إعداد – Preparation

سَلَّم المباركيSallam Mbarki

 

 

إشراف – Supervision

د. حسن حمائز – Dr. Hassan Hamaize

 

جامعة ابن زهر، المغرب Ibn Zohr University, Morocco

 

السنة – Year

20212022

 

اللغة – Language

العربية – Arabic

مقدمة

شهد المغرب في أوائل التسعينات من القرن العشرين جملة من الأحداث والتحولات التي اعتبرها المراقبون والمتتبعون للحالة السياسية المغربية مؤشرات دالة على وجود تحول وانتقال نوعي في مسار النسق السياسي والاجتماعي المغربي نحو إرساء المجتمع الديمقراطي. وكان من أبرز هذه الأحداث تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان (1990)، وإحداث وزارة حقوق الإنسان (1993)، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين (أغسطس/آب 1991، يوليو/تموز 1993، مايو/أيار 1994)، ثم الإصلاح الدستوري (1996)، وتعيين حكومة التناوب التوافقي (1998)، وانتقال السلطة للملك وإقالة وزير الداخلية، إدريس البصري، (1999)، ثم إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة (2004)، وخطاب الملك بتاريخ 9 يوليو/تموز 2011 حول التعديلات الدستورية في سياق ما سمي بـ”الربيع العربي”. لكن هذا الانتقال لا تزال تواجهه العديد من المعوقات والثغرات، سواء القانونية التي ترتبط بالدستور، أو المعوقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما تواجهه تحديات كبرى تتمثَّل في العديد من المتغيرات المتسارعة والتحولات العميقة الداخلية والدولية.

وبغض النظر عن هوية صورة النظام السياسي، وأيضًا الانتقادات التي تُوجَّه إلى الحالة السياسية والوضعية الراهنة، فإن الحس النظري الأول لإشكالية الانتقال الديمقراطي ينطلق من مسلَّمة مركَّبة من شقين أساسيين، هما: إعلام/انتقال ديمقراطي؛ إذ تقوم وسائل الإعلام بدور رئيسي وفاعل في تشكيل سياق الانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي في المجتمعات، وتعكس طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين النخبة والجماهير. ويتوقف إسهام وسائل الإعلام ودورها في عملية التغيير السياسي والديمقراطي على طبيعة ووظيفة تلك الوسائل في المجتمع، وحجم الحريات، وتعدد الآراء والاتجاهات داخل هذه المؤسسات بجانب طبيعة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية المتأصلة في المجتمع. لذلك لم يقتصر الانتقال الديمقراطي في هذه الأطروحة على الممارسة السياسية فحسب، ولا طبيعة النظام والمشهد السياسي في فترة من الفترات، بل امتد إلى الفضاءات والممارسات المدنية تفاعلًا مع الإعلام، باعتبار أن البلد الديمقراطي هو من يمنح حرية أكبر للصحافة والإعلام، وأن وجود إعلام حر ومهني شرط أساسي لانضمام أي بلد إلى الديمقراطيات الكبرى. كما أن سؤال الانتقال الديمقراطي يبدأ من تمكين المهنيين في قطاع الصحافة والإعلام من حرية أكبر للتعبير دون كوابح، سواء كانت صريحة أو ضمنية تمنع أو يمكن أن تلجم الممارسين بأي شكل من الأشكال احترامًا للمعايير الدولية المتعارف عليها في مزاولة المهنة.

ويطرح موضوع الإعلام والانتقال الديمقراطي بالمغرب أسئلة وإشكالات عديدة لارتباطه بما هو اجتماعي وسياسي وثقافي، ومن ثم فالمتغيرات السوسيو-سياسية والسوسيو-إعلامية لها صيغة التجديد قياسًا بالظرفية الزمنية وصيغة المجال الذي تشمله الحالة. ومن هذا المنطلق، فإن الوسيلة الإعلامية تمثِّل اليوم قوة وعاملًا مؤثرًا في توجيه الرأي العام، لذلك تبحث الأطروحة في العلاقة التي يمكن أن تكون بين مكوِّن الإعلام، باعتباره جزءًا من صورة الديمقراطية، ومسألة الانتقال الديمقراطي، من خلال إبراز الإشكالية الرئيسية للموضوع التي تفرز تفاعلًا بين متغيرين، هما: الإعلام والانتقال الديمقراطي؛ إذ إن الإعلام أصبح رمزًا لعملية الانتقال الديمقراطي، في الوقت الذي يُعد فيه الانتقال الديمقراطي صورة حقيقية للإعلام الحر والنزيه أو الإعلام المتحكَّم فيه، فهو يعكس بنية السلطة داخل المجتمعات.

  1. إشكالية الدراسة والرؤية المنهجية

تشير الملاحظة الاستكشافية لأبعاد العلاقة بين مفهومي الإعلام والانتقال الديمقراطي إلى الطابع المركَّب للموضوع؛ إذ إن إشكالية التأثير والتأثُّر تظل بارزة وذلك بناء على أدوات علمية ومنهجية مثل القياس والاستنباط. وترى الأطروحة أن موضوع الإعلام قلَّما يجري ربطه بالانتقال الديمقراطي الذي يوضع في نسق الإصلاحات السياسية، ودولة المؤسسات والحق والقانون، والتطور التنموي، وحرية التعبير التي تعتبر رافدًا أساسيًّا من روافد الإعلام. انطلاقًا من ذلك تبحث الدراسة مسألة الإعلام والانتقال الديمقراطي بالمغرب وطبيعة علاقة التأثير والتأثُّر بينهما في ظل المتغيرات الإعلامية والديمقراطية محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.

ويتفرَّع عن هذه الإشكالية حقل استفهامي يقارب أبعادًا مختلفة في إطار العلاقة بين الإعلام والانتقال الديمقراطي:

 – هل هناك علاقة أفقية أم عمودية بين الإعلام والانتقال الديمقراطي؟

– هل قوة الإعلام والضغط الذي يمارسه على الفضاء السياسي هو الذي يولِّد الانتقال أم أن الإعلام الحر نتيجةٌ لمرحلة الانتقال الديمقراطي باعتباره أحد مخرجات الانتقال الديمقراطي؟

– ما المؤشرات المادية والموضوعية التي توحي بوجود انتقال ديمقراطي؟ وبأي شكل من الأشكال تخدم وسائل الإعلام والتواصل العملية الديمقراطية؟

– إلى أي حد ينبني مطلب تحقيق الانتقال الديمقراطي على إعلام حر، خاصة في البلدان العربية (المغرب نموذجًا)؟

– إلى أي حدٍّ يمكن القول بأن مواقع التواصل الاجتماعي أسهمت في صيرورة الانتقال الديمقراطي في ظل الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية والمجتمعية في النموذج المغربي؟

– ما السبل الكفيلة لتوسيع مكانة الإعلام وباقي وسائل التواصل في إذكاء العملية الديمقراطية؟

اعتمدت الأطروحة في معالجة هذه الإشكالية مقاربة مركَّبة تجمع بين منهج التحليل الوظيفي، والمنهج الوصفي؛ إذ تسمح فاعلية المنهج الأول بدراسة الوظائف الظاهرة والأخرى المستترة أو غير المتوقعة التي تساعد في الكشف عن طبيعة التفاعل بين الظاهرة الإعلامية والظواهر الاجتماعية الأخرى، فهو (المنهج التحليلي الوظيفي) يعتبر الإعلام نظامًا عرفيًّا مفتوحًا يتبادل التأثير ويتفاعل مع الانتقال الديمقراطي. أما المنهج الوصفي فيتناول الظاهرتين من زوايا مختلفة ويخضعهما للفحص والتحليل والتمحيص والوصف من أجل استخراج نتائج علمية ومحاولة الإجابة عن الإشكالية المطروحة.

  1. الإعلام والانتقال الديمقراطي: مقاربة نظرية لإشكالية المفهوم والنموذج

تركز أطروحة الباحثة، سلم المباركي، في سياق مقاربة أبعاد الإشكالية، أولًا، على التأصيل النظري لمفهوم الإعلام والانتقال الديمقراطي، وتحاول تحديد النموذج الذي يحذوه المغرب في مجال الإعلام والتطورات المصاحبة له، ورصد أهم المؤشرات المحددة اليوم لمجال الإعلام في علاقته بما هو سياسي واقتصادي ومؤسساتي، وكيف يخدم الإعلام مسألة الانتقال الديمقراطي نظريًّا إذا ما تم اعتبار الانتقال بمؤشرات ومعايير علمية.

وتشير الأطروحة إلى أن مفهومي الإعلام والانتقال الديمقراطي يحيلان إلى درجات متقدمة من التقاطع الموجود بين حقلين معرفيين من حقول العلوم الإنسانية، أولهما: حقل عام وواسع وهو حقل العلوم السياسية، والثاني: حقل خاص وهو علوم الإعلام، وهو ما يطرح من جديد الوضعية الخاصة والاستثنائية لعلوم الإعلام والاتصال في علاقتها بباقي العلوم الإنسانية. فقد ظلت الدراسات الإعلامية والاتصالية على مدى أربعين عامًا حقلًا معرفيًّا متحركًا ومجالًا بحثيًّا مفتوحًا تتقاطع ضمن دائرته مجموعة من العلوم الإنسانية. وشكَّلت وسائل الإعلام طوال عقود الستينات والسبعينات وحتى بداية الثمانينات، وفي ظل هيمنة الدولة الوطنية على دواليب الحياة سواء في السياقين الغربي أو العربي، جزءًا من البنية الفوقية التابعة للدولة، وكانت وظائف الإعلام حينذاك تتحدد في الوظيفة الاجتماعية والتربوية للرسالة الإعلامية التي تسعى لتحقيق هيمنة وديمومة الخطاب الواحد للدولة.

ومن هنا، كان الإعلام يمثِّل جزءًا من السياسة العامة للدولة، بما يعنيه ذلك من هيمنة الدولة أو الحزب الواحد على دواليب العملية الإعلامية والتواصلية، وتمكُّن أجهزتها الأيديولوجية من السيطرة على الجماهير والتصدي لكل دعوات التغيير. في مقابل ذلك، شهدت حقبة التسعينات من القرن العشرين موجات من الثورات التكنولوجية المرتبطة بانتشار الشبكات الرقمية التي تغلغلت في مشارب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. وقد أسهم ذلك في تطور الاهتمام من الدائرة الاجتماعية للعملية الإعلامية نحو البعد السياسي للعملية الإعلامية والتواصلية، من خلال التركيز على الوظائف السياسية للإعلام والاتصال وفق معادلة جديدة تقوم على استحضار فاعلين سياسيين جدد من غير الدول، ودورهم في تفسير العلاقات الاجتماعية والسياسية الجديدة التي تؤسِّس لحالة الانتقال من علاقات قوامها الثبات والسكون إلى علاقات جديدة تقوم على التحول والتغير.

وفي سياق التأصيل لمفهوم الانتقال الديمقراطي، الذي أصبح أحد البراديغمات الأكثر تداولًا في الأدبيات السياسية، لاسيما في حقل النظم السياسية المقارنة، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تبدي الباحثة، سلم المباركي، ملاحظتين بخصوص الحالة المغربية؛ إذ إن مقاربة المفهوم في سياق الواقع المغربي لا تعدو أن يكون حديثًا عن شيء غير مكتمل الوجود من جهة، لكنه من جهة أخرى موجود وحَدَثَ ويَحْدُث في أكثر من مكان في العالم، باعتباره مسلسلًا يهدف إلى استبدال القواعد الديمقراطية بأخرى أوتوقراطية. أما الملاحظة الثانية فترتبط بعملية الانتقال التي تمر أو يجب أن تمر في إطار ديمقراطي بالمعنى الخاص، أي آليات ديمقراطية صرفة، مثل: انتخابات نزيهة، وفصل تام للسلط، واستقلالية القضاء، ودستور حديث عصري يفتح مجالًا حقيقيًّا لمماسة الحكم وفاعلية المجتمع المدني وتوسيع دائرة الحريات.

وتوضح الأطروحة أن هناك مصطلحات متعددة تستخدم بشكل مترادف في سياق التعبير عن ظاهرة الانتقال الديمقراطي، ومنها: التحول الديمقراطي، الإصلاح السياسي، الدَّمَقْرَطَة، في إشارة إلى علمية الانتقال نحو الديمقراطية أو التحول من النظم السلطوية إلى حكومات شعبية أو ديمقراطية، وهي العملية التي تقتضي إصلاحًا أو تحولًا في بنية النظام السياسي وما يتطلبه من بناء ديمقراطي حقيقي. كما تتعدد تعريفات المصطلح؛ إذ ليس هناك اتفاق بين الباحثين حول المفهوم لوجود عدد من الإشكاليات المحيطة به، وباعتباره أيضًا عملية معقدة بطبيعتها تتداخل في تشكيل مسارها ونتائجها عوامل عديدة داخلية وخارجية.

وتخلص الباحثة، المباركي، إلى أن مفهوم الانتقال الديمقراطي يشير من الناحية النظرية إلى مرحلة وسيطة -تشهد غالبًا مراحل فرعية- يتم خلالها تفكيك النظام غير الديمقراطي القديم أو انهياره، وبناء نظام ديمقراطي جديد. وعادة ما تشمل عملية الانتقال مختلف عناصر النظام السياسي، مثل: البنية الدستورية والقانونية، والمؤسسات والعمليات السياسية، وأنماط مشاركة المواطنين في العملية السياسية…إلخ. بالإضافة إلى ذلك، فإن مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية قد تشهد صراعات ومساومات وعمليات تفاوض بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين. وتعتمد الدراسة مفهومًا للانتقال الديمقراطي يحيل على لحظة تحول في الدينامية العامة للنسق السياسي في أكثر من بلد عربي، لذلك فهو عمليًّا يحيل على معادلة سياسية ودستورية جديدة تتم في لحظة سياسية فارقة تقوم على الصراع بين مشروعين مجتمعيين بهدف تغيير النظم القديمة وإقامة نظم جديدة. وقد يتطلب ذلك تدابير سياسية تعتمد أدوات التدبير الديمقراطي وأسلوب المأسسة، مثل: نظام للحكم والمجتمع، أو تأسيس تحالفات طبيعية وأحيانًا غير طبيعية تقتضيها دقة المرحلة، وأحيانًا أخرى عبر اللجوء إلى وسائل وتدابير غير سياسية لحسم الصراع.

وتتميز مرحلة الانتقال الديمقراطي بثلاث مواصفات عامة، هي:

– أولًا: حضور أو استحضار شكل واحد أو أكثر من أشكال عدم الاستقرار، وغالبًا ما تشهد هذه المرحلة صراعات سياسية وغير سياسية بين الفاعلين الرئيسيين أو عبر تدخلات إقليمية أو حتى دولية.

ثانيًا: كل مرحلة انتقالية تشهد في الغالب الأعم مراحل فرعية تتباين فيها نتائج المواجهات بين قطبي الصراع، ويتم خلالها تفكيك النظام غير الديمقراطي القديم أو انهياره وبناء نظام ديمقراطي بدرجات متفاوتة.

ثالثًا: تجري عمليات الانتقال الديمقراطي وفق مستويين اثنين: يكون الانتقال إما من الأعلى بمبادرة من النظام السياسي الحاكم وبصورة اضطرارية تحت ضغوط مرتبطة بالداخل أو الخارج، لكن نتائجه تبقى في الغالب الأعم ظرفية، وإما يكون الانتقال من الأسفل بواسطة قوى المعارضة المدعومة بتأييد شعبي واسع، أو عبر التنسيق بين المعارضة والنخبة الحاكمة، وأحيانًا أخرى عبر التدخل الأجنبي.

وفي هذا السياق، ترى الأطروحة أن ما سُميت بثورات الربيع العربي شكَّلت حالة ثورية من الانتقال الديمقراطي، وحركة دافعة تنتقل بالمجتمع أشبه ما تكون بمسلسل طويل يتم الانتقال ضمنه من نظام سياسي مغلق يقتصر على النخب الحاكمة إلى نظام سياسي مفتوح يتيح للمواطنين المشاركة في اتخاذ القرارات ويسمح بتداول السلطة.

أما عن مسؤولية الإعلام في مرحلة الانتقال الديمقراطي، فتلاحظ الدراسة أن الإعلام الرسمي والحزبي وأيضًا الإعلام التابع للقطاع الخاص ظل في الحالة المغربية -رغم كونه سلطة رابعة- مغيبًا عن النقاش. فقد كان الحلقة الأضعف في مسلسل الانتقال الديمقراطي بالمغرب؛ حيث استمر التدبير نفسه في التعاطي مع الشأن العام والفاعلين السياسيين، واتسم عمومًا بالحذر وأسلوب الدعاية والخوف من الاختلاف في مواجهة الجمهور. ولم تمس هذه السياسة الفاعلين الحزبيين والسياسيين الذين يوجدون خارج الحقل المؤسساتي أو المعارضة البرلمانية أو المثقفين المستقلين فقط، ولكنها مست بشكل أكبر العمل الحكومي. وأسهم ذلك في تعميم التعتيم والدعاية وعزل المواطن ومختلف الفاعلين عن حقائق الوقائع قياسًا لما كان سائدًا والإكراهات التي تواجه تدبير الشأن العام في سياقاته المحلية والدولية. وكان من المتوقع أن تسهم الصحافة في دعم مسلسل الحريات وتعزيز الديمقراطية والإيمان بالاختلاف والالتزام بالموضوعية ونقل الرأي والرأي الآخر، لكن الممارسة بيَّنت أن صحافة القطاع الخاص تحولت إلى وسيلة للدعاية ضد توجهات سياسية معينة.

وتلاحظ الأطروحة أن طبيعة دور وسائل الإعلام في تعزيز الديمقراطية وقيم المشاركة السياسية وصنع القرار السياسي يرتبط بفلسفة النظام السياسي، التي تعمل في ظله هذه الوسائل ودرجة الحرية التي تتمتع بها داخل البناء الاجتماعي. فوسائل الإعلام الحرة تقوم بثلاثة أدوار جوهرية في تعزيز الديمقراطية وتكريس مبادئ الحكامة الجيدة، باعتبارها أولًا محفلًا وطنيًّا يمنح صوتًا لقطاعات المجتمع المختلفة، ويتيح النقاش لجميع وجهات النظر بصفتها عنصر تعبئة يُيَسِّر المشاركة المدنية بين جميع قطاعات المجتمع، ويُعزِّز قنوات المشاركات العامة. وثانيًا: تعمل هذه الوسائل باعتبارها رقيبًا يكبح تجاوزات السلطة، وتزيد من الشفافية الحكومية، وتُخضع المسؤولين للمساءلة عن أفعالهم أمام الرأي العام. وثالثًا: تُعد أداة فاعلة في التأثير على الشأن العام والسياسات العمومية من خلال التحقيقات والتقارير وصياغة الأطر التي تستطيع التأثير في كيفية التفكير لدى الجمهور.

ولم تغفل الدراسة مقاربة دور الصحافة الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي في العالم العربي، وهي المنطقة التي تسجل أعلى مستويات الأمية الرقمية والفوارق في استعمال شبكة الإنترنت في العالم، لكنها أدت دورًا رئيسيًّا في تفجير ما تسميه “الانتفاضات الديمقراطية”، لأنها لم تكن تعكس تجمعات رقمية افتراضية بل تجمعات رقمية واقعية. وهنا، قدَّمت شبكة الإنترنت خدمتين رئيسيتين للمطالبة بالديمقراطية في العالم العربي، أولًا: آلية بث الأخبار والمعلومات المختلفة. وثانيًا: آلية تسهيل الاتصال مع الآخر. فقد جعلت الإنترنت من مستخدمها مرسلًا ومتلقيًا للمعلومات في الوقت ذاته، وهو ما يحقق نشر الثقافة السياسية ويمنح الأفراد والجماعات فرصة وحرية بناء موقف سياسي حيال الأحداث الآنية والمشاركة في صناعة القرار السياسي. لكن لا ينبغي أن يُفهم من هذه الاستنتاجات، توضح الباحثة المباركي، أن الثورة التكنولوجية كانت تقف خلف مجموع التحولات الجديدة في تلك المجتمعات، سواء كانت غربية أو عربية، بل إن هذه الوسائل والأدوات قامت بنشر وإبراز أبعاد تلك التحولات والفاعلين وفق معطيات ومتغيرات جديدة؛ حيث أسهم اندماج وسائل الإعلام التقليدية ووسائل الإعلام الجديدة القائمة على التشبيك في وصول هذه التحولات إلى أكبر قاعدة جماهيرية سواء داخل الحدود الجغرافية للبلد الواحد أو على مستوى الإقليم أو حتى على مستوى العالم.

  1. العلاقة التفاعلية بين الإعلام والمسار الديمقراطي بالمغرب

تركز الأطروحة في هذا المحور على إبراز تمظهرات الإعلام ومؤشرات الانتقال الديمقراطي وعلاقة الإعلامي بالسياسي في الحالة المغربية، ورصد مسألة حرية الصحافة باعتبارها أول مقومات الديمقراطية. وتشير في بداية التحليل إلى تباين نتائج الدراسات بشأن وجود علاقة إيجابية أم سلبية بين وسائل الإعلام والديمقراطية، وما إذا كان ينبغي أن تسبق عملية تحرر وسائل الإعلام خطوات التحول الديمقراطي أم العكس. وقد نفى بعض الدارسين والباحثين وجود أي علاقة مباشرة بين وسائل الاتصال والديمقراطية، لأن الإعلام يشجع كلًّا من الإصلاح الديمقراطي وغير الديمقراطي، بينما يؤكد آخرون أن دور وسائل الإعلام في عملية التحول الديمقراطي يرتبط في الأساس بدور وسائل الإعلام في الديمقراطيات القائمة، مما يعني ضرورة أن يسبق الإعلام الحر عملية التحول الديمقراطي.

وتصنف الباحثة، سلم المباركي، الدراسات المُفَسِّرة للعلاقة بين وسائل الإعلام والانتقال الديمقراطي في ضوء ثلاثة اتجاهات:

– الاتجاه الأول: يعترف بالدور الفاعل للإعلام في عملية التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي بمعناه العام.

– الاتجاه الثاني: ينظر بسلبية لدور وسائل الإعلام في عملية التحول الديمقراطي ويُقلِّل من أهميته.

– الاتجاه الثالث: ينظر باعتدال لعلاقة الإعلام بالديمقراطية؛ إذ يقوم بأدوار محددة في مرحلة التحول الديمقراطي.

لكن من خلال المجال التطبيقي العملي وانطلاقًا من الملاحظة العلمية، توضح الباحثة، فإن الإعلام له تأثير سطحي، وهو أمر يتجلى من خلال المواضيع التي يتطرق لها الإعلام العمومي المغربي -رغم الإجراءات التي مست هيكله وإطاره القانوني- والخصوصي على حد سواء، باستثناء بعض الفترات الزمنية التي تناقش فيها بعض المواضيع المتعلقة بهموم المواطنين الحقيقية، والتي لها ارتباط بالديمقراطية ومؤشراتها والانتقال نحو الديمقراطية المأمولة، وبالتالي يطرح السؤال حول حرية الإعلام كأحد المقومات المبدئية للانتقال الديمقراطي.

وترصد الدراسة صيرورة الإصلاحات التي شهدها المشهد الإعلامي السمعي-البصري العمومي لتمكينه من المرونة الكافية لمنافسة القطاع الخاص عبر تحويل الإذاعة والتلفزة المغربية إلى شركة وطنية، لكن هذا الإعلام ظل يحتاج إلى تطوير حكامته الداخلية ونموذجه الاقتصادي والرفع من مستوى إنتاجه عبر ترسيخ القيم المهنية؛ الأمر الذي يمكِّنه من تقوية إشعاعه الاجتماعي والثقافي داخل المجتمع. أما تجربة الإذاعات الخاصة التي تُعد ثمرة من ثمار الإصلاح الذي جرى بين عامي 2002 و2006، فإنها تميزت بضعف كبير على المستوى المهني رغم تجسيدها لإعلام القرب وإثرائها للمشهد الإذاعي؛ إذ لم تلتزم بما تعهَّدت به عند تقديم مشاريعها إلى الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري من أجل الحصول على الترخيص، فضلًا عن ارتهانها لشركات الإعلانات. وتبيَّن بعد سنوات أن نتائج هذا الإصلاح كانت دون المأمول، كما ورد في مذكرات وتقارير بعض الفاعلين المهنيين والحزبيين، وتلا ذلك الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع الذي انطلق في أوائل العام 2010، وأظهر حدود الإصلاحات التي بدأت في العام 2002، ثم جاء تقييم الكتاب الأبيض لحالة الإعلام في ربيع 2011، وأكد الموقع المركزي لإصلاح شمولي للإعلام في ظل عملية التحول الديمقراطي، ثم إقرار دستور جديد في إطار ديناميكية سياسية جديدة.

وفي ضوء نتائج مسارات إصلاح الإعلام وعلاقته بالديمقراطية، ترى الأطروحة أن هناك ضرورة لإعادة بناء مفهوم انتقال ديمقراطي بالمغرب، لأن الحالة السياسية تُظهر إلى أي حد اجتهد النظام السياسي وجهات أخرى معنية ببناء قواعد للانتقال الديمقراطي في رسم حدود غير قابلة للتجاوز، وبمعدل سرعة لا يتجاوز الإمكانيات والحدود المسموح بها من طرف النظام السياسي؛ حيث تتم عملية بناء الانتقال بجدول أعمال لا يتجاوز في أقصى الحدود توسيع المجال السياسي في وجه مختلف التعبيرات. وهو ما يطرح أسئلة جوهرية وعميقة حول واقعية وجود المغرب في مرحلة الانتقال الديمقراطي، خاصة في ظل ممارسات التحكم في الخريطة السياسية ورسم حدود للحريات وحقوق الإنسان. لذلك أصبح مفهوم الانتقال الديمقراطي فاقدًا للمعنى من فرط الاستعمالات، وأصابه عجز في المصداقية؛ إذ إن هناك العديد من الاتجاهات المتناقضة للتطورات، والتي تتوزع بين التقدم الدستوري والمعياري وعودة الأساليب السياسية القديمة، وبين عناوين التحديث المادي ورجوع التقليد…إلخ.

وحول مستقبل الإعلام المغربي، ترى الأطروحة أن الصحافة الحرة لا يمكن أن تُبْنَى إلا في إطار بناء ديمقراطي حقيقي، كما أن فشل الإصلاح في المجال الإعلامي وجمود الوضع السياسي يعوقان مسألة التحول الديمقراطي. لذلك، فإن تجاوز هذه الوضعية يتطلب إعادة النظر في ثلاثة مرتكزات أو مكونات:

– المكون الأول: ويتعلق بتشريع جدي يحمي الصحفي أثناء ممارسته لمهامه، وذلك بضمان حرية التعبير والحق في المعلومة والحق في حماية مصادره…

– المكون الثاني: ويرتبط بإرساء قواعد تنظيم الدعائم الذاتية دون المساس بشرف المهنة أو الإخلال بأخلاقياتها.

– المكون الثالث: وهو إصلاح الإعلام العمومي بمقاربة تجعله مرفقًا عامًّا وليس مجرد متحدث باسم السلطة أو النظام وابتعاده عن أهداف ووظائف الإعلام.

وتخلص الأطروحة في سياق رصد الحالة الراهنة للمشهد الإعلامي إلى أن المغرب “فشل فشلًا ذريعًا في الذهاب والتوجه لمسألة الإصلاح، باعتبار أن المشهد الإعلامي يعكس اليوم اللامهنية والعشوائية التي يتخبَّط فيها الإعلاميون والإعلام على حدٍّ سواء”. فهناك إعلاميون اليوم في السجن، والذين سُلبت حريتهم بسبب كتاباتهم، كما أن القضايا والملفات التي حُكم بها على هؤلاء الصحفيين تثير الشك والريبة، خاصة أن هذه القضايا عندما تحال على القضاء تبقى معلقة وبدون النطق بأي حكم؛ الأمر الذي يؤثر على المشهد الإعلامي ويجعله يبحث في التفاهة والرداءة كما أسماه الكاتب الألماني، كارل كراوس (Karl Kraus)، وهو ما يشد البلاد خطوات إلى الوراء في المسار الديمقراطي، وينسف سنوات من المصالحة، ويهدر الزمن التنموي للمغرب.

 

خاتمة

تخلص الدراسة، في مقاربتها لأبعاد العلاقة بين الإعلام والانتقال الديمقراطي في الحالة المغربية، إلى أن الإعلام جزء من السياسة في المغرب، وأن منطق اشتغال المنظومة السياسية هو ما يحدد للإعلام دوائر اشتغاله. وكما أن التحول السياسي تراكمي وتدريجي فكذلك التحول الإعلامي، حيث وجدت بعض هوامش الحرية التي تسمح بقدر معين من النقد الحر، ولكنها ضيقة جدًّا وغير كافية، ولا تفي بالحد الأدنى مما هو مطلوب. ويمكن لهذا الإعلام أن يكون عنصر إعاقة وإبطاء لمسار التحول الديمقراطي كما يمكن أن يكون رافعة له، وهو ما يتوقف على مدى توافر الإرادة السياسية ونضج المهنيين وقدرتهم على استثمار كل التراكمات التي تحققت سواء في ظل حكومة التناوب التوافقي أو بعد إقرار دستور 2011. ومن جانب آخر، فإن تبعية الإعلامي للسياسي لن تُنتِج غير البروباغندا، ولن تتيح كسب رهانات المنافسة، ودعم التحول الديمقراطي والتنموي، وضمان “الأمن الإعلامي” بشكل مستدام وعلى المدى الطويل، وخاصة في أوقات الأزمات. لذلك، فإن استقلالية الإعلامي عن السياسي تخدم على المستوى البعيد الاستقرارَ والمؤسسات والحياةَ الديمقراطية، وتسهم في كسب رهانات التنمية.

وترى الدراسة أن الإعلام العمومي يجب أن يحظى بالمكانة المركزية والدور الرئيسي في المشهد الإعلامي المحلي، باعتباره الأقدر على القيام بالخدمة العمومية، والتي يفترض أن تبقى بعيدة عن كل الضغوط السياسية والاقتصادية، خاصة أن تجربة الإذاعات الخاصة أبرزت ارتهانها للإعلان الذي مسَّ بالأشكال والمضامين الإعلامية. كما تتطلب استقلالية هذا الإعلام أن تكون سلطة القرار المهني بيد هيئات التحرير، وأن تُمنَح له الموارد الكافية، وهيكلة تناسب طبيعته ومهامه، فضلًا عن تأهيل موارده البشرية. ويتطلب الإعلام الخاص أيضًا (المحطات الإذاعية) أن يتقيد بدفاتر تحملاته، وأن يكون هناك وضوح أكبر في وظائفهما ضمن رؤية شاملة للإعلام المحلي، وكذلك تنوع أكبر في المشهد الإعلامي السمعي، وتقديم الدعم للصحافة الورقية التي تستوفي شروط الجودة والجدوى، وبلورة رؤية وطنية إعلامية شاملة وترجمتها في سياسة عمومية منسجمة عبر تنقيح الترسانة القانونية وفق المعايير الدولية.