إعداد – Preparation
هديل سمير شقير – Hadeel Sameer Shqair
إشراف – Supervision
د. محمد المالكي – Dr. Mohamed Al-Malki
جامعة يورك بالمملكة المتحدة University of York, United Kingdom –
السنة – Year
سبتمبر/أيلول 2021 – September 2021
اللغة – Language
الإنجليزية – English
مقدمة
في نهاية العام 2010، بدأت الشعوب العربية في التحرك والانتقال من مرحلة المطالبة بالإصلاحات السياسية إلى مرحلة الدعوة لإزاحة الحكام والأنظمة السياسية بسرعة لم تشهدها المنطقة العربية من قبل مثلما حدث في تونس ومصر ثم ليبيا وسوريا واليمن. فما أن تنتهي ثورة من تحقيق مطالبها في بلد ما حتى تندلع ثورة جديدة في بلد آخر. ولم تكن الثورات في هذه الدول التي تزامنت في بعض أحداثها ونتائجها وليدة اللحظة، بل نتيجة تراكمات ومطالب سياسية واقتصادية واجتماعية لسنوات عديدة. وهنا، رافقت قناة الجزيرة الإخبارية المواطن العربي في رحلته إلى مرحلة الثورة. وقد خصَّصت القناة، خلال الثورة المصرية في 2011، تغطية مباشرة واستثنائية لمصر جعلتها توقف خريطتها البرامجية، وتُقدِّم تغطية مستمرة أكثر من القنوات الإخبارية العربية الأخرى. ولذلك بادرت السلطات المصرية، منذ الأيام الأولى للثورة، إلى إغلاق مكتب الجزيرة في القاهرة، واعتقال عدد من المراسلين العاملين فيه.
تبلورت أطروحة هذه الدراسة انطلاقًا من الملاحظة النقدية للدور الذي لعبته قناة الجزيرة منذ إنشائها في سياق الأحداث المهمة التي شهدها الشرق الأوسط. وقد سمح هذا الفحص الدقيق بتحديد السؤال الإشكالي للدراسة، حيث يعتقد الكثيرون أن الجزيرة لعبت دورًا مهمًّا في زيادة وعي المواطن العربي بالأحداث السياسية، وإلى حدٍّ ما أثَّرت في الثورات العربية. وتأخذ الدراسة في الاعتبار طبيعة دور قناة الجزيرة في ظل الآراء المختلفة؛ إذ ثمة من يعتقد أن الجزيرة لعبت دورًا رئيسيًّا في أحداث الشرق الأوسط، وهناك من يرى أن دورها اقتصر على التأثير في الوعي السياسي للعرب، بينما يرى آخرون أن الجزيرة لم تُحدِث أي فرق. ومن ثم، تهدف الدراسة إلى رصد وتحليل تغطية الجزيرة للثورة المصرية لتحديد طبيعتها وإجراءاتها وأسلوبها وموضوعاتها وأهدافها من خلال الإجابة على الأسئلة التالية:
– ما تأثير قناة الجزيرة في الوعي السياسي العربي؟
– ما طبيعة دور الجزيرة في تغطية الثورة المصرية: هل كانت ناقلًا للأحداث أم مشاركًا فيها؟
– كيف وظفت الجزيرة طاقمها الصحفي والعدة التكنولوجية، والخطاب الإعلامي والنشرات الإخبارية والتقارير الإخبارية، والتعليقات السياسية، لأداء دورها في التغيير السياسي خلال الثورة المصرية؟
تنبع أهمية الدراسة في مقاربة هذه المشكلة البحثية من خلال تجاوزها لمنظور الإعلام السياسي، الذي لا ينفذ إلى عمق إجراءات التغطية الإخبارية وموضوعاتها ومنهجياتها في التعامل مع الأحداث التي تمكنها من لعب دور في التأثير على الجمهور. لذلك تستند الدراسة إلى منظور العمل الصحفي وتأثيره على الجمهور، من خلال إجراء مقابلات شبه منظمة وتحليل الأرشيف الإخباري، والتركيز على تفاصيل التغطية للثورة، وهو ما يسهم في فهم عميق لتأثير القناة في مرحلة حرجة من تاريخ المنطقة العربية. ويشير هذا الفهم إلى دور الجزيرة ومدى تأثير وسائل الإعلام، وبالتحديد التليفزيون، على الوضع أو الحالة السياسية العربية.
كما ترتبط أهمية الدراسة بموقع مصر وأهميتها في المنطقة، وبحالة الثورة المصرية نفسها التي تمكن المتلقي من فهم الحالة السياسية في العالم العربي بشكل عام. فقد كانت ثورات 2011 المرة الأولى التي يتغير فيها نظام الحكم في بعض الدول العربية على إثر حركة شعبية وليس انقلابًا عسكريًّا، وهو ما يجعل فهم دور وسائل الإعلام في المنطقة مهمًّا في سياق هذه الدراسة.
- اعتبارات منهجية
اعتمدت الدراسة مقاربة تحليلية إثنوغرافية من أجل الوصول إلى فهم دقيق لتغطية الثورة المصرية في قناة الجزيرة عبر فحص أرشيف النشرات الإخبارية واستخدام المقابلات شبه المنظمة مع صحفيي الجزيرة الذين أنتجوا التغطية. وقد ساعد التحليل الموضوعاتي في فهم محتوى الأخبار وتفاصيل النشرات الإخبارية الرئيسية، وتحديد الأفكار الضمنية والصريحة ضمن البيانات وتجاوز العبارات أو الكلمات في النص، ومناقشة الانفعالات التي ربما أثارتها تغطية الثورة المصرية لدى الجمهور العربي بشكل عام، والجمهور المصري بشكل خاص؛ حيث تمثِّل العاطفة مجالًا مهمًّا يجب مراعاته خلال دراسة الجمهور التليفزيوني. وتكمن أهمية هذا العنصر في أن الجزيرة قدَّمت، بالإضافة إلى الأخبار والمعلومات، محتوى لا يندرج ضمن المحتوى الإخباري، مثل صور المظاهرات والأغاني والموسيقى الحماسية. لذلك يبدو مهمًّا دراسة أداء المذيعين ولغة التقارير الإخبارية والتعليقات السياسية، وهو ما يسلط الضوء على المشاعر التي قد تثيرها التغطية، خاصة القيم الجماعية للجمهور العربي مثل العروبة والقومية والدين، ثم الانفعالات القائمة على قيم المجتمع المدني، مثل الحماس للديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية.
ويتوزع المنهج الإثنوغرافي إلى ثلاثة أنماط، كيفية واستقرائية واستكشافية، قادرة على تحقيق وصف كثيف وغني لمعالجة عدة أنواع من القضايا المتعلقة بالإعلام تنقسم إلى فئتين: إثنوغرافيا الجمهور وإثنوغرافيا المنتج الإعلامي. واستخدمت الدراسة الأسلوب الكيفي في مقاربة الثورة المصرية من أجل بناء صورة شاملة عن التغطية في بيئة طبيعية. ولا يمكن تحديد تفاصيل هذه التغطية إلا من خلال الحديث المباشر مع الصحفيين المشاركين في إنتاج المادة الإعلامية، لأن المقاييس الكمية والتحليلات الإحصائية لا تتناسب مع المشكلة البحثية. كما أن النمط الكيفي يتألف من مجموعة من الممارسات المادية التفسيرية التي تجعل العالم واضحًا بعد تحويله إلى سلسلة من التمثلات بما في ذلك الملاحظات الميدانية والمقابلات والمحادثات والصور الفوتوغرافية والتسجيلات…إلخ. وقد تطلبت المقاربة الكيفية إجراء مقابلات مباشرة مع صحفيي الجزيرة الذين أنتجوا تغطية الثورة المصرية، بالإضافة إلى جمع البيانات وتحليلها لاستكشاف جوانب الظل أو الزوايا غير العادية في التغطية. ويشكِّل المحتوى الإخباري خلال فترة الثورة المصرية العمود الفقري للدراسة، ويتكون من ست ساعات يوميًّا لمدة 18 يومًا ابتداء من 25 يناير/كانون الثاني إلى 11 فبراير/شباط 2011. ويتضمن هذا الأرشيف الإخباري ثلاثة أجزاء تمثِّل عيِّنة قصدية من تغطية القناة للثورة المصرية: نشرة الحصاد، التقارير الإخبارية، التعليق السياسي. واستخدمت الدراسة أيضًا التحليل الموضوعاتي لمقاربة العينة، وهو ما يسهم في إنتاج تحليل إثنوغرافي عميق لتغطية الجزيرة للثورة المصرية.
- خصائص وسمات الجزيرة
تميزت قناة الجزيرة عن باقي القنوات الإخبارية العربية في تعاملها مع الأخبار وإدارة برامجها الحوارية؛ إذ قدَّمت للمشاهدين العرب نموذجًا جديدًا للأخبار. ويعزو بعض الدراسين تميز القناة إلى التحول الذي أحدثته في المشهد الإعلامي؛ إذ لم يألف المواطن العربي الوصولَ المباشر والفوري إلى الأحداث، ولم يعتد سماع الرأي والرأي الآخر في تغطية الأحداث والقضايا التي يناقشها هذا الإعلام. لذلك أثبتت الجزيرة أنها قناة الشعوب عبر تقديم المحتوى الذي يحتاج الناس إلى معرفته خلافًا للقنوات العربية الأخرى في ذلك الوقت، والتي كان جميعها قنوات رسمية تقدِّم المحتوى الذي تريد الدولة بثه.
ويبدو الأمر غير المألوف الذي وجده المواطن العربي في قناة الجزيرة ممثلًا في عدم سيطرة الجهات الرسمية على المحتوى الإعلامي؛ مما ساعد القناة على ترسيخ وجودها في المشهد الإعلام العربي، كما لم تعط دولة قطر أي أهمية مميزة في أخبارها وتغطياتها، وعملت أيضًا على إشباع احتياجات المشاهدين العرب المعرفية والثقافية والسياسية التي كانت أهم بالنسبة للمواطن العربي من أي موضوع آخر.
وهنا، تتساءل الدراسة: لماذا تمثِّل الجزيرة ظاهرة إعلامية؟
تفسر الدراسة “ظاهرة الجزيرة” بمتغيرات متعددة، منها الحرفية التي يتميز بها العاملون في القناة، فهم الأفضل تأهيلًا ويمثِّلون نخبة من الصحفيين والمذيعين الذين يملكون خبرة أكبر على المستوى المحلي والدولي. كما تميزت الجزيرة بتبنيها لشعار “الرأي والرأي الآخر”، الذي فسح المجال أمام جميع الأطراف والأصوات العربية للتعبير عن آرائها ومواقفها. وقد أسهم ذلك في ترسيخ صورة الجزيرة في أذهان العرب، والتي تطلع المشاهد على جميع الروايات؛ الأمر الذي يطمئنه أن القناة تختلف عن القنوات الأخرى التي تستبعد وجهات النظر المخالفة. من جانب آخر، أدى شعار القناة إلى خلق نوع من الرهاب في بعض الأنظمة العربية التي بدأت تنظر إلى الجزيرة باعتبارها مصدرًا للاضطراب، وخلق حالة من عدم الاستقرار والارتباك؛ فاستضافت أصوات قوى المعارضة العربية، وكذلك القوى الإسلامية المعتدلة والراديكالية التي تعبر عن آرائها وتنتقد الزعماء العرب الذين كانوا رموزًا لم يعتادوا على النقد.
كما تميزت الجزيرة باختيارها لموضوعات برامجها الحوارية التي غالبًا ما تكون موضوعات حساسة؛ حيث تكثر المحرمات في العالم العربي، مثل الفساد الحكومي، والأصولية الإسلامية، والحقوق المدنية للمرأة، وتعدد الزوجات. ويتمتع مذيعو القناة بالجرأة في طرح أية قضية حساسة أو مثيرة للجدل، كما تتمتع القناة بالحرية في إثارة هذه القضايا. لذلك غيرت الجزيرة وجه وسائل الإعلام بجرأتها العالية وكسرها لجدار ضخم عبر تناول قضايا لا يمكن أن تعرضها الصحافة أو القنوات التليفزيونية العربية. لذلك حظيت القناة بسمعة طيبة على الصعيدين، العربي والدولي، من خلال الابتعاد عن الإعلام التقليدي الذي يساير الواقع إلى إعلام جديد يكسر حاجز المحرمات، ويوفر منفذًا إخباريًّا موثوقًا به يركز على القضايا العربية.
في هذا السياق، استطاعت قناة الجزيرة أن تضع أُسُسًا ومعايير ومفاهيم جديدة تختلف عن تلك التي اعتمدتها وسائل الإعلام العربي التقليدي، التي كانت تركز على أخبار الملوك والرؤساء والقادة العرب ورحلاتهم واستقبالاتهم وتقدِّم الدعاية الفجة والمستمرة للأنظمة والحكومات العربية وسياساتها، لكن ظهور الجزيرة كان الفرصة التي قطعت مع هذا النموذج الإخباري.
وعلى الرغم من خصوصية النموذج الإخباري الجديد الذي تمثِّله الجزيرة، ترى الدراسة أن القناة ليست منفذًا إعلاميًّا حرًّا تمامًا؛ إذ إن محتواها، بما في ذلك انتقاء الأخبار وتأطير القصص الإخبارية، يتوافق مع سياسة دولة قطر. لكن ما جعل حضور الجزيرة مختلفًا -بحسب الباحثة هديل شقير- عن القنوات العربية الأخرى في سياق هذا الموضوع يعزى إلى سببين أساسيين: أولهما: أن قطر لم تحظ بأي أهمية مميزة في أخبار القناة وتغطياتها، وثانيهما: أن الجزيرة استطاعت تلبية الاحتياجات المعرفية للمشاهدين العرب، وحرية التعبير وانتقاد الأنظمة التي كانت أهم بالنسبة للمواطن العربي من أي موضوع آخر.
وتشير الدراسة أيضًا إلى الجدل حول السياسة التحريرية للقناة، والشكوك التي تثيرها بعض الآراء خاصة فيما يتعلق بالتزام الجزيرة للحياد والموضوعية في التغطية باعتبار أنها تنتقد المسؤولين المصريين والعرب ورؤساء الدول باستمرار، لكنها لم تنتقد قط المسؤولين القطريين أو الإخوان المسلمين، كما يرى أصحاب هذا الرأي.
- تغطية الثورات العربية (2010-2011)
ألقت طبيعة الأنظمة العربية التي تفتقر إلى حرية الإعلام بظلالها على تغطية الثورات، التي عرفت بالربيع العربي في الإعلام العربي. وعلى الرغم من أن جميع القنوات الفضائية العربية والعالمية قامت بتغطية أحداث الثورات في النشرات الإخبارية والبرامج الحوارية غير أن المجال المخصص لبثها وتحليل أبعادها كان بدرجات متفاوتة. ويعزى ذلك إلى أيديولوجية هذه القنوات ومساحة الحرية التي تمتلكها. وكانت في أغلب الأحيان تتأخر عن بدء تغطية الثورات حتى تتأكد من أن تغطيتها لا تتعارض مع سياستها. لكن قناة الجزيرة اختارت أن تتبنى التغطية المستمرة خلال الثورات، وتحديدًا في العام 2011، وهو العام الأول للثورات، وكانت مقاربة ناجحة لتوافقها مع ظروف الثورة؛ إذ تمكنت الجزيرة خلالها من إظهار الخبرات المهنية التي اكتسبتها طوال ما يقرب من 15 عامًا منذ لحظة التأسيس في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1996.
كانت التحديات التي واجهتها قناة الجزيرة خلال ثورات الربيع العربي تتمثَّل في جانبين: أولهما: الوصول إلى الأخبار وآخر التحديثات، وثانيهما: تعامل القناة مع الأخبار. وبينما تكمن قوة الجزيرة في جزء كبير من تغطيتها في مراسليها ووجودهم في ميدان الحدث، فقد اختلفت هذه المسألة خلال فترة الثورات العربية. وإدراكًا لأهمية المراسلين في نقل الأخبار والصور، وكذلك في رفع مستوى المعرفة بالأحداث وتطوراتها محليًّا وعالميًّا، قامت سلطات الأنظمة العربية التي طالبت الشعوب بإسقاطها بتقييد عمل مراسلي الجزيرة. لكن القناة تمكنت، في كثير من الحالات، من تجاوز هذا التحدي؛ حيث اكتسبت منذ نشأتها ثقة الجماهير؛ الأمر الذي جعل الكثير منهم يسارعون إلى المساهمة في نقل الأخبار إلى القناة. ففي حالة الثورة التونسية، على سبيل المثال لا الحصر، غيَّرت القناة لما بدأت التظاهرات والاحتجاجات الشعبية جدول برامجها اليومية لتبث تغطية مستمرة للثورة التونسية، وشرعت في بث المحتوى الإخباري والصور فور وصولها على الإنترنت من تونس. وشاهد التونسيون أخبار ثورتهم على قناة الجزيرة، ورفع المحتجون شعارات تشيد بدور الجزيرة، فيما غاب التليفزيون الرسمي عن المشهد. وكانت الجزيرة مرآة لواقع التونسيين؛ إذ عززت إيمانهم بالثورة، وكانت أقرب وسائل الإعلام إلى قلوبهم وعقولهم.
في هذا السياق بالذات، يرى البعض أن سياسة الجزيرة الإعلامية والبرامج الحوارية والتغطية الإخبارية أثارت استياء العديد من حكومات الدول العربية التي رأت في السياسة الإعلامية الجديدة للقناة تهديدًا لاستقرارها وربما وجودها. وواجهت الجزيرة ردود فعل رسمية عربية هاجمتها بشتى الطرق.
وهنا، فإن السؤال المركزي الذي تحاول الدراسة الإجابة عليه: كيف قامت الجزيرة بدورها الإعلامي؟ وهل تجاوزت هذا الدور بالمشاركة في الثورة بشكل أو آخر؟
إجراءات التغطية الإخبارية للثورة المصرية
منذ اليوم الأول للثورة المصرية، تحولت تغطية الجزيرة من متابعة موجزة للتظاهرات والاحتجاجات إلى تغطية مكثفة ومفتوحة ومستمرة خلال 18 يومًا. وقد أثار تأخر القناة في بث مظاهرات 25 يناير/كانون الثاني 2011 – بحسب البعض- تساؤلات كثيرة في صفوف النشطاء والمتابعين أيضًا، خلافًا للثورة التونسية، حيث كانت الجزيرة أولى القنوات التي رصدت بدايات الثورة. ويفسر البعض ذلك بالمشكلة المزدوجة التي تواجهها الجزيرة، فإذا سارعت إلى تغطية الاحتجاجات الشعبية الغاضبة، وأفسحت في المجال للمتظاهرين والفاعلين السياسيين في الظهور والحديث، فإنها تتهم بصب الزيت على النار، وإذا تأخرت قليلًا أو كانت لديها تحفظات فإنها تتهم بخذلان المحتجين وعدم الوقوف معهم، وهي التي تضع الإنسان في قلب اهتماماتها. لكن مساء ذلك اليوم (25 يناير/كانون الثاني) أدركت القناة أن ما يحدث كان حرجًا، وأن التغطية يجب أن تتحول إلى الأحداث الجارية في مصر، في الوقت الذي كانت مشغولة فيه بالكشف عن وثائق سرية للمفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، التي حصلت عليها حصريًّا، وكانت تمثِّل قصة ضخمة وليس من السهل إيقافها.
وعلى إثر تعاظم التظاهرات وتصاعد الاحتجاجات في غضون ثلاثة أيام، تخلت الجزيرة عن خريطتها البرامجية المألوفة وتوقفت دورتها، مثل البرنامج اليومي: ما وراء الخبر، أو الأسبوعي: في العمق، والاتجاه المعاكس، وبلا حدود، وحوار مفتوح. كما توقفت النشرات الرياضية والاقتصادية، وخصَّصت القناة تغطية مفتوحة مستمرة بلا توقف حتى نهاية الثورة في 11 فبراير/شباط 2011، واتجهت كاميرا الجزيرة نحو الميدان. ولم تكن هذه الإجراءات طارئة على القناة، فقد سبق أن أوقفت الجزيرة برامجها في بعض الأحداث الكبرى التي كانت تتطلب تغطية إخبارية مستمرة لأيام وحتى أسابيع، مثلما حصل في أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، والغزو الأميركي للعراق في 20 مارس/آذار 2003، والحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو/تموز 2006، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في ديسمبر/كانون الأول 2008. وتلاحظ الدراسة أن التغطيات الإخبارية المستمرة لـ”الأحداث الكبرى” كانت في الغالب حروبًا، ولذلك فإن القرار الذي اتخذته القناة بتغطية مكثفة للمظاهرات منذ اليوم الثاني للأحداث، يشير إلى أن الجزيرة وضعت الثورة في سياق حدث يصل إلى أهمية الحروب.
وتبيِّن الدراسة، وفقًا للمبحوثين الذين تحدثت إليهم الباحثة، أن أهمية مصر والأحداث التي تجري فيها دفعت المشرفين في غرفة الأخبار ليس فقط إلى إلغاء البرامج الحوارية، بل إلى بث أخبار مصر فقط على الهواء، لأن التغيير الذي طرأ في الحالة السياسية المصرية يمس مئة مليون شخص، أفلا يستحق الأمر تغطيته بهذه الطريقة؟ فهذا ما تستدعيه الأخبار والأحداث المهمة. ويوضح ذلك أن التغطية المستمرة نابعة من منظور مهني احترافي. كما أن حدثًا، مثل الثورات التي قلبت صفحات من تاريخ المنطقة، يستحق تغطية مستمرة، لاسيما أن التطورات كانت تجري على مدار الساعة وكان الناس ملتصقين بالشاشة لمشاهدة ما يجري.
بينما يرى آخرون -في عينة المجتمع البحثي- أن إيقاف البرامج الحوارية للقناة خلال تغطية الثورة المصرية كان مبالغة، ويؤكد -في نظر الباحثة شقير- أن الحدث توافق مع ميول واتجاهات الجزيرة للتغيير في العالم العربي، وهو ما أدى إلى اتخاذ قرار حماسي بالتغطية المستمرة.
قطع الإنترنت وخدمة الهاتف وإغلاق مكتب الجزيرة
دفعت الثورة في بدايتها السلطات المصرية إلى قطع خدمة الإنترنت والهاتف الأرضي عن مكتب قناة الجزيرة بالقاهرة، في 26 يناير/كانون الثاني 2011، حتى قبل اتخاذ مثل هذا الإجراء في المحافظات المصرية. وبعد قطع جميع وسائل الاتصال في ذلك اليوم، أصبح من المستحيل التواصل مع الشخصيات المهمة في المؤسسات المختلفة، والتي كانت تمثِّل مصادر إخبارية للقناة، مثل رؤساء تحرير الصحف، والنقابيين، وقادة المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني. لذلك بدأ هؤلاء بزيارة مكتب الجزيرة مرة أو مرتين في اليوم لتقديم أي معلومات جديدة عن الثورة.
وفي يوم الخميس، 27 يناير/كانون الثاني 2011، قامت السلطات المصرية بحجب شبكات التواصل الاجتماعي، مثل تويتر وفيسبوك، التي استخدمها المتظاهرون في تنظيم الاحتجاجات، وفي اليوم التالي الذي عُرف بجمعة الغضب، قطعت خدمات الهاتف المحمول. وفور تغطية الجزيرة لجمعة الغضب، 28 يناير/كانون الثاني، أغلق النظام المصري مكتب الجزيرة، وأوقف نشاطها المهني في مصر، وقام بسحب تراخيص العمل وبطاقات الاعتماد الصحفي لمراسليها، بينما لم تكن هناك أوامر بإغلاق مكاتب القنوات الأخرى. واعتبرت الجزيرة ذلك القرار عملًا يهدف إلى خنق وقمع حرية التغطية الصحفية للشبكة والصحفيين التابعين لها، وصممت القناة على عدم الانصياع؛ إذ تعتمد في عملها على توفير أكثر من خطة بديلة لنشاطها الإعلامي.
لجأت الجزيرة إلى التواصل المباشر مع مصادرها ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي لتجاوز قطع خدمات الإنترنت والهاتف، ولكن بعد أن أصبح تحرك السلطات المصرية موجهًا بشكل خاص ضد الجزيرة، بسحب تراخيص العمل، انتقلت إلى مرحلة أعلى من رد الفعل والتحدي لمواصلة التغطية.
مصادر الأخبار واستخدام صحافة المواطن
بدا واضحًا أن قدرة القناة على الوصول إلى الأخبار في جميع أماكن الأحداث، رغم تنوعها وعددها الكبير، كان بسبب استخدام عدد كبير من المراسلين؛ إذ يمثِّل مكتب الجزيرة في القاهرة أحد أكبر مكاتب الشبكة في المنطقة. كما أن القناة، خلال تغطيتها للثورة، لم تحصل على الأخبار فقط من المراسلين الذين كانوا يعملون بالفعل مع مكتبها في مصر، بل عززت ذلك بصحفيين من المقر الرئيسي للقناة في قطر، وفتحت الجزيرة المجال أمام المواطن المصري ليكون صحفيًّا ومصدرًا إخباريًّا، وهو ما يعتبره البعض أحد عوامل نجاح القناة في التغطية. فما لم تتمكن القناة من الوصول إليه عبر كاميرا الجزيرة، وصلت إليه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة صحافة المواطن، لأن المواطن هو صانع الأخبار، وصانع الثورة، ومدون حقائقها. فقد وفرت ظروف الثورة حالة من تدفق المعلومات والصور من المواطنين بطريقة مكَّنت القناة من البقاء في المشهد بشاشة تبث على مدار الساعة.
لذلك لم تتأثر الجزيرة كثيرًا بمنعها من العمل في ذلك الوقت؛ إذ كان هناك صحفيون متعاونون، وكان هناك أيضًا أشخاص يتعاونون مع الجزيرة على استعداد لتقديم الفيديوهات والأخبار لها. وكان دور الجزيرة في ذلك الوقت هو فحص الأخبار والتحقق من مقاطع الفيديو حتى لا يتم بث فيديوهات ملفقة، والتعامل مع مصادر موثوقة ومعروفة، وكذلك التحقق مما إذا كانت الأماكن والتواريخ التي جرت فيها التظاهرات صحيحة، وما إذا كان هناك سبب للاشتباه في الفيديوهات التي قد تكون غير صحيحة.
في ذلك الوقت، كانت وسائل الإعلام الجديد مصدر قلق لوسائل الإعلام العربية الرسمية، لاسيما في فترة الثورات العربية، غير أن الجزيرة استخدمت أدواته لإثراء تغطيتها، بما في ذلك المنصات الرقمية وصحافة المواطن. فاستوعبت القناة الإعلام الرقمي واتخذت خطوات تفاعلية نحوه لم تتخذها أي قناة عربية أخرى. فقد ركزت القناة على المواطن الصحفي والمدونات والصحافة الإلكترونية على وجه الخصوص منذ ظهورها المبكر. ويرجع اهتمام الجزيرة بالمواطنين الصحفيين الذين قدموا صوتًا بديلًا عن الإعلام الرسمي إلى فترة مبكرة؛ فقد تمكن هؤلاء من خلال كاميرات الهواتف المحمولة أو الكاميرات الصغيرة من التعبير عن أنفسهم وأصواتهم وما يحدث من حولهم.
اعتمدت الجزيرة أيضًا في تغطيتها المفتوحة للثورة على المكالمات الهاتفية مع مجموعة واسعة من الشخصيات السياسية والقانونية والمتخصصين في مجال حقوق الإنسان والصحفيين والإعلاميين والنشطاء، من مختلف المدن المصرية، وخاصة من ميدان التحرير بالقاهرة، لنقل صورة واقعية ودقيقة لصيرورة الثورة وتحركات الشباب والناشطين السياسيين فيها. كما استضافت محللين ومعلقين من عدة بلدان للتعليق على تلك الأحداث، واستضافت عبر الهاتف متخصصين في الدستور، عندما دار النقاش حول مطالب المحتجين بتعديل دستوري، وخبراء اقتصاديين عندما ركز الحديث عن تأثير الأحداث على الوضع الاقتصادي المصري. وتؤكد هذه المكالمات الهاتفية أن الجزيرة حرصت على معالجة الحدث من جميع جوانبه، وقامت بدورها في تلبية احتياجات المشاهدين المعرفية والقانونية والاقتصادية، ما جعلها المصدر الموثوق للمعلومات.
وفي هذا السياق، تعرضت قناة الجزيرة لانتقادات متكررة لتلقيها اتصالات هاتفية من نفس المشاركين الذين يدعمون دائمًا وجهة نظر القناة؛ الأمر الذي يخدم سياستها التحريرية، بينما يرى الصحفيون العاملون في القناة أن معظم الضيوف الذين يتصلون بغرفة الأخبار هم من بادروا بالمكالمات، بما في ذلك أنصار النظام المصري الذين أرادوا الدفاع عنه؛ إذ لم يكن هؤلاء يتوقعون تنازل مبارك عن السلطة خلال ثمانية عشر يومًا.
وفيما يتعلق بتحليل أداء مذيعي الجزيرة خلال فترة الثمانية عشرة يومًا من الثورة المصرية، لاحظت الدراسة أن بعضهم استخدم لغة ثورية غاضبة وظلت تعابير وجوههم متوترة وكان أداؤهم عاطفيًّا، لكن القناة لم تكن وراء تحديد أي موقف تجاه الثورة. ويرى بعض المذيعين ممن تحدثت إليهم الباحثة أن هذه اللغة ترجع إلى السلوك الفردي للمذيع وليس إلى أجندة خاصة بالقناة؛ إذ يظل هؤلاء في النهاية بشرًا وليسوا آلات، وينتمون إلى تيارات فكرية وسياسية مختلفة لكن المقدم المحترف هو من ينجح في عدم إظهار ميولاته السياسية وانتماءاته الأيديولوجية.
- 4. نشرة الحصاد خلال الثورة المصرية
ركزت الدراسة في هذا المحور على تحليل النشرة الإخبارية الرئيسية “الحصاد”، خلال 18 يومًا من الثورة المصرية، وقدمت من خلاله إجابات على أسئلة المشكلة البحثية فيما يتعلق بدور القناة في رفع الوعي السياسي العربي بظروف الثورة المصرية وأحداثها، والتعامل بشكل خاص مع تأثير القناة في هذه الأحداث عبر تركيز القناة الشديد وتكرارها لبعض الأخبار والصور. وقد ساعد ذلك بحسب الدراسة على فهم الدور الذي لعبته قناة الجزيرة في الثورة بين تغطية الحدث أو المشاركة فيه.
ولاحظت الدراسة أن دور الجزيرة في الوطن العربي كان تراكميًّا؛ حيث أسهمت التغطية التي سبقت الثورات العربية في تعزيز الثقة بالقناة لدى المشاهدين العرب لاستجاباتها لاحتياجات الجمهور المعرفية (المعلومات) والقيمية (الحرية والديمقراطية والعدالة)، وكانت القناة الوحيدة قبل ظهور القنوات المنافسة في هذا المجال. وفي الثورة التونسية، عرف المشاهد العربي أين يجد الأخبار بناء على ثقته في قناة الجزيرة، وهو ما مكنها من التأثير. وفي الثورة المصرية، أسهمت تغطية القناة في زخم الأحداث؛ حيث ركزت على العناصر التي تظهر قوة الثورة، مثل انتشار المظاهرات وشجاعة وصمود المتظاهرين ومشاركة جميع المصريين فيها بغض النظر عن معتقداتهم وأعمارهم ومهنهم وجنسهم.
هنا تظهر فاعلية دور قناة الجزيرة في الثورة، خاصة عندما قدَّمت القنوات المصرية صورة معاكسة للتغطية التي قدمتها الجزيرة؛ حيث أظهرت ضعف الثورة ونهايتها. وقد أسهمت الجزيرة عبر بث أحداث الثورة بشكل مكثف ومستمر في ترويج صورة مميزة لها، واعتمدت في معظم الأحيان على تقسيم الشاشة إلى نصفين: أحدهما لبث البيانات والخطابات والمكالمات الهاتفية، والآخر لبث المظاهرات سواء كانت مباشرة أو تسجيلات وفيديوهات عن الاشتباكات والمواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين. وقد مكَّن أسلوب العروض التوضيحية المشاهدَ من ربط البيانات بمجريات الوضع الراهن للثورة وتطورات الأحداث، وهو ما يعكس دور قناة الجزيرة في إشباع احتياجات المشاهدين للحصول على الصورة الكاملة للأحداث. كما أن هذا الأسلوب وسَّع دور الجزيرة في الثورة المصرية، حيث انتقلت القناة من كونها مجرد مزوِّد إخباري إلى عامل فاعل ومؤثر.
وتشير الدراسة إلى أن تغطية الجزيرة تناولت مناطق مصر ومدنها وأحياءها بدقة وبتفاصيل أكثر جعلت المشاهد المصري الذي يعرف هذه الأماكن جيدًا مدركًا للأحداث ومتقبلًا لفكرة النزول إلى الشارع والمشاركة في الاحتجاجات. كما قدمت للمتظاهرين في الميدان، الذين يتابعون أخبار القناة، صورة مفصلة للتطورات المحيطة بهم، ما يزيد من تنظيم الحركات الاحتجاجية وتنسيقها في مختلف المناطق. أما بالنسبة إلى المشاهدين العرب، فإن التفاصيل الدقيقة عن الأماكن وحركة الاحتجاجات جعلتهم أقرب إلى الثورة وكأنها ثورتهم وليست ثورة المواطنين المصريين فقط.
وكشفت الجزيرة عن خطورة الأوضاع في مصر على كافة المستويات المتأثرة بالاحتجاجات. فكان الجانب الأول الذي أبرزته القناة هو الوضع الاقتصادي من خلال تقارير إخبارية غنية بالأرقام والتفاصيل المالية كشفت من خلاله حقيقة الحالة الاقتصادية، وأظهرت تدهور الوضع والمخاوف التي يطرحها على الجمهور من جهة أخرى. ويشير ذلك إلى حرص الجزيرة على بيان الوضع الذي كان يزداد سوءًا عمَّا كان عليه قبل الثورة، خاصة أن الوضع الاقتصادي السيء كان أحد أسباب الثورة.
ولاحظت الدراسة أن تغطية الجزيرة للأحداث الكبرى في الشرق الأوسط كانت مميزة، فاهتمت بمحتواها المرئي كما اهتمت بالمحتوى اللغوي والخطابي، خاصة إبان الثورة المصرية. لذلك قامت بتنويع إستراتيجياتها المرئية لتوصيل أخبارها للجمهور على اختلاف أنواعه واهتماماته. وبدأت منذ اليوم الثالث للثورة المصرية، 27 يناير/كانون الثاني 2011، في استخدام صور ومشاهد المتظاهرين في بداية النشرات التي تعرض الأعداد الكبيرة من المتظاهرين وأصوات صيحاتهم العالية؛ الأمر الذي من شأنه نقل الحالة النفسية للمشاهد المصري.
وتشير الباحثة شقير إلى أن قناة الجزيرة استخدمت هذه الصور والمشاهد لصالح الثورة؛ إذ حاولت عبر الاستفادة من الأدوات والتقنيات المتاحة تلبية احتياجات الجماهير للحصول على الأخبار في وقت كانت وسائل الإعلام المصرية الرسمية تتجاهل الثورة وتنكر أحداثها. كما سعت القناة إلى إرضاء الجمهور ليكون على اطلاع دائم بآخر المستجدات وفهم الأحداث المعقدة والمعلومات السياسية. وهكذا، أسهمت الجزيرة بشكل غير مباشر -بحسب الباحثة شقير- في الثورة من خلال تشجيع المصريين على مواصلة ثورتهم، وتوعيتهم بالقضايا التي تجاهلها الإعلام المصري والعربي، وتنبيههم ممن يعارضون الثورة.
- التقارير الإخبارية في تغطية الثورة المصرية
بحثت الدراسة في هذا المحور أسلوب التقارير الإخبارية لقناة الجزيرة، لاسيما تقاريرها الداخلية، التي أثارت الجدل حول تغطية الثورة المصرية؛ إذ تُبيِّن -بحسب الباحثة- فكر ورأي القناة الذي ورد بشكل ضمني أو صريح في نشرات الحصاد. ويرى البعض في هذه التقارير خروجًا عن المعايير التحريرية للقناة، وتجاوزًا لحدود التغطية الإخبارية الموضوعية والمهنية والتدخل في أحداث الثورة، لأنها تقدم وجهة نظر واحدة تتمثَّل في رأي الصحفي والقناة، والترويج لرسائل سياسية وخلق مشاعر عاطفية تجاه الأحداث. فقد طغت على هذه التقارير موضوعات تؤكد للمشاهد ضعف النظام المصري وعدم جدوى أي إجراء إصلاحي يتخذه بسبب سوابقه في خداع الناس واستمرار الظلم. إن رواية الأحداث التي شددت على استبداد الحاكم مصحوبة بمشاهد تعكس معاناة الناس بكافة أشكالها، وأصوات المتظاهرين في الشوارع المصرية وميدان التحرير، شكَّلت عناصر تحمل رسائل مفاهيمية تدفع الجمهور إلى عدم الثقة بالنظام والتخلص منه بثقة وعزيمة. في المقابل، يمتدح آخرون هذه التقارير ويعتبرون هذا الأسلوب جرأة جديرة بالثناء، وترسيخًا للقيم السياسية الليبرالية.
وتشير الدراسة، وفقًا للمبحوثين الذين تحدثت إليهم الباحثة، إلى أن تقارير القناة خلال الثورة المصرية تندرج في إطار ما يسمى بـ”تقارير الرأي الإخبارية” لكنها في الوقت نفسه لا علاقة لها بأساليب التأطير أو التحيز الخفي، بينما يعتبر آخرون أن الجزيرة ليس لها رأي في الثورة؛ إذ لم تتخذ موقفًا واضحًا أو خفيًّا تجاه ما كان يحدث. لكن وسائل الإعلام المحترفة التي عانت من قمع السلطات لوسائل الإعلام شعرت أن هذه الثورات منحتها منفذًا جديدًا للتعبير بحرية عما كان يحدث دون خوف. وهنا، تتجاوز المسألة قضية الرأي الشخصي إلى قضية الموقف المهني تجاه حركة قد تحرر الإعلام العربي من القمع الذي يتعرض له.
ولاحظت الدراسة أن بعض التقارير اعتمد لغة أدبية متطورة واستدلالات منطقية لإقناع المشاهد، بينما اعتمدت أخرى على الصور والقصص البشرية بلغة بسيطة. وهكذا، تتطلب بعض التقارير تركيزًا سمعيًّا أكبر، فيما تثير الصور المؤلمة المصحوبة بأوصاف القمع والظلم في تقارير أخرى مشاعر عميقة لدى المشاهدين، حتى لو لم يركزوا على نص التقرير. وبالتالي، تكمن أهمية هذه التقارير في أن كل سمة تميز بعضها تظل قادرة على إحداث تأثير عاطفي على المشاهد. ونتيجة لذلك، سيتضاعف تأثيرها عندما تتجمع هذه السمات في تقرير طويل بلغة أدبية غنية بالتعابير اللغوية الجميلة، وتقدم رأيًا واحدًا، وتتكرر أكثر من المعتاد طوال اليوم.
خاتمة
اعتمدت الجزيرة تغطية إخبارية مستمرة لأحداث الثورة المصرية خلال الفترة الممتدة من 25 يناير/كانون الثاني إلى 11 فبراير/شباط 2011، في وقت كانت فيه الأحداث التي غطتها الجزيرة بهذه الطريقة تشمل الحروب، وهو ما يعني أن القناة صاغت الثورة في سياق حدث له أهمية الحروب. وخلصت الدراسة إلى أن تغطية الجزيرة المكثفة للثورة، وحجم وصول القناة إلى الأخبار منذ بداية الأحداث، ودورها البارز في تحدي الدعاية الرسمية للتليفزيون المصري وإبطال مفعولها، دفع السلطات المصرية إلى اتخاذ إجراءات ضد القناة بإغلاق مكتبها في القاهرة.
لذلك، فإن الإجراءات التي اتخذها السلطات المصرية ضد القناة أثناء الثورة كانت موجهة بطريقتين، هما: الوقاية والعلاج. ففي سعيها للوقاية، حاولت السلطات إبعاد القناة عن المشهد المصري بإغلاق مكتبها وسحب تراخيص عملها، وقطع خدمة الإنترنت والهاتف. وفي سعيها للعلاج، حاولت السلطات منع المشاهد المصري من مشاهدة القناة بقطع إشارة القناة على القمر الصناعي المصري وشيطنتها، متهمة إياها بالتحريض على الثورة. لكن إجراءات النظام المصري لمواجهة تغطية الجزيرة زادت من شعبية القناة ووضعتها في موقع الضحية التي نالت تعاطف الشعوب العربية.
يبيِّن التحليل الإثنوغرافي والمعلومات التي حصلت عليها الباحثة، أن القدرة المالية الضخمة والتخطيط الواعي بمتطلبات التغطية الإخبارية، هما ركيزتان أساسيتان في إدارة تغطية القناة للثورة المصرية بشكل خاص، وفي نشاطها المهني بشكل عام. وقد سمح تمويل القناة، وتخطيط إدارة الأخبار، بتمكين مصادرها وزيادتها وتنويعها في زمن الثورة، وهي ذات الركائز التي مكنتها من التخصص في مجال الأخبار التليفزيونية، فكانت رائدة في المنطقة العربية. وكشفت الدراسة عن عامل يتمثَّل في جهود مراسلي الجزيرة لمواجهة صعوبات الحصول على المعلومات بسبب وجودهم في مناطق الصراع والتوتر، وهذا ما حدث في تغطية القناة التي سبقت الثورات العربية. وتجسد هذا العامل بقوة خلال تغطية الجزيرة للثورة، حيث تراكمت العوائق التي واجهتها القناة في الوصول إلى الأخبار. وبالإضافة إلى قوة المراسلين، اعتمدت القناة على صحافة المواطن في تغطيتها للثورة. ومن خلال بث فيديوهات المواطنين، رغم افتقارها إلى الاحتراف، أعطت الجزيرة هذه المواد مصداقية أكبر وجعلتها مقبولة في الإعلام العربي، لذلك قلدت قنوات أخرى الجزيرة في استخدام هذه الفيديوهات.
ومن العوامل التي جعلت الجزيرة مصدرًا موثوقًا لأخبار الثورة هو تنويع أدوات إيصال المعلومات مع مراعاة الاختلافات بين الناس ومصالحهم. وإلى جانب ثراء المحتوى المرئي بالمشاهد الحية للمظاهرات، والصور الأرشيفية للفقر والتعذيب التي تثير المزيد من الإحباط ضد النظام المصري، قامت الجزيرة بتبسيط الأخبار المعقدة من خلال عرض المعلومات على الشاشة، وهو ما ساعد القناة على توضيح القصص الإخبارية، وتوفير المعلومات التاريخية والسيرة الذاتية. وهكذا اتخذ الثوار الجزيرة مصدرًا لأخبار الثورة في كل المدن المصرية. وكان المتظاهرون في ميدان التحرير يشاهدون قناة الجزيرة على الشاشات في قلب الميدان متجاهلين محطات التليفزيون المحلية. في المقابل، كان المتظاهرون يحمون ويوجهون فريق الجزيرة. وهذا بدوره خلق علاقة متبادلة بين قناة الجزيرة والثوار وكان ذلك في حد ذاته عامل قوة للقناة.
وتؤكد الدراسة أن أحد العوامل التي تميز تغطية الجزيرة للثورة عن غيرها هو نجاحها في إشباع احتياجات الجماهير المعرفية والعاطفية في وقت كانت وسائل الإعلام المصرية الرسمية تتجاهل الثورة وتنكرها. كما استجابت لتطلعات الجمهور بمواكبة آخر التطورات وفهم الأحداث المعقدة والمعلومات السياسية. وهنا، خلصت الدراسة إلى أن انتشار قناة الجزيرة بين الشعوب العربية لم يكن نتيجة قوتها فحسب، بل نتيجة ضعف وسائل الإعلام الأخرى في إشباع احتياجات الجمهور للمعرفة.
ولم تكن تجربة الجزيرة الإعلامية رائدة من حيث الجانب التقني، وقدرتها على نقل الحدث بشكل مباشر عبر شبكة من المراسلين تغطي العالم، ولكن أيضًا من حيث فلسفة التعامل مع الأخبار، التي تختلف عن تقاليد الإعلام العربي الذي لم يحرر نفسه من سيطرة الدولة. فقد قامت الجزيرة منذ نشأتها بتلبية احتياجات الجمهور لمعرفة المزيد عن جميع أخبار العالم وأحداثه، وأعطت الإنسان العربي على وجه الخصوص الحق في اكتساب المعرفة التي أخفتها عنه الأنظمة السياسية. إن مساهمة الجزيرة في رفع مستوى وعي المواطن العربي على مر السنين بقضايا الفساد والاستبداد والفقر والأمية والبطالة وغياب مشاريع التنمية البشرية والاقتصادية الحقيقية، مكَّنت الناس في النهاية من تحدي السلطة والمطالبة بحقوقهم عبر المظاهرات والاحتجاجات التي تراكمت ثم تحولت إلى ثورات.
لذلك ترى الدراسة أن محتوى الجزيرة -بما في ذلك المقابلات مع بعض الضيوف- خلال الثورة المصرية كان أكثر من مجرد أخبار ونشرات وتقارير وتعليقات سياسية، بل شكَّل دليلًا أو كتيِّبًا للثورة من أجل المشاهدين والثوار بمحتواه التنويري والتربوي.
وخلصت الدراسة إلى أن تأثير الجزيرة على الثورة المصرية كان عميقًا، وتراكميًّا وليس فوريًّا. وعلى الرغم من أن الجزيرة لم تكن السبب الرئيس للثورة، فإنها كانت أحد أسبابها، لأن الناس ثاروا بفضل ما تراكم لديهم من الوعي.