مانويل كاستلز – Manuel Castells *
ملخص:
يُراجِع البروفيسور مانويل كاستلز العلاقة بين شبكات التواصل الاجتماعي والاستقطاب الأيديولوجي، ويُحدد أشكال التفاعل بين المتغيرين، وكذلك أهمية دور العامل الاجتماعي والاتصالي في عملية الاستقطاب؛ حيث فرضت شبكات التواصل الاجتماعي هيمنتها على فضاءات التواصل الجماهيري. ويرى كاستلز، في المحاضرة التي ألقاها عبر تقنية الزوم، خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر العلمي “شبكات التواصل الاجتماعي والاستقطاب الأيديولوجي: علاقات القوة والتأثير الثقافي والاجتماعي”، الذي نظَّمه مركز الجزيرة للدراسات وقسم الإعلام بجامعة قطر، يومي 1 و2 مارس/آذار 2023، أن للاستقطاب جذورًا أعمق تكمن في أزمة الثقة والشرعية السياسية حول العالم، وأن هذه الأزمة نفسها نتاج سمات السياسة الإعلامية والبيروقراطية وتعاظم الفساد. لذلك يفترض، مؤسس نموذج المجتمع الشبكي في عصر المعلومات، أن شبكات التواصل الاجتماعي تُعزِّز دور الجهات المُسْتَقْطِبَة في المجتمع، ولكنها ليست السبب الذي يدفع لتطرُّفها. ومع ذلك، فإن شبكات التواصل الاجتماعي تُضخِّم الاستقطاب وتُعزِّزه من خلال فضح المواقف المتطرفة على نطاق واسع، وأيضًا بسبب سرعة انتشار الرسائل في بيئة الإنترنت. ويتطلب هذا الوضع -بحسب كاستلز- تنظيم شبكات التواصل الاجتماعي، من ناحية، ثم مواجهة الاستقطاب، من ناحية أخرى، عن طريق إعادة دَمَقْرَطَة السياسات ورفع مستوى الشفافية في نظام الإعلام متعدد الوسائط لكل من الاتصال الجماهيري والتواصل الذاتي الجماعي.
كلمات مفتاحية: شبكات التواصل الاجتماعي، الاستقطاب الأيديولوجي، أزمة الثقة، أزمة الشرعية.
Abstract:
In a lecture he delivered in the opening session of a conference organised by Al Jazeera Centre for Studies and the Department of Mass Communication at Qatar University on 1 and 2 March 2023 under the title, “Social Media Networks and Ideological Polarisation: Power Relations and Socio-Cultural Impact”, Professor Castells reviewed the relationship between social media networks and ideological polarisation; and defined the interaction between them and the importance of the social and communication factor in the process of polarisation, as social media has become the predominant space of mass communication. However, he maintained that polarisation has deeper roots in the crisis of trust and political legitimacy around the world, itself resulting from the characteristics of media politics and the bureaucratisation and growing of corruption. Thus, social media enhances the role of the polarised factions in society but are not the cause of their radicalisation. Yet, social media amplifies and reinforces polarisation by exposing extreme positions on a large scale and because of the virality of messages in the internet environment. This, according to Castells, requires that social media be regulated, and polarisation be confronted by a re-democratisation of politics and greater transparency in the multimodal media system, for both mass communication and mass self-communication.
Keywords: Social Media, Ideological Polarisation, Trust Crisis, Legitimacy Crisis.
تُعد موازين القوى -في جميع المجتمعات- مُنْتِجَة للمعايير الاجتماعية إلى حدِّ أن البعض يعتبرها الحمض النووي للمجتمعات. ويُعزى السبب في ذلك إلى أن أولئك الذين هم في مواقع النفوذ يحاولون أن يُشكِّلوا المؤسسات والقوانين وفقًا لمصالحهم واهتماماتهم. وفي الوقت نفسه كل من يطعن في هذه الموازين القائمة أيضًا يقوم بالطعن في ممارسات هذه المؤسسات. إذن، هناك علاقات القوة، والعلاقات المضادة لموازين القوى القائمة التي تؤثر في المجتمعات، وتظهر هذه العلاقات -علاقات موازين القوى- بشكل أساسي في الإعلام. ويوجد النفوذ في القدرة على الاتصالات والتواصل ويؤثر ذلك في المجتمعات بأسرها. هذا مفهوم بسيط، لأننا -نحن البشر- أشخاص اجتماعيون، أي كائنات اجتماعية، نرغب في الاتصال بالآخرين على مستوى عال وهو التواصل. وهذا يؤثر في طريقة حياتنا وتصرفاتنا وتضامننا وحتى المواجهة التي قد تحدث بين بعضنا البعض. ويؤدي هذا التفاعل بين الناس إلى الاستقطاب فيما بينهم وبين المؤسسات. ويعتمد ذلك على التوافق وقدرة الناس على قبول هذه المعايير التي تحدثنا عنها لكي نستطيع جميعًا التعايش. ولذلك، فإن نظام المؤسسات قد يُعتبَر مشروعًا، لكن جميع المؤسسات هي جهات فاعلة تحاول أن تُعزِّز من فهمها من خلال إعادة النظر في هذه المفاهيم أو الطعن فيها.
هناك عدة جهات فاعلة، ولاعبون يتفاعلون بشدة مما قد يطرح مسألة المشروعية. كما أن بعض المجتمعات تعتبر هذه المؤسسات غير عادلة بالنسبة إليها، وتحاول الطعن فيها وأن تطرح قيمًا إضافية. إذن، هناك أزمة الشرعية التي تعاني منها هذه المؤسسات وتؤثر في مجتمعاتنا، والعامل الأساسي في ذلك هو الديناميات التي تحدث في مجال التواصل الذي يُعد أساسيًّا للقوى والنفوذ وأيضًا للمجتمعات. فهو (التواصل) يُنَظَّمُ ويُجْمَعُ لكي يُصبِح مكوِّنًا أساسيًّا للشرعية السياسية، وفي الوقت ذاته تؤثر هذه الأزمة (أزمة الشرعية) على مساحة التواصل، بينما تؤثر مساحة التواصل نفسها في المؤسسات والقيم. وبالتالي نحن في أزمة مُؤَسَّسِية مستمرة. وفي التاريخ الإنساني، نجد أن تكنولوجيا الاتصالات تُتيح تشكيل مؤسسات الإعلام والتواصل التي تُسيطر عليها المؤسسات السياسية، أي الدول، أو العلاقات التجارية، أو الأجهزة الأيديولوجية.
مع نشوء التكنولوجيات الجديدة في مجال التواصل -وأشير هنا إلى أن الإنترنت بدأت في الظهور في العام 1969 وباتت الآن مُمَكِّنة للتواصل بين البلدان، وهناك تقريبًا 5.5 مليارات مستخدم للإنترنت، وأيضًا عدد يقارب 2 مليار من الأشخاص الذين يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي- فإن ما شهدناه بشكل متزايد خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية هو تشكيل لشبكات التواصل فيما بين الناس، والتي أدت إلى نوع من السيطرة. فهذا التفاعل لهذا النوع من التواصل من دون أي حدود ومن دون أي وسيط أدى إلى مَأْسَسَة التأثير. لذلك نجد بعض الأشخاص ينادي بالحرية، والبعض الآخر يحاول التفلت من أي سيطرة عليه، وقد أدى ذلك إلى ظهور وسائط جديدة في عالم الإنترنت، بعضها يستخدم للعمل التجاري. وبفعل الاهتمام بهذه الشركات، سيؤدي ذلك إلى تفعيل التواصل والاتصال بدرجة أكبر. وهنا يمكن القول: إن التواصل هو مسألة تسيطر عليها شركات الاتصالات الكبرى باعتبارها مالكة ومسيطرة على منصات التواصل الاجتماعي؛ إذ تتيح للناس التواصل فيما بينهم بالقدر الذي يرغبون فيه ووفقًا لما تتيحه هذه المؤسسات.
في ظل هذه الظروف هناك لوم على التنوع في مجال وسائل التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي مما يطرح مجددًا مسألة الشرعية. ومن ثم فإن إلقاء اللوم على شبكات التواصل الاجتماعي فيما يخص الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي المتزايد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وبالنسبة لعدد من العوامل الأخرى فإنها تهدد وجود الديمقراطية الليبرالية. هناك ادعاءات كثيرة في هذا السياق يمكن استعراض بعضها؛ إذ بصرف النظر عن شبكات التواصل الاجتماعي فقد باتت المجتمعات أكثر استقطابًا سياسيًّا في أي مكان، ويحصل هذا الاستقطاب في عدة مجالات من الحياة الاجتماعية، وقد أثَّرت الصراعات الكبرى في معتقداتنا. نحن لا نراها بالطريقة نفسها بعد الآن، ويمكن أن يُنظَر إليها من خلال العنصرية، أو معاداة الأشخاص المختلفين عنَّا، أو الأجانب، أو أشخاص من إثنيات مختلفة. لن أطيل التعمق في هذا الموضوع، ولكن يمكن أن أشير إلى البيانات التي أوردتها في كتابي عن أزمة مؤسسات التواصل التي أعرضها بشكل تفصيلي. كل هذه التعابير المتعلقة بالقيم والقيم المضادة باتت حتمية. إن ما يؤثر في الاستقطاب هو مسألة الثقة في المؤسسات والجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية. نحن وثَّقنا أن المؤسسات الإعلامية قادرة على إدارة بعض الصراعات، وقد أدى هذا الاهتمام من كافة أقطاب المجتمع إلى نهاية بعض أوجه الثقة، ولكن ما الدور الأساسي -وليس المزعوم- لشبكات التواصل الاجتماعي في موضوع الاستقطاب؟
لا يتعلق الأمر تحديدًا بوجود شبكات التواصل الاجتماعي التي على أساسها نصبح استقطابيين، بل أظهرت البحوث المتخصصة أن هناك استقطابًا منذ الأصل، وتنامى تحديدًا في القرن الحادي والعشرين. لذلك فإن الفكرة هنا لا تعود إلى الجهات الفاعلة السياسية أو المؤسسات السياسية القائمة، وإنما الشرعية السياسية مسؤولة بعض الشيء في هذا الموضوع؛ إذ إن ثلثي الأشخاص في العالم -بحسب أبحاثنا- لا يثقون في القادة السياسيين والأحزاب السياسية والمؤسسات السياسية. إن أزمة الثقة هنا تؤثر في كافة المجالات: في النظام المالي والمؤسسات المالية، وفي الجهات الفاعلة اقتصاديًّا، وفي معظم الأحيان في القادة الدينيين أيضًا مع بعض الاستثناءات في بعض البلدان، وأيضًا انعدام الثقة في بعض القضايا الصحفية، وحتى في العلم، مثل أزمة الثقة في اللقاح الذي جعلنا ننجو بحياتنا خلال جائحة كوفيد-19. هناك عدد كبير من الأشخاص الذين كانوا يعارضون هذا اللقاح جرَّاء انعدام الثقة بالعلم نفسه. ومن ثم فإن مسألة الثقة باتت ظاهرة بشكل كبير، وهنا تُطرَح مسألة الشرعية في هذا الفعل، وطبعًا انعدام التكافؤ من الناحية السياسية، والدعم المقدم من النظم؛ الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من البيروقراطية وتعاظم الفساد وغير ذلك؛ مما يؤثر في الدول نفسها.
هناك أيضًا عوامل أخرى غير مُؤَسَّسِية، فنحن على شفير تحول تكنولوجي، وثمة أشخاص يخافون من هذا التسارع التكنولوجي في العالم. لذلك فالناس ببساطة خائفون، ويُعد الخوف أكثر المشاعر قوة وفعالية. إذن، هناك هذا الخوف الكبير الذي يؤثر في التواصل لدينا، وليست هناك بِنَى للوساطة، لأن الناس ليس لديهم ثقة في الكثير من هذه المؤسسات، ولأن العالم أيضًا دخل في نوع من دوامة العنف في حياتهم اليومية، ونجد في معظم البلدان هذا الخوف من العنف في أذهان الناس. علاوة على ذلك، ثمة الوعي بأزمة المناخ التي تؤثر في الكائنات الحية بكوكبنا؛ ففي الولايات المتحدة -كما نقول- تتشكَّل العاصفة من دون أن تكون هناك إمكانية للسيطرة عليها من قبل كافة الفاعلين.
وبخصوص استخدام الإنترنت، يمكن القول: إن هناك بثًّا للمعلومات المُضَلِّلَة والمعلومات الزائفة وغير ذلك، وهكذا دخلنا حقبة اللاحقيقة، كما أصبحنا في واقع تتحول فيه هذه الحقائق. والسؤال: لماذا يحصل ذلك؟ كما ذكرت سابقًا، فإن شركات التكنولوجيا التي تملك منصات التواصل تقوم على نموذج تجاري يهدف إلى زيادة التفاعلات، وكلما زاد ذلك زاد الكره بين الناس، وباتوا أكثر نشاطًا في عملية التفاعل بشأن هذه المعلومات. إذن، نظام التواصل الجديد لدينا يعتمد على السرعة العالية من خلال التطور التكنولوجي، كما أن التواصل الشامل المقسم يجعل الأمور مُشَخْصَنَة ومن ثم تصبح الأمور ضمن سحابة غير مفهومة. ولكن هناك شيء آخر، ما هو في الحقيقة دور الممارسات اليومية على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي ضمن هذا الإطار الاستقطابي السياسي والثقافي؟ هذا أمر مهم جدًّا.
نبدأ بواقع يتمثَّل في وجود استقطاب أيديولوجي وسياسي ينتشر ويشيع في كل مكان، وهو ليس خفيًّا بل يوجد عبر مصادر مختلفة ذكرتُ بعضها. بالنظر إلى هذا السياق: ما الدور المحدد والتأثير المحدد لمواقع التواصل في هذا الاستقطاب؟ قد تكون لدينا وجهات نظر بالنسبة لهذه الأسئلة، ولكن هنا يبرز دور العلوم الاجتماعية التي قد تساعدنا في الإجابة عن هذه الأسئلة الوجودية الأساسية. بالنظر إلى إطار الاستقطاب السياسي والأيديولوجي ومع علمنا بوجود هذا السياق الاستقطابي: ما دور شبكات التواصل الاجتماعي في التصدي لهذا الاستقطاب؟
بالنسبة لمن يعملون في كبرى المؤسسات يجب أن يتنبهوا لهذا الموضوع طبعًا. نحاول جميعًا أن نتوجه إلى مصادر المعلومات، والمواقع على شبكات التواصل، تُشبِه ما نُفَكِّر به وتعكس وجهة نظرنا نحن لكي نؤكد ما نُفَكِّر به وليس لكي ندحضه. وهذا ما توصل إليه باحثو علم النفس من خلاصات في دراستهم لمواقع التواصل، لأننا عادة نميل إلى التشكيك في كافة الآراء ووجهات النظر وحتى المعلومات التي تعارض آراءنا؛ إذ ترفض أغلبية الناس أن تُغيِّر رأيها؛ لذلك ترفض ما يتحدى رأيها. وهذا ما أشار إليه الباحثون والخبراء بعد ملاحظاتهم ومراقبتهم للواقع. فهذه طريقة السلوك الإنساني بصورة عامة. فالأشخاص المحافظون يرفضون أن يطلعوا على وسائل الإعلام والقنوات الإعلامية الليبرالية، والعكس صحيح. إذن، يرفضون الاطلاع على المعلومات التي تنقلها وسائل الإعلام من الطرف الآخر، وهذا ما توصل إليه مُحلِّلو البيانات. والأمر سيان بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ تتشكَّل في العادة هذه الآراء في مواقع التواصل بحسب تماهينا مع السلوكيات، وانعكاس هذه السلوكيات يحصل بما نُسمِّيه غرفة الصدى، صدى الصوت، حيث يسعى الجميع لسماع صدى صوته، إن صح القول، أي أن يسمع وجهة نظر تُفَصِّل وتَدْعَم وجهة نظره. البروفيسور باربرا من خلال إحدى الأوراق البحثية، وهناك الكثير من المراجع التي تؤكد ما أتحدث عنه، ترى أن الاستقطاب الموجود في المجتمع هو الذي يُملي ويُؤطِّر هذا الاستقطاب في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وليس العكس صحيحًا. طبعًا مواقع التواصل لديها بعض التأثير.
إذن، الآراء الاجتماعية تُوجِّه مواقع التواصل وليس العكس صحيحًا بالضرورة. كل ذلك منوط بكيفية بناء مواقع التواصل لهذا التفاعل. البروفيسور تاكل وغيره حلَّلوا هذه المسائل وقدَّموا ثلاث خلاصات أساسية:
– أولًا: إن تعاظم الانقسام في مواقع التواصل الاجتماعي يعكس الانقسام والتشرذم الاجتماعي؛ الأمر الذي من شأنه أن يخفض من جودة المعلومات السياسية.
– ثانيًا: بالنسبة لمن يستهلكون المعلومات السياسية في مواقع التواصل الاجتماعي بصورة عامة فهم معرضون أكثر لتنوع وجهات النظر من قِبَل أشخاص غير مُسْتَقْطَبِين. في الحقيقة، إن استخدام مواقع التواصل يُعزِّز من التسامح والانفتاح على النقاش لمن ليسوا مُسْتَقْطَبِين، كما أن غالبية الناس في العالم ليست مُسْتَقْطَبَة، ولكن من هم مُسْتَقْطَبون واضحون ونشطون جدًّا في مواقع التواصل الاجتماعي.
– ثالثًا: تبادل الآراء ووجهات النظر السياسية والأيديولوجية على مواقع التواصل الاجتماعي غالبًا ما يكون منتشرًا، وهذا يُسهم في الاستقطاب السياسي أكثر.
في هذا السياق، أشير إلى أن البروفيسور باربرا، أكبر الباحثين في هذا المجال، تقول إنها مسألة نزاع على الهوية وليس بالضرورة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تؤثر في الاستقطاب. فأقل من 20% من التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي يتضمن مكونًا أو عنصرًا أيديولوجيًّا أو سياسيًّا. وقد يكون الموضوع رياضيًّا أو اجتماعيًّا أو فنيًّا وليس بالضرورة حكرًا على النقاشات السياسية والأيديولوجية، ولكن المُسْتَقْطَبِين في هذا المجال هم الأكثر نشاطًا في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا ما أظهرته البحوث من دون أن يكون هناك ترابط وثيق بين استخدام الإنترنت والاستقطاب. إذن، استخدام الإنترنت ليس مرتبطًا بالاستقطاب السياسي في عدد من الفئات الديمغرافية، مثلًا بين الأعوام 1996 و2016، تزايد الاستقطاب السياسي في كافة الفئات العمرية، ولكنه تضاعف لدى الفئة العمرية فوق 65 عامًا، وهم الأشخاص الأقل استخدامًا للإنترنت، والأقل نشاطًا على مواقع التواصل الاجتماعي. أما الفئة العمرية الشابة التي تستخدم الإنترنت فكانت الأقل استقطابًا في الولايات المتحدة، فهي الأكثر نشاطًا والأقل استقطابًا، ولكن بالنسبة لمن هم مُسْتَقْطَبون سياسيًّا فإن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي يُعزِّز من راديكاليتهم، لاسيما إذا كانوا في اليمين المتطرف، وذلك لأنهم الأكثر حضورًا والأعلى صوتًا، إضافة إلى أن كثرة التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي تُدْخِلُهُم في حالة إدمان. إن كثرة استخدام التعليقات والتعليقات المضادة، والنزاعات الأيديولوجية على مواقع التواصل الاجتماعي، تجعلهم مدمنين يبحثون عن جرعة دوبامين مستمرة، ويتحمسون وينفعلون ويخرجون عن طورهم، وذلك بمنزلة مادة مخدرة ترضيهم وتشبعهم. إذن، كلما نشطوا في مواقع التواصل الاجتماعي نشطت هذه الخلايا العصبية التي تعمل على الدوبامين. وهذا نوع من المخدر الذي يُعزِّز النزاعات والإشكاليات، ويُعزِّز أيضًا انتشار المعلومات الخاطئة التي يتقبلها المستخدمون الذين يتماهون مع هذا الخط السياسي أو الأيديولوجي. أخيرًا، بالنسبة للحملات السياسية التي تستهدف إيجابًا أو سلبًا إرسال بعض الرسائل عن السياسيين فإنها تتعزز وتتعاظم من خلال استخدام الروبوتات والذباب الإلكتروني الذي يُعزِّز انتشار الرسالة.
في هذه الظروف، فإن أي محاولة للتصدي لهذه المعلومات من خلال تقديم الوقائع تضيع بسبب حجم وكثرة المعلومات المُضَلِّلَة والخاطئة، ومن ثم يلغي هذا الاستقطاب الموضوعية للأسف. ومسكين هو هذا الصحفي الذي يحاول التمسك بالوقائع والحقيقة، لأن صوته يضيع في خضم هذه الحملة والبروباغندا. إذن، استخدام هذا الذباب الإلكتروني قد يكون عنصرًا أساسيًّا في هذه الحملات السياسية كما تابعنا مع جايير بولسونارو، ودونالد ترامب، وأيضًا حملة خروج بريطانيا (بريكست) من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تعاظم تأثير حملات اليمين المتطرف في السويد وفرنسا وألمانيا…إلخ، وتحظى هذه الحملات بدعم مالي، ولذلك ليست المسألة فقط أن نرى شبكات التواصل الاجتماعي تبدأ بسحر ساحر العمل على الاستقطاب، بل هناك من يدعمها ماليًّا.
إذن، شبكات التواصل الاجتماعي قد تُعزِّز الاستقطاب ولكنها ليست مُسَبِّبًا له. هناك جهات سياسية فاعلة، ومجموعات محافظة أيضًا، وجهات يسارية متطرفة في بعض الأحيان، تدعم ماليًّا هذه الحملات الاستقطابية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتتدخل في هذه المواقع للسيطرة على الرأي العام عبر بث المعلومات الخاطئة والمُضَلِّلَة، وهذا ما نُسمِّيه بالتزييف. وتتحول هذه الأكاذيب في الحقيقة إلى أخبار؛ حيث نرى بطريقة خاطئة ومُضَلِّلَة وغير صحيحة سياسيًّا يقول شيئًا ما، وهو لم يقله في الواقع، بل يتم ذلك من خلال برمجية على الكومبيوتر؛ حيث يوضع هذا الكلام على لسانه وتخرج هذه المعلومات المُفَبْرَكَة والمُضَلِّلَة. هذه الحلقة قد تكون أُقْفِلَت. إذن، الاستقطاب السياسي والأيديولوجي يتركز على أنشطة الأقليات، التي تحاول أن تقف وتتصدى لهذا الخطاب الاستقطابي، وهذا يُعزِّز النشاط على مواقع التواصل الاجتماعي، وتستفيد منه منصات التواصل التي لا تريد أن تحمل سيف الأخلاق والتوجيه الصحيح، لأنها في النهاية قد تخسر من انحسار التفاعل الذي تتربح منه.
باختصار، شبكات التواصل الاجتماعي لا تخلق الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، بل وسائل تعكس ما يحصل في المجتمع. هذا النظام السياسي صار مُسْتَقْطَبًا ومُسْتَقْطِبًا وليس هناك تدخل كبير من المؤسسات ولكن ضمن هذا الإطار فإن شبكات التواصل الاجتماعي تُعزِّز وتُعظِّم وتُوسِّع وتنشر هذا الاستقطاب من خلال وجودها في الفضاء الرقمي.
البنية الأخلاقية والقانونية لمجال عام عادل لشبكات التواصل الاجتماعي
Ethical and Legal Structure for a Just Social Media Public Sphere
نبيل دجاني – Nabil Dajani *
ملخص:
يرى الأكاديمي نبيل دجاني أن التطور السريع والعشوائي في مجال شبكات التواصل الاجتماعي أدى إلى إدمان نوع جديد من الواقع الاجتماعي غير المفيد أخلاقيًّا أو قانونيًّا. وتعزَّز ذلك مع الآثار السلبية لاستخدام شبكات التواصل عبر نشر المعلومات المُضَلِّلَة والأخبار الزائفة والتحيزات العرقية والدينية، وانتشار ظاهرة التنمر، فضلًا عن تفاقم الاستقطاب السياسي والأيديولوجي في العالم العربي. وفي المحاضرة الثانية التي قدَّمها، خلال المؤتمر العلمي: “شبكات التواصل الاجتماعي والاستقطاب الأيديولوجي: علاقات القوة والتأثير الثقافي والاجتماعي”، يُفكِّر الدكتور دجاني في الطرق الممكنة لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي غير تلك التي تُستخدَم بها حاليًّا، حتى يتمكن العالم العربي -على مستوى الأفراد وكذلك الدول- من الحفاظ على المزايا الإنسانية المختلفة وزيادة فرص تمكين الضعفاء والفقراء من المشاركة الفعالة في القرارات التي تؤثر في حياتهم، سواء على مستوى المجتمع أو المستوى الفردي. وأبرز دجاني أن معالجة مشكلات شبكات التواصل الاجتماعي المتزايدة تتطلب اعتماد مقاربة “العملية الاجتماعية” وليس، فقط، إصدار تدابير تنظيمية. وتقوم هذه المقاربة على وضع إستراتيجيات اتصال هادفة من شأنها إحداث تغيير في التفكير والتصرف معًا. كما تتطلب العملية الاجتماعية فسح المجال أمام الأفراد والجماعات، التي تساعد على قبول التغيير الإيجابي وتعزيزه للقيام بأدوار إيجابية في تلك العملية، بالإضافة إلى تطوير الأفكار والرؤى المحلية لتغدو خططًا عملية للتنمية الاجتماعية.
كلمات مفتاحية: شبكات التواصل الاجتماعي، البنية الأخلاقية والقانونية، العملية الاجتماعية، إستراتيجيات اتصال هادفة، التنمية الاجتماعية.
Abstract:
The rapid and entropic development in the field of Arab social media has resulted in an addiction to a new type of social reality that is not ethically or legally useful. This was reinforced with the negative effects of the use of social media through the spread of misinformation, fake news, ethnic and religious prejudices and cyberbullying, as well as the exacerbation of political and ideological polarisation in the Arab world. In a lecture during a conference organised by Al Jazeera Centre for Studies and the Department of Mass Communication at Qatar University on 1 and 2 March 2023 under the title, “Social Media Networks and Ideological Polarisation: Power Relations and Socio-Cultural Impact”, Dr. Dajani weighs up ways other than those in which social media is currently used, so that the Arab world – at the level of states and individuals – can preserve the various humanising advantages, and increase the possibilities of the weak, the poor, and even the ignorant, to participate effectively in decisions that affect their lives, whether at the level of society or individual. Moreover, addressing the mounting problems of social media, Dajani argues, requires a social process approach and not mere regulatory measures. It also requires meaningful communication strategies that will bring about a change in thinking and acting. It also requires the introduction of positive roles for individuals and groups that help accept and promote positive change, as well as the development of local ideas and visions into practical plans for social development.
Keywords: Social Media, Ethical and Legal Structure, Social Process, Meaningful Communication Strategies, Social Development.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، جميعنا لدينا حسابات شخصية على وسائل
التواصل الاجتماعي، ونحن محاطون بمليارات الأشخاص، لكننا، وبطريقة ما،
نجد أنفسنا وحيدين تمامًا… لم يعد ثمة وجود لشيء، على الشبكة العنكبوتية،
مثل الحانة أو المقهى المحلي عبر الإنترنت: مكان للتلاقي بين الأصدقاء وأفراد
العائلة، حيث الاستمتاع بالتواصل المباشر بين الأشخاص(1).
كيت ليندسي (Kate Lindsay)
مقدمة
يرى المحرِّر في مجلة “ذا أتلانتيك”، أيان بوغوست (Ian Bogost)، في مقال استفزازي “عصر شبكات التواصل الاجتماعي ينتهي. لم يكن يجب أن يبدأ أبدًا”، أن “شبكات التواصل الاجتماعي لم تكن، على الإطلاق، طريقة طبيعية للعمل واللعب والتواصل الاجتماعي، لكنها، وعلى الرغم من ذلك، باتت طبيعة ثانوية… [وقد] أنتجت نوعًا من الاستسلام الاجتماعي المَرَضِي، والعبثي، وغير السَّوِي، للمجتمع البشري؛ حيث تنشر المعلومات المُسْتَقْطِبَة، أو المسيئة، أو مجرد معلومات احتيالية بعد إدخال تحسينات عليها… إن فكرة الشبكات الاجتماعية الكاملة هي الاتصال -وليس النشر- وكذلك تعميق العلاقات، في الغالب مع أشخاص تجمعهم سابق معرفة. مع ذلك، انخفض الاتصال كغرض أساسي، وتطورت الشبكات الاجتماعية إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي قدَّمت منصات يمكن للناس من خلالها نشر المحتوى على أوسع نطاق ممكن، بما يتجاوز شبكات اتصالاتهم المباشرة… ومع حلول الوقت الذي أدركت فيه المنصات ذلك وثار الجمهور ضدها كان قد فات الأوان لإيقاف حلقات التعليقات هذه”(2).
ويؤكد بوغوست أنه “لكسب روح الحياة الاجتماعية، يجب أن نتعلم تكميمها مرة أخرى، في جميع أنحاء العالم، بين مليارات الأشخاص. للتحدث أقل، إلى عدد أقل من الناس وأقل في كثير من الأحيان… لا يمكننا أن نجعل شبكات التواصل الاجتماعي جيدة، لأنها سيئة في الأساس، عميقة في هيكلها. كل ما يمكننا فعله هو الأمل في أن تتلاشى، وأن نقوم بدورنا الصغير في المساعدة على التخلي عنها”.
من جانبها، وفي معرض إثارتها النقاش حول الدور الذي تلعبه شبكات التواصل الاجتماعي في السياسة، لاحظت ديانا أوين (Diana Owen) في فصل من كتابها المعنون بـ”إعادة التفكير في العالم الذي عرفناه”، أن نظام شبكات التواصل الاجتماعي السياسي الجديد تطور بشكل عشوائي من دون أن تكون له مبادئ أو أهداف تَحكُم توجيهه. ومن ثم، تُحَاجِج أوين، بأننا نعيش في مرحلة ما بعد الحقبة التي “شهدت فيها الحتمية الديمقراطية للصحافة الحرة انحدارًا جديدًا نحو القاع، و”ازدهار الأخبار المزيفة المرتبطة بالقصص الوهمية التي تبدو كما لو أنها حقيقية”(3).
في السياق ذاته، يزعم أستاذ النظريات الاجتماعية في كلية سوارثمور، باري شوارتز (Barry Schwartz)، في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان “مفارقة الاختيار: لماذا يكون الكثير قليلًا؟”، أن كثرة الخيارات المتاحة تؤدي إلى إمكانيات اختيار أقل، فضلًا عما تُحدثه من ارتباك لدى الأشخاص. أما كيت ليندسي (Kate Lindsay) فتعتقد أن منصات التواصل الاجتماعي في الوقت الحاضر “أقل أهمية من أي وقت مضى”. وتمضي في شرح كيف أن التساهل في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي يُصعِّب رحلة العثور على الأصدقاء، وتُبرِّر ذلك بقولها: “إن جمع أكثر من ربع سكان العالم في مكان واحد يُسبِّب نفس المشكلة التي تنشأ عند دعوة عدد كبير جدًّا من الأشخاص العشوائيين إلى حفلة”(4).
- فورة منصات التواصل الاجتماعي
لا يزال النقاش الدائر حول دور شبكات التواصل الاجتماعي في مهده. لكن، لا يمكن لأحد ادِّعاء حيازته إجابات محددة حول حجم هذا الدور، أو أن يُقدِّر مدى تأثيره وفعاليته. إن مفاعيل شبكات التواصل الاجتماعي لا تُمثِّل سوى أحد الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العديدة التي تؤثر على الحركات الشعبية الجماهيرية.
وأدى ترابط وسائل الإعلام الجماهيري مع تكنولوجيات وسائل الإعلام الإلكترونية الحديثة إلى ثورة تكنولوجية أبرزت إمكانيات هائلة في ميدان الاتصالات، بما في ذلك تطوير نظام الشبكة العنكبوتية العالمية. لقد غيَّرت هذه الشبكة نظام التفاعل البشري، وفتحت مجالات اتصال جديدة لم يكن المرء يحلم بها.
لقد أطلق نظام الشبكة العنكبوتية العالمية (الإنترنت) ثورة نوعية غيَّرت إمكانيات الاتصال الجماهيري، وأدت إلى تطوير منصات التواصل الاجتماعي الحديثة التي غيَّرت نمط الاتصال الإعلامي، ولم تعد مقتصرة على الرسائل المرسلة في اتجاه واحد من القنوات المملوكة للدول أو من المالكين الآخرين (سواء أكانوا أفرادًا أم مؤسسات) الذين يتوفرون على الوسائل المادية والتقنية.
ولا مراء في أن الإنترنت أتاحت وابتكرت فرصًا جديدة للتفاعل بين الأفراد والجماعات. فقد شهدت فورة منصات التواصل الاجتماعي في العالم تدشين طرق تفاعل جديدة تسمح للأفراد والجماعات بمشاركة المعلومات والتواصل فيما بينهم بشكل جديد كان في الماضي يُتصوَّر أنه بعيد المنال. نظريًّا، تسمح شبكات التواصل الاجتماعي للجميع بالتفاعل معها أو مع جمهورها من خلال المشاركة والتعبير، لكن في الحقيقة ثمة عقبات كثيرة أمام مثل هذا التفاعل، فضلًا عن التحذير منه. فعلى الرغم من أن منصات التواصل الاجتماعي فتحت آفاقًا جديدة لمشاركة المعلومات والتواصل بين الأفراد، إلا أن هناك أيضًا أدلة تشير إلى إمكانية وجود آثار ضارة قد تنجم عن استخدام شبكات التواصل الاجتماعي.
لقد بات حضور شبكات التواصل الاجتماعي في حياة الناس اليومية واقعًا لا مفر منه؛ إذ يمكن للأفراد والمجموعات، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، العثور على الآخرين الذين يمكنهم الارتباط بآرائهم وخبراتهم والتفاعل معهم. من جهة أخرى، بإمكان المحتوى، الذي تتم مشاركته على شبكات التواصل الاجتماعي، أن يؤدي إلى زيادة نسبة وصول الجمهور وأهمية الرسالة. فنحن على اتصال مستمر من خلال منصات مثل فيسبوك، وتويتر، وإنستغرام، وسناب شات، وغيرها. وقد أثبتت هذه المنصات الإعلامية الجديدة نفسها قنواتٍ قويةً للخطاب العام وجزءًا لا يتجزأ من المجال العام، وهو ما سمح بتبادل شامل للأفكار.
في المقابل، ومع الإقرار بوجود العديد من الفوائد لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي، يجب علينا أيضًا معالجة العواقب المحتملة للإفراط في استخدامها وإساءة استعمالها؛ إذ بالإمكان إساءة استخدام منصات التواصل الاجتماعي للتلاعب بالآراء عبر نشر معلومات خاطئة وانتقاء مصادر الأخبار/الرسائل. وفي هذا السياق، تشير الدلائل إلى أنه كلما زادت هذه المنصات في منسوب نشر محتوى مشحون عاطفيًّا، زادت أعداد المتابعين لديها. ومن ثم، يمكن أن ينتشر الاتصال المشترك على شبكات التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم بشكل يؤدي إلى زيادة وصول الجمهور إلى ذلك المحتوى. وهكذا يمكن لمنصات التواصل الاجتماعي تكثيف المفاهيم الخاطئة السلبية والتحيزات من خلال توزيع المعلومات المسيئة والأخبار المزيفة. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تُستخدَم منصات التواصل الاجتماعي للسيطرة على الأفراد وقمعهم من خلال منع تدفق الأفكار السلبية وخنق الأصوات والآراء المعارضة.
ومع استمرار التطور الذي يشهده المجال العام، فإن شبكات التواصل الاجتماعي ستمضي قدمًا في إحداث التغيير الاجتماعي باعتبارها “أداة حساسة ومهمة”. ورغم ذلك، فإن وصف منصات التواصل الاجتماعي بالعامل أو “التأثير السببي” الرئيس للتغيير الاجتماعي هو موقف يحتاج إلى التدقيق فيه وإثباته. فالتاريخ مفعم بأخبار الشعوب التي احتجَّت وأطاحت بالحكومات قبل وقت طويل من ظهور الإنترنت وفيسبوك؛ إذ إن التواصل بين الجماهير المتمردة آنذاك كان يتم وجهًا لوجه من خلال التفاعل البشري المباشر. لكن، ولسوء الحظ، فإن التفاعل والتواصل المباشرين بين الجماهير باتا اليوم يمرَّان دون أن يلاحظهما أحد أو يلقيان، في أحسن الأحوال، اهتمامًا غير منتظم.
وفي الوقت الذي تُقدَّم فيه شبكات التواصل الاجتماعي باعتبارها منصات تساعد في خلق فرص لرؤية رسالة شخص أو مجموعة وسماعها، فقد أظهرت التجربة، في المقابل، أن بإمكان هذه المنصات فرض معاييرها الأيديولوجية الخاصة لاحتكار الفضاء عبر الإنترنت من خلال حظر مصادر المعلومات. ومن ثم، فإن مستخدمي وسائل الإعلام الاجتماعية يُرْغَمون على الخضوع لآراء وقواعد مُشغِّلي تلك المنصات. لذلك، ونظرًا لأن الإطار الأخلاقي والقانوني للمجال العام العادل لشبكات التواصل الاجتماعي يتطلب ضمان الحق في التعبير عن وجهات نظر غير خاضعة للرقابة أو “غير شعبية”، فإنه يجب، في المقابل، حماية سلامة الأفراد وقيمة الخصوصية لديهم.
من المسلَّم به أنه لا سبيل إلى إنكار مزايا هذه المنصات، لكن هذا لا يعني أيضًا أن استخدام شبكات التواصل الاجتماعي لا يمكن أن تَنْتُج عنه آثار سلبية على مجتمعنا. فبالإضافة إلى زيادة التعرُّض لانتهاكات الخصوصية، تُبرهِن التجربة على أن شبكات التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤدي، بل وهي تؤدي فعلًا، إلى تفاقم المفاهيم الخاطئة ومشاعر التحيُّز، هذا فضلًا عن انتشار التَّنمُّر الإلكتروني؛ إذ من خلال إتاحة التواصل والترابط بين الناس، فإن شبكات التواصل الاجتماعي غالبًا ما تُوظَّف لنشر الشائعات والتلاعب بالرأي العام.
إن ما نشهده اليوم من “تسامح” على شبكات التواصل الاجتماعي إنما هو نوع من ذلك التسامح الذي يتجاهل أمورًا مصيرية في الحياة ثم يتحوَّل إلى جاذبية رخيصة دون إيلاء الاهتمام الكافي لتطوير مناخ حقيقي من التفاعل المتبادل بين المواطنين. فالأولوية هنا تُعطى للتغييرات البنيوية على حساب الأخلاق والمهنية، وهو ما قد يؤدي إلى انتشار ثقافة غير مسؤولة اجتماعيًّا تُهيمن عليها عقلية السوق العشوائية. ونتيجة لذلك يقع الخلط بين قاعدة حرية التفاعل مع الشخص العادي وحرية السعي لتحقيق الكسب المادي أو العاطفي من خلال ذلك التفاعل.
ومن المهم، هنا، أن نأخذ القضايا الأخلاقية التي تنشأ عند انخراطنا في شبكات التواصل الاجتماعي في الاعتبار؛ حيث بإمكان هذه الوسائط توفير منصة لبعض الأشخاص الذين لا يكشفون عن حقيقة هوياتهم لمضايقة الآخرين وإلحاق العار بهم والتَّنَمُّر عليهم. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن ندرك الآثار النفسية التي قد تنشأ عن استخدامنا لشبكات التواصل الاجتماعي، مثل التَّنَمُّر الإلكتروني؛ إذ يمكن أن يصبح التركيز المهووس بوسائل التواصل الاجتماعي إدمانًا. كما يمكنه، أيضًا، إنشاء علاقات إلكترونية-افتراضية على حساب العلاقات الحقيقية المباشرة، ومن ثم، إعاقة الناس عن الانخراط في تفاعلات اجتماعية حقيقية بسبب إهمال علاقاتهم في العالم الحقيقي وانفصالهم عن الأشخاص الحقيقيين من حولهم.
- شبكات التواصل الاجتماعي العربية
أظهرت الممارسة في العالم العربي أن الصعوبة الحقيقية تكمن فيما يمكن تسميته بدمج التقنيات مع البنية الاجتماعية. فاعتماد تقنيات الوسائط الاجتماعية يؤدي إلى اعتماد أسلوب عمل جديد وطريقة إنتاج جديدة، بل وحتى محتوى جديد. وعادة ما يتم استيراد هذه التقنيات من بلدان مختلفة ثقافيًّا عنَّا ولا تتناسب بالضرورة مع ثقافتنا أو أسلوب حياتنا، وهكذا نُجْبَر على تكييف التقنيات المستوردة مع احتياجاتنا وظروفنا(5).
إن شبكات التواصل الاجتماعي عبارة عن سيف له حدَّان. فمن ناحية، يمكن لمنصات التواصل الاجتماعي إثارة قضايا مهمة ووضعها على أجندة نقاشات المواطنين، ومن ثم التأثير في وعيهم إيجابيًّا. ومن ناحية أخرى، يمكن لتلك المنصات، أيضًا، الإسهام في تدمير القيم أو الإنجازات الوطنية. ومن النتائج السلبية الخطيرة لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي انخفاض مستوى التواصل في المجال العام، مما يقود إلى التخلي عن مناقشة المسائل الحياتية المهمة، بل وإمكانية تحويلها إلى أمور لا أخلاقية وهامشية وقضايا غير مفيدة. أما الجانب السلبي الآخر للانغماس في شبكات التواصل الاجتماعي، والذي لا يحظى باهتمام كبير من قبل العلماء العرب، فيكمن في إضعاف اللغة العربية بسبب استخدام الأحرف اللاتينية للكتابة بالعربية.
هكذا، يبدو واضحًا أن بإمكان منصات التواصل الاجتماعي الجديدة لعب دور مهم في تشكيل الأحداث في العالم العربي. وفي هذا السياق، فإنه لا شك في إسهام فيسبوك وتويتر والهواتف المحمولة في سرعة نشر ونقل المعلومات إلى الأشخاص الذين ليسوا على اتصال مباشر فيما بينهم بشكل عام. كما يمكن لهذه المنصات أن تُسهِم في زيادة معدلات التنمية، غير أن غياب السياسات والخطط الإعلامية العربية، التي تربط منصات التواصل الاجتماعي بمؤسسات المجتمع الأخرى، قد أدى إلى فوضى إعلامية وقصور ثقافي. فاليوم، تتحوَّل المنصات الإعلامية في العالم العربي إلى مُضَخِّم حقيقي للتعامل مع التحيزات العرقية والدينية الخفية التي ابْتُلِي بها مشهد التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي.
ثمة مشكلة أخرى في منصات التواصل الاجتماعي العربية، وتتمثَّل في نقص، أو لنقل: عجز المخطِّطين العرب عن وضع خطط وسياسات واضحة تربط بين مختلف المؤسسات الاجتماعية والأهداف الكبرى للمجتمع في كلِّيته. في مقابل ذلك، يمكن لمنصات التواصل الاجتماعي حقًّا إنتاج نوع من الرسائل والمواضيع التي تحثُّ على “التحديث” أو “التغيير”، وتُعد نوعًا من الرسائل والمواضيع النموذجية التي تُطرح وتُناقش على منصات الإعلام الغربية. غير أن هذه الرسائل والمواضيع غريبة، في العموم، على معاييرنا الثقافية، وسيخلق تناولها، بالتأكيد، ثقافة غير نافعة ومُنْبَتَّة عن مجتمعاتنا. ولا شك في أن تبنِّي الرسائل والمواضيع المُنْبَتَّة قد يؤدي إلى دفع مجتمعاتنا لأثمان باهظة وإهمال لاحتياجاتها الإنمائية الأساسية. فالتحديث لا يتحقق بتبنِّي مشاكل المجتمعات المتقدمة التي لا علاقة لنا بها بشكل عام، وبدلًا من تبنِّي القضايا التي تهمنا فإن النتيجة غالبًا ما تكون إهمال العمل على حلِّ المشاكل الفعلية للمجتمع.
وهنا يبرز سؤال مُلِحٌّ يجب تناوله والتفكير فيه عند مناقشة البنية الأخلاقية لمنصات التواصل الاجتماعي في العالم العربي، ألا وهو: هل من الممكن (وكيف) استخدام شبكات التواصل الاجتماعي بطرق أخرى غير تلك التي تستخدم بها حاليًّا، حتى يتمكن هذا العالم العربي -على مستوى الدول وكذلك الأفراد- من الحفاظ على المزايا الإنسانية المختلفة وزيادة فرص تمكين الضعفاء والفقراء، وحتى الجهلة، من المشاركة الفعالة في القرارات التي تؤثر في حياتهم، سواء أكان ذلك على مستوى المجتمع أم المستوى الفردي؟
لا تكمن المشكلة، التي تواجه القيم الثقافية العربية في قضية حرية الإعلام أو الفوضى بقدر ما تكمن في قضية حرية المواطنين وتأهيلهم في مجال المشاركة الديمقراطية في مجتمعاتهم. فتطوير الكائنات الثقافية يتطلب بذل جهد للتحكُّم في تقدم التقنيات تحسُّبًا للوصول إلى حالة لا يمكننا معها التحكُّم في تلك التقنيات اقتصاديًّا، أو حتى إنسانيًّا. كما ينبغي، أيضًا، توخي الحذر من تبنِّي مفهوم خاطئ للديمقراطية.
يجب، أيضًا، أن ندرك المعضلة الأبدية التي تواجه المجتمعات العربية وهي الاختيار بين الفعالية والعدالة، وبين التأثير والحرية. كما يجب، أيضًا، إيلاء المزيد من الاهتمام لما أصاب المجال الثقافي والإعلامي في العالم العربي من تلوُّث، خاصة وأننا بلغنا، بالتأكيد، مرحلة متقدمة جدًّا في استيراد المنصات الإعلامية ذات الأثر الأكبر في تلويث ثقافتنا وعقول الجماهير العربية.
إن أهم قضية نحتاج إلى معالجتها، في هذا المسار، تتمثَّل في تقييم منصات التواصل الاجتماعي المستوردة في ضوء احتياجات مجتمعاتنا. ويتطلب هذا الهدف التركيزَ على التأثير الاجتماعي لشبكات التواصل الاجتماعي في المستخدمين، وكذلك تتبُّع عمل منصات التواصل الاجتماعي والمشرفين على تشغيليها. فهذه المنصات تسمح باستخدام مزايا ووظائف مختلفة. ومن ثم، فمن المعقول الدعوة إلى تنظيم استخدام هذه الوسائل من خلال وضع سياسات تستند إلى احتياجات مجتمعاتنا وتنبع من ثقافتنا، أو تكون في انسجام معها.
لذلك، فإنه من الضروري وضع ضوابط تسمح بمواجهة هجمة الثقافة والإعلام القادمين من الخارج. ولتفعيل هذه الضوابط، فإن الأمر يتطلب منا تنظيم تدفق شبكات التواصل الاجتماعي والبرامج والمواد الثقافية التي قد يكون لها تأثير سلبي على مجتمعاتنا. ستكون هذه المقاربة سبيلًا لخلق منصة ثقافية وإعلامية عربية مشتركة منبثقة من احتياجاتنا. ولكي ينجح هذا المسعى، يجب أن نبدأ بتعزيز المقومات الأساسية لوسائل الإعلام الاجتماعية والإنتاج الثقافي في مجتمعاتنا.
ومما أدت إليه هيمنة منصات التواصل الاجتماعي المصمَّمة للجمهور المختلف ثقافيًّا وأخلاقيًّا عن بلدنا، هو أن ميزان تبادلنا الثقافي بات هو الأدنى في معادلة التبادل الثقافي هذه، بل وقد انخفض مستوى ثقافتنا أيضًا. لقد أضحت ثقافتنا مجرد سلعة تنسحب عليها نفس الأحكام التي تنطبق على السلع المادية في نظام عالمي يهيمن عليه الغرب. كما أن النظام العالمي القائم حاليًّا يُضَيِّق مساحة المنافسة ويُسهِم في تقويض سيادة الثقافة الوطنية في سياق تضافر الضغوط الثقافية والقيم الأجنبية المكثفة. لقد أضحت هيمنة القيم الغربية في برامج منصاتنا الاجتماعية صاحبة اليد العليا ولها الهيمنة المطلقة، في زمن تمر فيه مجتمعاتنا العربية بمرحلة حداثة مشوشة وهو ما أثَّر بعمق، ليس فقط في بنية تربيتنا المدنية، بل حتى في بنية أُسَرِنا.
نجد أن عامة العرب يُروِّجون للثقافات الأجنبية، وهكذا تُسهِم وسائل الإعلام القائمة في النظام العالمي الحالي في جعل الثقافة الوطنية غريبة عن الشخص العربي العادي. وعادة ما يتم ذلك في سياق ما يُسمَّى “عملية التحديث”، والتي يتم أثناءها التقليل من قيمة الثقافة الوطنية وتحويل اهتمامها نحو العالمية؛ حيث تختفي القيم والفنون التقليدية التي من شأنها توطين ثقافتنا العربية، ومن ثم تمتزج الثقافة الشعبية الغربية بثقافتنا الشعبية، بل وتبتلعها أحيانًا.
لذا، ينبغي علينا جعل النهوض بإمكانيات التواصل الإنساني العربي منسجمًا مع احتياجات التنمية الوطنية. كما أن ثمة حاجة إلى وضع تصور طويل الأجل لحزمة من المبادئ والقواعد الثابتة التي من شأنها أن توجِّه أداء أنظمة الإعلام العربية. وينبغي، أيضًا، تحديد توجيه الإعلام العربي في ضوء تحليل وتحديد الممارسات القائمة وكذلك عبر صياغة مبادئ وقواعد جديدة مناسبة لتحقيق الأهداف المرجوة.
لقد عملت منصات التواصل الاجتماعي على تحرير عملية الاتصال من العديد من القيود التي كانت مفروضة أو تستخدم للحد من تواصل الأفراد والجماعات. ومع ذلك، تبقى إمكانية التلاعب بهذه المنصات ممكنة، خاصة من طرف من يمتلكون المعرفة والأدوات التقنية المتطورة. وهنا يكمن خطر هيمنة البلدان المتقدمة تقنيًّا وماديًّا على البلدان المتأخرة في هذا المجال، فضلًا عن خطر سيطرة المؤسسات التجارية على الطريقة التي يستهلك بها الجمهور هذه الوسائل، حيث يتم إنتاج الطاقة العقلية الناتجة عن تقنيات الوسائط التفاعلية أو إدارتها من قِبَل الشركات متعددة الجنسيات التي تتحكَّم في قنوات الاتصال في البلدان الأقل نموًّا.
لا تعمل شبكات التواصل الاجتماعي في فراغ، بل في وسط واقع مجتمعي، ولذلك يجب أن يتنزَّل عملها في سياق المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع الذي توجد فيه، وهذا عامل مهم في تشكيل الفهم العقلي أو الوعي الذي يتطلبه تشكيل نظرة المواطن إلى مجتمعه وإلى العالم. ليس بالضرورة أن يؤدي المحتوى الذي توفره منصات التواصل الاجتماعي، مثل الرسائل الثقافية أو الترفيهية أو غيرها، إلى إدراك الحقيقة ولكنه يشارك في تشكيل “واقع افتراضي” جديد من شأنه الإسهام في تغريب شبابنا. فبدلًا من تسهيل مشاركة الجمهور العربي في مجتمعاته، نشهد اليوم فرض هيمنة الثقافات الأجنبية على قنواتنا التفاعلية ومحتواها إلى اغتراب ذلك الجمهور. وغالبًا ما يحدث الاغتراب من خلال طرح محتوى غير مرتبط بالواقع الثقافي العربي، وهو ما يدفع عامة الناس إلى التمرد على قيمهم وأسلوب حياتهم. وهكذا فإن بإمكان منصات التواصل الاجتماعي لعب دور مؤثر في تشتيت انتباه الناس عن مشاكلهم المحلية، وتوجيه انتباههم بعيدًا عن قضاياهم الاجتماعية والوطنية الحقيقية، ودفعهم نحو التركيز على القضايا الأجنبية المستوردة وغير الضرورية.
قد نجد المساهمة التأملية في نقاشنا حول شبكات التواصل الاجتماعي، فيما طرحه المفكران المغربيان، محمد عابد الجابري وعبد الإله بلقزيز(6)، عند بحثهما في تداعيات تأثير العولمة على العالم العربي.
لقد جلبت شبكات التواصل الاجتماعي الجديدة إلى العالم العربي ما يصفه المفكر بلقزيز بـ”إغراق حاجة المجتمع لإشباع رغباته… وهذا ما سيقتل الروح ويسلب المحتوى الأخلاقي والإنساني في سلوك الناس… وسيؤدي ذلك إلى إصابة الفرد بمتلازمة نقص المناعة”(7). ودعا بلقزيز إلى التفكير في المقاربات الإستراتيجية لتكييف ثقافتنا ومجتمعنا مع التحدي الذي تفرضه العولمة.
ووفقًا لوجهة نظر بلقزيز، فإن شبكات التواصل الاجتماعي تؤسس لـ”ثورة جديدة في التاريخ… ثورة ستكمُن قوتها في المجموعة البشرية بدلًا من الدولة والمجموعة الوطنية”. ويمضي بلقزيز في تحليله معتبرًا أن ما يُطلق عليه اليوم “العولمة الثقافية” لا يعني الانتقال من عصر الثقافات المحلية والوطنية إلى ثقافة أعلى جديدة، وهي الثقافة العالمية… بل هو، على النقيض من ذلك، فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على الثقافات الأخرى، ويؤكد بلقزيز أن “الثقافة العالمية الحقيقية هي تلك التي تشكِّلها ثقافات جميع المجتمعات دون استثناء”(8).
من جهته، يذهب المفكر محمد عابد الجابري إلى أن وسائل الإعلام الجديدة تُشتِّت فعالية العقل عبر تحكُّمِها في الإدراك؛ حيث “يتكيَّف المنطق ويتعطَّل نظام القيم”. ويرى الجابري أن هذا يُنتج “ثقافة الاختراق” التي تقوم على مجموعة من الأوهام الهادفة إلى “التطبيع مع الهيمنة وتوطيد التبعية الحضارية”. ويعتقد الجابري أن إحدى نتائج ثقافة الاختراق هي حدوث الازدواجية والانشطار داخل الهوية الثقافية العربية… بمعنى حدوث انقسام بين ما هو تقليدي وما هو حداثي(9).
ويمضي الجابري في تحليله محذِّرًا من خطورة اتخاذ أحد موقفين كردِّ فعل على رفض العولمة الثقافية: إما الانغلاق التام أو القبول الكامل للعولمة، أو “الاغتراب”، ويدعو الجابري إلى ضرورة “تجديد الثقافة العربية من الداخل من خلال إعادة بنائها وممارسة الحداثة… فالبحث عن جوانب فهم وتفسير مسار الحداثة هو ما سيسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل”. ويسلط أحد أهم جوانب تشريح الجابري لمسألة العولمة الضوءَ على ما يجب فعله ورفضه في مواجهة العولمة الثقافية؛ حيث يشدِّد على أهمية توظيف العقلانية والديمقراطية في هذا التشريح، كما يدعو إلى تجديد الثقافة العربية “من الداخل من خلال ربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل”(10).
خاتمة
في معرض مناقشته لمستقبل شبكات التواصل الاجتماعي، يؤكد بوغوست أنه “لم يسبق أبدًا، قبل الآن، أن نشعر بتوقُّع انتهاء عصر شبكات التواصل الاجتماعي، وسيكون هذا قريبًا”. ويحذر بوغوست من أنه “إذا كان التغيير ممكنًا فسيكون تنفيذه صعبًا، لأننا كيَّفنا حياتنا لتتوافق مع ملذات شبكات التواصل الاجتماعي وسمحنا لها بأن تُعكِّر صفونا. هكذا، يبدو من الصعب التخلي عن شبكات التواصل الاجتماعي كما كان الأمر مع الإقلاع عن التدخين بشكل جماعي. فعلنا ذلك ببطء واستغرق إنجازه وقتًا عبر إجبار الحياة الاجتماعية على خنق تلك العادة، ولهذا يجب أن تبدأ هذه العملية فورًا وبشكل جدي مع شبكات التواصل الاجتماعي”(11). من جانبها، ترى ليندسي أنه “لضمان خلق مجال عام عادل لشبكات التواصل الاجتماعي يجب وضع بنية أخلاقية وقانونية قوية والسعي إلى تحقيق التزام جميع المعنيين بذلك”… “لن يُنْجَز هذا بإصدار مراسيم تنظيمية، بل يكون عبر عملية اجتماعية”(12).
تتطلب معالجة مشكلات شبكات التواصل الاجتماعي المتزايدة اعتماد مقاربة “العملية الاجتماعية” وليس، فقط، مجرد إصدار تدابير تنظيمية. فقد أدى التطور السريع والعشوائي في مجال شبكات التواصل الاجتماعي العربية إلى إدمان نوع جديد من الواقع الاجتماعي غير المفيد أخلاقيًّا أو قانونيًّا. فالإدمان على شبكات التواصل الاجتماعي أمر ثابت بوضوح إلى درجة بات معها وضع حدٍّ له بقرارات تنظيمية فورية غير مجدٍ. والمطلوب هو أن تكون التدابير القانونية الضرورية للحدِّ من تأثير شبكات التواصل الاجتماعي جزءًا من عملية اجتماعية واسعة النطاق وطويلة الأجل.
ولا مراء في أن اعتماد مقاربة العملية الاجتماعية هذه يتطلب وضع إستراتيجيات اتصال هادفة من شأنها إحداث تغيير في التفكير والتصرف معًا. كما أنه من الضروري فسح المجال أمام الأفراد والجماعات، التي تساعد على قبول التغيير الإيجابي وتعزيزه للقيام بأدوار إيجابية في تلك العملية، بالإضافة إلى تطوير الأفكار والرؤى المحلية لتغدو خططًا عملية للتنمية الاجتماعية.
لمعالجة هذا الأمر، يجب توجيه جمهور شبكات التواصل الاجتماعي العربي نحو المشاركة في إنتاج الرسائل النوعية والإيجابية من خلال توفير مواد تفاعلية مرتبطة ونابعة من واقع مجتمعنا. بالإضافة إلى هذا، يجب أيضًا إخضاع البرامج المستوردة، غير ذات الصلة ثقافيًّا والتي قد تُسهِم في عزل الأشخاص العاديين، للقرارات والتدابير التنظيمية. ويمكن لمنصات التواصل الاجتماعي، إذا ما نُظِّمت جيدًا، الإسهام في تشكيل وعي جديد، وسيكون حينها إطلاق تنمية اجتماعية جديدة أمرًا ممكنًا.
لقد أدى الفشل في وضع خطط قائمة على السياسات لتنظيم عمل شبكات التواصل الاجتماعي إلى تحويل منصات التواصل الاجتماعي العربية إلى وسائل هوية وقيم متنافرة وأداة لتقسيم المجتمع. وتتطلب عملية تشكيل جمهور عربي منتج وفعال جهدًا خاصًّا لمنع تحوُّل استخدام شبكات التواصل التفاعلي من أجل التطور إلى وضع لا يستطيع فيه المجتمع السيطرة عليها اقتصاديًّا وإنسانيًّا وأخلاقيًّا. كما ينبغي أن يعمل واضعو الخطط العامة للحكومات على تطوير سياسات إعلامية قادرة على ابتكار منصات وسائط اجتماعية مفيدة وقادرة على تقديم الخدمات لعموم المجتمع.
ولا ينبغي للدعوة إلى وضع سياسة إعلامية والتخطيط لها أن تعني الحضَّ على تبنِّي توجُّه مركزي، بل يجب النظر إليها باعتبارها منهجًا للتطوير الرشيد لمختلف الأنشطة الإعلامية التفاعلية. إن التخطيط السليم يفتح المجال أمام مقترحات بديلة ممكنة، ويسمح بالمرونة والابتكار ويوفر فرصًا للإبداع. كما أن التخطيط السليم لا يعني بالضرورة رفض أنظمة الاتصالات التقليدية والممارسات التفاعلية فقط لمجرد أنها مستمدة من الماضي. أما في الحالات التي تكون فيها هذه الأنظمة التقليدية على تضاد مع الأهداف المستقبلية، فإن الحلَّ يكون في تطويرها لتتكامل مع وسائل اجتماعية جديدة تتناسب مع الأهداف المرسومة.
المراجع
(1) Kate Lindsay, “All Alone,” The Atlantic, December 7, 2022, “accessed December 10, 2022”. https://t.ly/V3tr.
(2) Ian Bogost, “The Age of Social Media Is Ending: It never should have begun,” The Atlantic, November 10, 2022, “accessed December 10, 2022”. https://t.ly/ZGZhJ.
(3) Diana Owen, “The New Media’s Role in Politics” in The Age of Perplexity: Rethinking the World We Knew, bbvaopenmind.com, 2018, “accessed November 10, 2022”. https://bit.ly/2O1PnPi.
(4) Lindsay, “All Alone,” op, cit.
(5) يعتمد النقاش هنا على الأوراق البحثية المبكرة للباحث، خاصة الورقة التي تتناول وسائل الإعلام التفاعلية والمجتمع:
“The young generation, interactive media and society,” Global Media Journal, Arabian Edition, Fall-Spring, Vol. 2, Nos.1-2, (2012-2013).
(6) “العولمة والهوية الثقافية: عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة؟ العرب والعولمة” للدكتور عبد الإله بلقزيز، و”العولمة والهوية الثقافية: عشر أطروحات”، للدكتور محمد عابد الجابري.
(7) عبد الإله بلقزيز، العولمة والهوية الثقافية: عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة؟ العرب والعولمة (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010)، ص 309-319.
(8) المرجع السابق، ص 309-319.
(9) محمد عابد الجابري، “العولمة والهوية الثقافية: عشر أطروحات”، المستقبل العربي، (المجلد 20، العدد 228، 28 فبراير/شباط 1998)، ص 14-22.
(10) المرجع السابق، ص 14-22.
(11) Bogost, “The Age of Social Media Is Ending: It never should have begun”, op, cit.
(12) Lindsay, All Alone, op, cit.
* أ.د. مانويل كاستلز، أستاذ جامعي، ورئيس واليس أننبرغ لتكنولوجيا الاتصالات والمجتمع بجامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلوس.
Dr. Manuel Castells, University Professor of Communication Technology and Society, University of Southern California, and the Wallis Annenberg Chair in Communication Technology and Society.
* أ.د. نبيل دجاني، أستاذ محاضر في الدراسات الإعلامية بقسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الإعلامية في الجامعة الأميركية في بيروت.
Dr. Nabil Dajani, Emeritus Professor of Media Studies at the Department of Sociology, Anthropology and Media studies at the American University of Beirut.