات السياسية على أدائهم المهني. هذا في حين يرفض البعض الآخر ما يُساق ضدهم من تُهَم، ويعتبرون أن لهم الحق المطلق في أن يقولوا ويكتبوا ما يشاؤون باسم حرية التعبير والرأي والإعلام. ولكن، هل الإعلام اللبناني حر فعلًا؟
ذاع صيت لبنان كدولة ترسخت فيها الليبرالية؛ ما أفسح المجال للافتراض بأن وسائل الإعلام اللبنانية تتمتع بهامش حرية واسع لا ترقى إليه المنظومات الإعلامية في أي دولة عربية أخرى؛ لكن لبنان يخسر تباعًا، ومنذ العام 2016 تحديدًا، الحريات التي كان يتمتع بها، وبخاصة حرية الرأي والتعبير. إنما، في الأساس، ترجع مستويات الحرية الإعلامية في لبنان، ومن قبيل المفارقة، إلى حالة ضعف هذا البلد وليس إلى ليبيرالية القوانين فيه؛ إذ لا يمكن لهذه الدولة الضعيفة فرض قوانينها، وخصوصًا في مواجهة الوسائل الإعلامية التي يدعمها أصحابها أو مؤيدوها الأقوياء(72). من هنا، يمكن القول: “إن الإعلام في لبنان لم يكن يومًا حرًّا، مثلما نفهم حرية الإعلام، بل كان هناك بعض الهوامش المهنية وأخرى كانت تفرضها الوظيفة الخارجية للإعلام اللبناني (والتي انتفت في هذه المرحلة)؛ إذ كانت هناك حاجة خارجية لـ”متنفس” كان يؤمِّنه لبنان، من خلال التعبير عن بعض الاختناقات في مجتمعات وأنظمة أخرى”(73).
شكل (1): ترتيب لبنان في التصنيف العالمي لحرية الصحافة (2011-2023)
في عام 2021، أشار تقرير مؤشر الديمقراطية حول العالم إلى انزلاق لبنان من فئة “الدول الديمقراطية الهجينة” إلى فئة “الدول الاستبدادية”(74)؛ إذ تسير الحريات الإعلامية فيه على خط مواز لحالة الترهل الشديد والانهيارات العديدة في أروقة الدولة، وتتراجع حرية التعبير بشكل غير مسبوق. يدأب وزراء الإعلام في لبنان، وفي جميع الحكومات المتعاقبة، على تأكيد سعيهم المتواصل لتحسين تصنيف لبنان في المؤشر الذي تُصدِره، سنويًّا، منظمة “مراسلون بلا حدود”، ويُعنى بحرية الصحافة حول العالم ويوثق ترتيب 180 بلدًا بناء على تقييم المنظمة(75).
جدول (3): تصنيف “مراسلون بلا حدود” لمستويات الحرية الصحفية في 180 دولة (2011-2023)
التصنيف | النتيجة |
85-100 | حالة جيدة |
70-85 | حالة جيدة نوعًا ما |
55-70 | حالة إشكالية |
40-55 | حالة صعبة |
ما دون 40 | حالة شديدة الخطورة |
تبعًا للتصنيف أعلاه، الذي تعتمده منظمة “مراسلون بلا حدود”، يتبيَّن أن مستوى الحريات الإعلامية في لبنان، خلال الفترة ما بين 2011-2023، يتمركز في الحالة الإشكالية، أي الحالة التي تقع في منتصف التصنيف، كما يظهر في الشكل رقم (2)، ويمكن لأي تطور أن يدفعها صعودًا إلى الحالة “الجيدة نوعًا ما” أو نزولًا نحو “الحالة الصعبة”.
شكل (2): تصنيف لبنان في سجل الحريات (2011-2023)
ويمكن القول: إن هذا التصنيف يعكس، إلى حد كبير، إشكالية الحرية المتاحة للصحافيين اللبنانيين أثناء ممارستهم لمهنتهم. ففي الظاهر، هي حرية متاحة، لكنها مقيدة بمجموعة من الضوابط الخفية المرتبطة بموقع الإعلام في لبنان ودوره. إنها حرية، على الطريقة اللبنانية، أي مرتبطة بضوابط تُمارَس ضمن ما يمكن تسميته “الديمقراطية الطائفية” التي تمنع أن تصل “حرية” الصحافيين إلى مستوى تتهدد معه آليات اشتغال النظام الطائفي.
خاتمة
سعت الدراسة إلى رصد التحولات التي عرفتها المنظومة الإعلامية اللبنانية خلال الفترة الممتدة بين 2011 و2023، في ضوء التحولات السياسية التي شهدها لبنان، ومواكبة إعلامه لما بات يُعرَف بالربيع العربي. ونلاحظ، في هذا الصدد، أن لبنان وإعلامه لم يكونا معنييْن، كثيرًا، بالثورات العربية، بل انحصر اهتمامهما في ثورة سوريا، وما نتج عنها من تداعيات على الساحة اللبنانية (النزوح السوري إلى لبنان، ذهاب حزب الله للقتال في سوريا، موجة التفجيرات في لبنان بين 2011 و2016).
شهدت المنظومة الإعلامية اللبنانية تحولات ثلاثية الأبعاد: البعد الأول تقني؛ إذ غاب القسم الأكبر من الإعلام الورقي، ودخلت مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام البديل، بقوة، على خط منافسة الإعلاميْن، التقليدي والرقمي. والبعد الثاني اقتصادي؛ إذ حصل تحول في أسلوب تمويل المؤسسات الإعلامية اللبنانية ومصادر هذا التمويل؛ أما البعد الثالث فهو مهني، ويتلخص في تراجع موصوف في أداء الإعلاميين، وفي نوعية المواد الإعلامية المنشورة، والتي طغت عليها سمتا الهشاشة والترهل. لذلك نورد أبرز ما خلُصت إليه هذه الدراسة:
– تسيطر على عمل الإعلام اللبناني حالة استثنائية من الفوضى والتفلت؛ ما أضعف، إلى الحدود القصوى، القدرة على ممارسة مهنية تتسم بالمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية.
– البيئة الصحفية اللبنانية تُعد بيئة غير مؤاتية للعمل الصحفي السليم؛ إذ يفتقد فيها الصحافي للحمايتيْن، القانونية والنقابية، ما يدفعه إلى الخضوع، بالكامل، لمن يوفر له أي شكل من أشكال الحماية (ولاسيما من أصحاب المؤسسات الإعلامية ومَن يمثلون).
– إن “حرية التعبير والرأي” معطاة في لبنان للمؤسسات الإعلامية وليس للصحافيين، بما تمثُّله تلك المؤسسات من تعبيرات طائفية تعكس مفهوم “الديمقراطية الطائفية” التي يقوم على أساسها النظام الحاكم.
– تنبع مضامين الوسائل الإعلامية من هدف محدد، وهو التعبئة السياسية لصالح الجماعات والأحزاب الموجودة في السلطة ولتوجهاتهم الأيديولوجية، ولكنها تُصاغ، أحيانًا، بصورة غير مباشرة وغير صريحة.
– تتقصد وسائل الإعلام اللبناني، والتي تنازلت عن دورها الرقابي للسلطات، تزييف وعي الجمهور المتلقي من خلال مقاربتها ومعالجتها للقضايا المطروحة؛ إذ إنها تقدمها كمادة إعلامية تخدم، حصرًا، وظيفتها وإستراتيجيتها.
مما تقدم، يمكن الاستنتاج أن الوسائل الإعلامية اللبنانية، وعلى عكس ما تدعيه، تشكل القوة الأساسية التي تعيق تبلور نواة لعملية تغيير محتمَل للنظام السياسي، وهذا ما تكشَّف في لحظة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
وتجب الإشارة إلى مسألة مهمة جدًّا، وهي أنه لم يحدث يومًا، في تاريخ لبنان، أن خاض “طرفٌ ما” معركة سياسية مع الإعلام وربحها (ومهما كان حال هذا الإعلام وسماته وأوضاعه وحتى لو كان مفتريًا وسيئًا وتافهًا). فالمعركة مع الإعلام، في لبنان، هي دائمًا معركة خاسرة، والمسألة لها علاقة، ربما، بالوجدان اللبناني الذي يعتبر أي تطاول على الوسائل الإعلامية والإعلاميين مسًّا بالحريات، وسرعان ما يتحول الأمر إلى معركة حريات (حتى ولو كان “موضوع المعركة” لا علاقة له بالحريات).
رغم أمراضه المستعصية، لا يمكن للإعلام اللبناني إلا أن يكون تعدديًّا (بالمعنى التراكمي العددي)؛ أولًا: لأن البلد “مدمن” على الحرية الصحفية، وثانيًا: لأن فيه تنوعًا في قواه السياسية. لكن تعددية الإعلام اللبناني معتورة، وتنقصها مكونات أساسية لتكون صحيحة وسوية، فهي “صورة طبق الأصل” عن لبنان المشرذم سياسيًّا وطائفيًّا ومذهبيًّا. ولذلك، باتت المنظومة الإعلامية اللبنانية تحوي كافة الأنماط التي ذكرها الباحث الأميركي، وليم روو، (والتي لم يذكرها أيضًا)، أي يمكن القول: إن النموذج الصحفي في لبنان هو تعبوي تحريضي، ولكنه كذلك موال بالكامل، وأيضًا معارض “غبَّ الطلب” (تحت التصرف)، ودومًا مأجور للجهة التي تدفع له أكثر (وقد لا يجد مَن يدفع له أصلًا).
لا يبدو هناك أمل بأي حل ينتشل المنظومة الإعلامية اللبنانية من الهوة التي سقطت فيها، طالما هذا النظام السياسي الطائفي، الذي أدخل المؤسسات الإعلامية في صلب آليات اشتغاله، يحكم لبنان ويتحكم باللبنانيين. ولقد بيَّنت الدراسة الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في لبنان بتأديتها وظيفة التأطير وإعادة تشكيل الرأي العام لجمهورها المستهدف؛ وذلك، من خلال الاستعانة بـ”حراس البوابة” في اختيار المواد التي تُستخدَم في توجيه الجمهور وتعبئته بما يخدم النظام الحاكم واستمراريته وتأبيد وجوده.
المراجع
(1) خليل إبراهيم فاخر، البيئة الصحفية، ط1 (الإمارات العربية المتحدة، دار الكتاب الجامعي، 2016)، ص 16.
(2) نبيل دجاني، إشكاليات في الإعلام العربي، ط 1 (بيروت، دار الفارابي، 2019)، ص 35-36.
(3) فاتن حموي ونائب رئيس لجنة الحريات في اتحاد الصحافيين العرب وعضو اللجنة التنفيذية للاتحاد الدولي للصحافيين، علي يوسف، الإعلام وحرب غزة، حوار فاتن (إذاعة صوت الشعب)، صوت الشعب، 1 فبراير/شباط 2024، 120 دقيقة، (تاريخ الدخول: 8 فبراير/شباط 2024)، https://n9.cl/0gh89.
(4) محمد عبد الحميد، نظريات الإعلام واتجاهات التأثير، ط 1 (القاهرة، عالم الكتب، 2004)، ص 177.
(5)Alain Laramée, Bernard Vallée, La recherche en communication: Éléments de méthodologie, (Québec: Presses de l’Université du Québec, 2014), 30.
(6) تمحورت الأسئلة حول رؤية الصحافيين لواقع العمل الإعلامي في لبنان، والدور الذي يلعبه الصحافيون اللبنانيون في هذه المرحلة، وما إذا كان الإعلام اللبناني يقوم بوظيفة رواية الثقافة السياسية وبناء الخطاب العام في لبنان، وأبرز الأحوال والظروف التي أثرت في وسائل الإعلام اللبنانية منذ العام 2011، والتحولات التي شهدتها المنظومة الإعلامية اللبنانية خلال هذه الفترة، وما إذا كان النموذج الصحفي اللبناني لا يزال يُعتبَر تعدديًّا.
(7) ديل ف. إيكلمان، جون دبليو آندرسون، وسائل الإعلام الجديدة في العالم الإسلامي: المجال العام الناشئ، ط 1 (إنديانا، مطبعة جامعة إنديانا، 2003)، ص 63-65.
(8) سعدى محمد الخطيب، العوائق أمام حرية الصحافة في العالم العربي، ط 1 (بيروت، منشورات الحلبي الحقوقية، 2008)، ص 122.
(9) نصر الدين لعياضي، وسائل الإعلام والمجتمع، ط 1 (العين، دار الكتاب الجامعي، 2004)، ص 152-153.
(10) نهوند القادري عيسى، الاستثمار في الإعلام وتحديات المسؤولية الاجتماعية: النموذج اللبناني، ط 1 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2013)، ص 108.
(11) بعدما لفتنا عدد المجلات المرتفع نسبيًّا قياسًا مع باقي الوسائل الإعلامية، سألنا مصادر وزارة الإعلام التي زودتنا بلوائح الوسائل الإعلامية العاملة، حاليًّا، في لبنان عن الموضوع؛ فكان الجواب أن أصحاب هذه المجلات لم يصرحوا بتوقف مطبوعاتهم عن الصدور، ومعظمهم لا يزالون يدفعون الاشتراك السنوي ويشاركون في الانتخابات النقابية، مرجحة أن يكون الدافع هو الحرص على “الامتياز”.
(12) صباح يوم الجمعة في 29 مارس/آذار 2024، صدر آخر عدد ورقي من صحيفة “نداء الوطن” بعد توقف مفاجئ للعائلة الممولة للصحيفة عن الدفع. وبحسب مصادر “نداء الوطن”، هناك مفاوضات جارية، حاليًّا، للاتفاق مع ممول آخر لإصدار الصحيفة أونلاين، وإذا فشلت هذه المفاوضات فسيتم إغلاق الصحيفة نهائيًّا.
(13) غنوة مكداشي وآخرون، “منصات الإعلام البديل في لبنان”، موقع “مهارات”، نوفمبر/تشرين الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 20 فبراير/شباط 2024)، https://n9.cl/pdjrk2.
(14) Colette Brin et d’autres (sous la direction de(, Nature et transformation du journalisme, (Canada: Les Presses de l’université Laval, 2004), 231.
(15) حسن خليل، “مأساة الإعلام المرئي وهزله”، الأخبار، 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2009، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2024)، https://n9.cl/m5bg20.
(16) “SKF Launches 2024 Lebanon Media Ownership Monitor,” skeyesmedia, May 28, 2024, “accessed May 29, 2024”. https://rb.gy/9qe7wd.
(17) مقابلة أجرتها الباحثة مع منير يونس، رئيس قسم الاقتصاد في صحيفة “نداء الوطن”، بيروت، 28 يناير/كانون الثاني 2024.
(18) مقابلة أجرتها الباحثة مع جاد غصن، مراسل تليفزيون “العربي” (عمِل سبع سنوات مراسلًا في تلفزيون “الجديد”)، بيروت، 26 يناير/كانون الثاني 2024.
(19) “النص الكامل لتقرير التدقيق الجنائي لألفاريز آند مارسال”، lbcgroup.tv، 11 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2024)، https://shorturl.at/rDMU5.
(20) مقابلة مع جاد غصن، مرجع سابق.
(21) سهام الشجيري، اقتصاديات الإعلام، ط 1 (الإمارات العربية المتحدة، دار الكتاب الجامعي، 2014)، ص 160.
(22) Nathalie Sonnac, Jean Gabszewicz, L’industrie des médias à l’ère numérique, 3e éd. (Paris: La Découverte, 2013), 104.
(23) مقابلة أجرتها الباحثة مع علي رمال، أستاذ مادة “اقتصاديات وسائل الإعلام” في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، بيروت، 2 فبراير/شباط 2024.
(24) مروان كريدي، “إصلاح القطاع الإعلامي في لبنان: إعلام جديد، سياسة جديدة؟”، مؤسسة كارنيغي- واشنطن،26 يناير/كانون الثاني 2011، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2024)، .https://n9.cl/5zs2v6
(25) أنور خطار، “الذات والآخر في الإعلام المعاصر”، (قُدمت في مؤتمر “كلمة سواء” السابع، قصر اليونسكو- بيروت، 12 – 13 ديسمبر/كانون الأول 2002).
(26) مقابلة مع قاض في المحكمة العسكرية (تحفظ على ذكر اسمه)، ضمن مداخلة للباحثة بعنوان “حماية الصحافيين ومصادرهم: مقاربة لانتهاكات حرية الإعلام في لبنان”، (قُدمت في ندوة “حماية الصحافيين والمصادر الصحفية”، الأشرفية- بيروت، 18 يوليو/تموز 2023).
(27) انظر: نص اقتراح القانون الجديد للإعلام، رقمه 2010/441، والذي بادرت مؤسسة “مهارات” بالتعاون مع النائب غسان مخيبر إلى تقديمه في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2010، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2024)، https://n9.cl/jfy33.
(28) مقابلة أجرتها الباحثة مع طوني عيسى، كاتب مقال سياسي في صحيفة “الجمهورية”، جونيه- لبنان، 25 يناير/كانون الثاني 2024.
(29) مقابلة أجرتها الباحثة مع غسان حجار، مدير تحرير صحيفة “النهار”، بيروت، 31 يناير/كانون الثاني 2024.
(30) مقابلة أجرتها الباحثة مع يمنى الشكر غريب، مدربة في مجال الإعلام والتواصل وعضو مجلس نقابة محرري الصحافة اللبنانية، بيروت، 25 فبراير/شباط 2024.
(31) مقابلة أجرتها الباحثة مع ربيع بركات، أستاذ محاضر في برنامج الدراسات الإعلامية ومنسق برنامج التدريب على الصحافة والاتصال في مركز متابعة التعليم (CEC) في الجامعة الأميركية، بيروت، 17 فبراير/شباط 2024.
(32) مقابلة أجرتها الباحثة مع جورج صدقة، العميد السابق لكلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، ألمانيا، 16 فبراير/شباط 2024.
(33) جميل معوض، “النقابات والتجمعات المهنية المستقلة في لبنان: قراءة في ظل الحراك الشعبي”، مبادرة الإصلاح العربي، بيروت، 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2024)، https://n9.cl/n7lbnp.
(34) مقابلة أجرتها الباحثة مع جوزيف القصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، بيروت، 28 فبراير/شباط 2024.
(35) النص مأخوذ من المداخلات التي قُدِّمَت في المؤتمر الذي نظمه قسم الصحافة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية حول دور النقابات الإعلامية (وكانت الباحثة منسقة له)، الفنار- لبنان، 20 مايو/أيار 2015.
(36) أحمد قران الزهراني، السلطة السياسية والإعلام في الوطن العربي، ط 2 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2022)، ص 139.
(37) Rémy Rieffel, Que sont les médias?, (Paris: Gallimard, 2005), 175.
(38) علي الظفيري والمؤرخ فواز طرابلسي، المقابلة (قناة الجزيرة)، قناة الجزيرة، 22 يناير/كانون الثاني 2023، 51:57، (تاريخ الدخول: 28 فبراير/شباط 2024)، https://n9.cl/0uiq0.
(39) أنطوان نصر الله، “الإعلام والسلطة”، الجمهورية، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2024)، https://n9.cl/14bj9.
(40) وليم روو، الصحافة العربية: الإعلام الإخباري وعجلة السياسة في العالم العربي، ترجمة موسى الكيلاني، ط 2 (الأردن، مركز الكتب الأردني، 1987)، ص 139.
(41) المرجع السابق، ص 140.
(42) مقابلة أجرتها الباحثة مع نقولا ناصيف، كاتب سياسي وصحافي في جريدة “الأخبار” منذ 2006، بيروت، 11 فبراير/شباط 2024.
(43) مقابلة أجرتها الباحثة مع نصري الصايغ، كاتب سياسي وصحافي في موقع “180 بوست”، بيروت، 7 فبراير/شباط 2024.
(44) بسيوني إبراهيم حمادة، دور وسائل الاتصال في صنع القرارات في الوطن العربي، ط 1 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993)، ص 54-55.
(45) جهاد الزين، “الصحافة والفساد”، مجلة الدراسات الصحفية (لبنان، العدد 1، 2002)، https://n9.cl/mjjf14.
(46) كريم نمور والصحافي خالد صاغية، “الإعلام والسلطة في لبنان”، البودكاست القانوني (المفكرة القانونية)، المفكرة القانونية، 11 يونيو/حزيران 2020، 39:54، )تاريخ الدخول: 20 مارس/آذار 2024)، https://n9.cl/4otun5.
(47) مقابلة أجرتها الباحثة مع حسين أيوب، رئيس تحرير موقع “180 بوست”، بيروت، 27 يناير/كانون الثاني 2024.
(48) مقابلة أجرتها الباحثة مع محمد زبيب، رئيس تحرير موقع “صفر” الاقتصادي (عمل قبل ذلك 16 سنة في صحيفة “الأخبار” لكنه استقال منها مع انطلاق ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019)، بيروت، 21 فبراير/شباط 2024.
(49) كاترين فولتمر وروديغر شمت-بك، “ديمقراطيات جديدة بغير مواطنين؟ (وسائل الإعلام الجماهيرية والتوجهات الديمقراطية: مقارنة بين أربعة بلدان)”، في: وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال السياسي في الديمقراطيات الجديدة، ترجمة محمد الخولي، ط 1 (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2016)، ص 493.
(50) سليمة بن حسين، “مفهوم اقتراب الثقافة السياسية عند غابريال آلموند وسيدني فيربا”، المفكر (جامعة بسكرة، الجزائر، المجلد 16، العدد 2، 2021)، ص 77-103.
(51) فاضل محمد البدراني، الإعلام: صناعة العقول، ط 1 (بيروت، منتدى المعارف، 2011)، ص 176.
(52) مقابلة أجرتها الباحثة مع نضال أيوب، إعلامية وأستاذة في جامعة الأنطونية، جبيل- لبنان، 22 فبراير/شباط 2024.
(53) مقابلة أجرتها الباحثة مع طلال حاطوم، مدير عام إذاعة “الرسالة” وأمين سر نقابة الصحافة في لبنان، بيروت، 29 يناير/كانون الثاني 2024.
(54) مقابلة أجرتها الباحثة مع يقظان التقي، صحافي يُعد برنامجًا اجتماعيًّا ثقافيًّا في إذاعة الشرق- بيروت، لبنان، 31 يناير/كانون الثاني 2024.
(55) مقابلة أجرتها الباحثة مع جان عزيز، كاتب مقال أسبوعي في موقع “أساس ميديا” (مستشار سابق لرئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون)، لبنان، 12 فبراير/شباط 2024.
(56) مقابلة مع جاد غصن، مرجع سابق.
(57) مقابلة أجرتها الباحثة مع البروفيسورة مهى زراقط، صحافية في جريدة “الأخبار” وأستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، بيروت، 26 يناير/كانون الثاني 2024.
(58) مقابلة أجرتها الباحثة مع راغب جابر، أستاذ في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية وكاتب مقال سياسي في صحيفة “النهار” بيروت، 19 فبراير/شباط 2024.
(59) مقابلة أجرتها الباحثة مع عباس ضاهر، مدير مركز الاستشراف للمعلومات (مدير البرامج السياسية في تليفزيون “إن بي إن” (NBN) حتى نهاية 2022)، بيروت، 30 يناير/كانون الثاني 2024.
(60) مقابلة أجرتها الباحثة مع ديانا مقلد، سكرتيرة تحرير موقع “درج” وشريكة مؤسسة فيه (عَمِلت 27 سنة في تليفزيون “المستقبل” الذي أقفل في العام 2020)، بيروت، 28 يناير/كانون الثاني، 2024.
(61) Gerard Spiteri, Le journaliste et ses pouvoirs, (Paris: Presses Universitaires de France, 2004), 93.
(62) Alex Mucchielli, L’art d’influencer, (Paris: Armand Colin, 2009), 49.
(63) مقابلة مع حسين أيوب، مرجع سابق.
(64) مقابلة أجرتها الباحثة مع سعدى علوه، رئيسة قسم الصحافة في “المفكرة القانونية”، بيروت، 3 فبراير/شباط 2024.
(65) Dominique Wolton, Éloge du grand public, (Paris: Flammarion, 1990), 194.
(66) مقابلة مع الدكتور راغب جابر، مرجع سابق.
(67) مصطفى متبولي، الصحافي اللبناني بين الأسطورة والواقع، ط 1 (لبنان، المكتبة العصرية، 2018)، ص 43-69.
(68) لا يلتزم الصحافيون اللبنانيون بالمواثيق الموقع عليها رسميًّا لضبط عملهم وأخلاقياته، وآخرها توقيع ممثلي 32 وسيلة إعلامية لبنانية (صحف وتليفزيونات وإذاعات ومواقع إلكترونية) على ميثاقيْ شرف، في 25 يونيو/حزيران 2013 و3 فبراير/شباط 2016، يتعهدون فيهما بنبذ التفرقة وتعزيز السلم الأهلي من خلال مضامين تُبرِز الحقيقة بصدقية ودقة ومهنية وتعمل ضمن مناخ من الاستقلالية والحرية والمسؤولية الاجتماعية.
(69) مقابلة أجرتها الباحثة مع واصف عواضة، مدير الأخبار السابق في “تليفزيون لبنان” وعضو مجلس نقابة المحررين الصحافيين، بيروت، 9 فبراير/ شباط 2024.
(70) نبيل دجاني، “دور الإعلام في ثقافة الحوار”، الأخبار، 9 مارس/آذار 2017 (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2024)، https://n9.cl/okqgvn.
(71) Serge Halimi, Les nouveaux chiens de garde, 2e éd. (Paris: Raisons D’agir, 2005),143-144.
(72) سارة الريشاني، “لبنان: شبكة متعثرة من المصالح السياسية والتجارية”، في: كارولا ريشتر وكلاوديا كوزمان (محرران)، نُظم وسائل الإعلام العربية، ترجمة دعاء نبيل سيد إمبابي، ط 1 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2022)، ص 50.
(73) مقابلة مع محمد زبيب، مرجع سابق.
(74) “مؤشر الديمقراطية العالمي: لماذا تتراجع حالة الديمقراطية في العالم العربي؟”، بي بي سي، 13 فبراير/شباط 2022، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2024)، https://shorturl.at/DIJR8.
(75) في تقرير “مراسلون بلا حدود” لسنة 2023، حلَّ لبنان في المرتبة 119 من أصل 180 بلدًا يشملها التصنيف (أي هناك 61 بلدًا، فقط، وضعُ الحريات فيه أسوأ من وضعها في لبنان)، “مراسلون بلا حدود”، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2024)، https://n9.cl/zonlr.
* أ.د. وفاء أبو شقرا، أستاذة الكتابة الإذاعية والتليفزيونية، رئيسة مركز الأبحاث في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية.
Dr. Wafaa Abu Chakra, Professor of Radio and Television Writing. Head of the Research Center at the Faculty of Media at Lebanese University.