مساهمة بحثية في مشروع المعجم الإعلامي الحديث 

Research Contributions to the Modern Media Dictionary

كمال حميدو –  Kamal Hamidou *

توطئة:

يمثِّل مشروع المعجم الإعلامي الحديث، الذي يُصدِره مركز الجزيرة للدراسات، إسهامًا معرفيًّا في صناعة معجمية تحقق التراكم المعرفي الإعلامي، باعتبارها وسيطًا علميًّا يُوثِّق الصلة بمجال اشتغاله، ويُكْسِب المتلقي أيضًا وعيًا عميقًا بالكيفية التي يُعَبِّر بها النسق المعجمي عن صيرورة الظواهر والقضايا التي يعالجها من خلال البحث في أصول الكلمات، وتَشَكُّل المصطلحات، وبلورة المفاهيم واستقصاء تطورها التاريخي. سيكون هذا المعجم الإلكتروني منطلقًا لفهم الطبيعة التاريخية لمصطلحات الإعلام، والسياقات المختلفة التي تبلورت فيها، والقضايا والإشكاليات التي تُعبِّر عنها في علاقتها بالتحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية والفلسفية، وتأثيرها على التفكير الإنساني في تلك القضايا، لأن المصطلحات لا يمكن عزلها عن هذه البنى التي أنتجتها (الاجتماعية والتاريخية والسياسية…)، كما أن بعض العمليات الاجتماعية والتاريخية تحدث من داخل المصطلحات نفسها (الفضاء السيبراني، والشبكات الاجتماعية…). وستُنشَر المادة العلمية للمعجم في الأعداد المقبلة بمساهمة عدد من الأكاديميين والباحثين المختصين في الدراسات المعجمية، وسيجري رَفْدُه وإثراؤه بالمصطلحات المستحدثة في مجال الاتصال والإعلام مواكبة لتدفُّق المصطلحات في هذا الحقل المعرفي الذي يتطور باستمرار. وقد أعدَّ هذه المادة العلمية الأكاديمي، الدكتور كمال حميدو.

Foreword:

Published by Al Jazeera Centre for Studies, The Modern Media Dictionary is a cognitive contribution to the lexical industry that achieves an accumulation of media knowledge as a scientific means of documenting the connection to its field of work, giving the reader a deep awareness of how the lexical system expresses the process of phenomena and issues that it deals with through research on the origins of words, forming vocabulary and concepts, and investigating their historical development. This electronic dictionary will be the starting point for understanding the historical nature of media terminology; the different contexts in which they were formed; the issues and problems that it portrays in its relationship with social, political, intellectual and philosophical transformations; and their effect on human thought on these issues. This is because terminology cannot be isolated from the social, historical and political structures that produced it. In addition, some social and historical operations occur from within the terminology (e.g. cyberspace, social media networks). The dictionary’s scientific material will be published in upcoming issues with the contribution of academics and researchers specialised in lexical studies; and the dictionary will be supplemented and enriched with new terminology in the field of communication and media, keeping pace with the flow of terminology in this constantly evolving field of knowledge. This scientific material was prepared by Dr. Kamal Hamidou.

 

إبداع (Creativity, Créativité)

مصدر الفعل “أبدع” في اللغة العربية، والذي يعني: أنشأ الشيء(1). ويعتبر المفهوم مرادفًا في معناه لفعل “بدَع” بفتح الدال، الذي يعني اختراع الشيء وصناعته لا على مثال(2)، أي صياغة أفكار أو تصورات لأشكال جديدة متميزة، دون البناء على نماذج سابقة. ويقابل كلمة “إبداع” في اللغة الإنجليزية كلمة (Creativity) التي تعني القدرة على إنتاج أفكار أصلية غير عادية، أو على استحداث شيء جديد من وحي الخيال(3). كما وردت له أيضًا تعاريف أخرى جاءت بمعنى القدرة على خلق أفكار أو أشياء جديدة باستخدام الخيال(4). أما في اللغة الفرنسية فيعادل كلمة إبداع كلمة (Créativité)، التي تعني القدرة على الخلق والابتكار(5). ووردت أيضًا بمعنى القدرة على التخيل، أو الابتكار، أو الخلق(6). واشتُقَّ المفهوم الإنجليزي والمفهوم الفرنسي من الكلمة اللاتينية (Creatio)، التي تعني خلق شيء جديد من العدم(7). وارتبط هذا المعنى بالنظرة الدينية الدالة على فكرة الخلق الإلهي للمخلوقات وللأشياء من العدم.

أما في الفلسفة فقد أخذ هذا المفهوم معنى إيجاد شيء غير مسبوق لا بمادة ولا بزمان، ويقابله في ذلك كلمة “التكوين” التي تعني إيجاد شيء مسبوق بالمادة، أو كلمة “الإحداث” التي تحيل في معناها للشيء المسبوق بالزمان(8). ويقتضي الإبداع عادة التحرر من الأطر الفكرية المهيمنة والتفكير خارج الأطر أو النماذج المعهودة، حتى يتمكن العقل المبدع من صياغة الأفكار الجديدة المتميزة عما سبقها. ويختلف مفهوم الإبداع عن مفهوم الاختراع في كون الأول أوسع نطاقًا(9)؛ إذ يشمل الإبداع مجالات الفن والأدب والاجتماعيات، والإنسانيات، وعلوم الفيزياء، والرياضيات وغيرها من العلوم الدقيقة الأخرى، وغالبًا ما يبقى إما ضمن حدود التصور النظري أو يأخذ شكل التعبير الفكري أو الفني. بينما يكون الاختراع (الذي يرتبط جوهريًّا بالإبداع) مرتبطًا بمختلف العمليات، أو بالتطبيقات، أو بالمنتجات أو بالخدمات التي لم تكن موجودة، والتي يضع مبتكرها تصميمًا لها، أو يصنع نموذجًا منها، أو يجرِّب نماذج مبدئية منها، بهدف وضع حلول ملموسة، تُحدث تطورًا نوعيًّا في أدوات الإنتاج، أو في مختلف الحلول الخدماتية عمومًا.

واشتُق من كلمة إبداع مفهوم “الإبداعية” الذي اتخذه البعض في الأدبيات العربية ترجمةً لمفهوم “الرومانسية”، وهو المفهوم الذي لا يبتعد في جوهره عن جوهر مفهوم الإبداع، باعتبار الرومانسية جاءت دعوةً لتحرير الذات والفن من الامتثال للأطر المهيمِنة (Conformism)، والخروج بذلك من المنطق الذي غلقت عليهما فيه كل من الكلاسيكية التقليدية والمذهب الواقعي. ويُعد علم النفس من أكثر العلوم التي اهتمت بالإبداع موضوعًا علميًّا منذ القرن التاسع عشر، في محاولة لفهم العوامل الذاتية المرتبطة بعملية الإبداع، والعوامل الموضوعية المرتبطة بالبيئة المحيطة بالشخص المبدع، وذلك ضمن الاهتمامات المتعلقة بسيكولوجيا الإبداع. ووفقًا لمقاربة الإبداع متعدد المتغيرات(10)، فإن التعبير عن الإمكانات الإبداعية للشخص يخضع، بحسب مجالات التطبيق أو بحسب المواقف التي يكون فيها الشخص المبدع، لتأثير أربعة عوامل أساسية هي: العوامل المعرفية، والعوامل المرتبطة بالنزوعية الفردية (Conative factor)، والعوامل المرتبطة بالأبعاد العاطفية للشخص المبدع، وأخيرًا العوامل المرتبطة ببيئة الفرد المبدع. وترتبط العوامل المعرفية من جهة، بمدى امتلاك الفرد المبدع قدرات مرتبطة بمعالجة المعلومات (مدى توافر المرونة الفكرية لديه، ومدى امتلاكه للقدرة على التفكير المجازي)، ثم بطبيعة المعارف التي اكتسبها سابقًا من جهة أخرى. بينما يرتبط عامل النزوعية الفردية من جهة، بالسمات الشخصية (مثل مدى الانفتاح على التجارب الجديدة، ومدى التسامح مع الغموض، ومدى حب المخاطرة، ومدى تبني النزعة الفكرية الفردية (Individualism))، كما يرتبط من جهة أخرى بالأساليب الشخصية وبالدافعية الشخصية للمبدع. أما العوامل العاطفية فتحيل إلى تأثير الحالات العابرة التي يمر بها الشخص جنبًا إلى جنب مهاراته، وسماته الشخصية، وأساليبه العاطفية الخاصة به. بينما تحيل العوامل البيئية من جهتها إلى تأثير المجتمع، والثقافة، والأسرة، والمدرسة، والبيئة المهنية، والبيئة المادية التي ينمو ويتطور فيها الشخص المبدع(11).

وإلى جانب الأهمية التي أخذها مفهوم الإبداع في المجالين الأدبي والفني، بات هذا المفهوم يكتسي أهمية قصوى في المجال الإعلامي، منذ أن أصبح مجال الممارسة الإعلامية من أكثر المجالات التي توفر للعاملين فيها فرصًا للتميُّز، وعوامل لتحقيق التجديد والتفرد بشكل مستمر. فقد أصبح الإبداع في الرسالة الاتصالية مطلبًا مهمًّا للغاية في زمن التحول التكنولوجي الذي يعرفه قطاع الإعلام، لأنه بات أمرًا مصيريًّا يرتبط بمتطلبات نجاح وفاعلية الاتصال من جهة، وبخلق شروط بقاء وديمومة المؤسسات الإعلامية من جهة أخرى، بحكم أن التميز والإبداع في صياغة الرسالة الإعلامية باتا مطلبين ضروريين لجذب الجمهور، في بيئة إعلامية باتت شديدة التنافسية. ويشمل الإبداع في المجال الإعلامي أشكالًا مختلفة، تغطي مجالات عديدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: السينما، والإذاعة والتليفزيون، والصحافة المطبوعة، والصحافة الرقمية، وفنون الإعلان، وفنون التصميم بكل أنواعها، ومهارات إبداع منصات التعبير الحديثة، ومهارات إبداع طرق التعبير الفريدة…إلخ. وعادة ما تتطلب مختلف المجالات المهنية المذكورة المرور بمستويات مختلفة من مراحل الإبداع، تتدرج من وضع الأفكار، ثم التخطيط لتنفيذها، وصولًا لمرحلة إخراجها وتقديمها في الصيغة التي تصل بها إلى عموم الجمهور. ويشترط في عمليات الإبداع الإعلامي أن تكون الأعمال متحررة من القوالب الجاهزة، ومن النمطية والتقليدية، ومن الرقابة الداخلية أو الخارجية، ومن مختلف قوى الضغط المحيطة، كشرط من شروط تحقيق عوامل التفرد فيها، ما يسمح لها بالابتعاد عن مخاطر الحكم عليها بأنها تقليدية أو سبق مشاهدة نسخ منها.

وبات تحول الإبداع إلى مطلب أساسي في الممارسة الإعلامية والاتصالية يرتهن وجود وسائل الإعلام التقليدية المختلفة، التي وجدت نفسها لا تكف عن الابتكار، لتتمكن من التكيُّف مع تحولات البيئة الإعلامية الجديدة. فالتليفزيون، على سبيل المثال، ما انفك يتجدد ويبتكر أشكال بثه: البث الحي، والبث الاستدراكي عبر موقع القناة التليفزيونية، أو عبر منصات مخصوصة، ومن خلال عرض المنتج التليفزيوني بحسب الطلب، ومن خلال تعدد حوامل هذا البث: الكابل، والكمبيوتر المحمول، والهاتف الذكي، واللوح الإلكتروني، مع ما واكب هذا التكيُّف من آثار على أشكال التعبير السمعي البصري لتتناغم مع طبيعة الحامل. وأضحى الإبداع مبحثًا في علوم الإعلام والاتصال تعبِّر عنه “دراسات التحول الإبداعي” (Creative Shift Studies) التي فتحت آفاقًا جديدة لقراءة التغيير المتسارع في العُدَّة التقنية الرقمية، ولفهم تداعياتها على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

إبستمولوجيا (Epistemology, Épistémologie)

كلمة تكوَّنت جذورها من كلمتين إغريقيتين، وهما: (Episteme) التي تعني العلم، وكلمة (Logos) التي تعني الخطاب أو الكلام(12). وينتج عن دمج الكلمتين كلمة (Epistemology) باللغة الإنجليزية، و(Épistémologie) باللغة الفرنسية، التي تعطينا الترجمة الحرفية لها “خطابًا أو كلامًا عن العلم” غير أن هذه الترجمة الحرفية إلى اللغة العربية لا توفي المعنى الإغريقي حقه، باعتبار أن المعنى الدلالي الذي يتجاوز الترجمة الحرفية هو “التَّفَكُّر في كينونة العلم”. لذلك حاول البعض تجاوز المعنى الحرفي عند ترجمة المفهوم، على غرار الدكتور أحمد زكي بدوي، الذي ترجمه إلى اللغة العربية بمفهوم “فلسفة العلم”، آخذًا في الاعتبار الشطر الخطابي في البناء الاصطلاحي الإغريقي للمفهوم بقوله: “إن موضوعات الإبستمولوجيا بحد ذاتها ليست جزءًا من العلم، بل هي حديث عن العلم أو تعليق عنه”(13).

لكن الإشكال في المفهوم الذي ترجم به بدوي، ومن نحى نحوه، مفهوم إبستمولوجيا أي “فلسفة العلم” يحيل ضمنيًّا إلى “فلسفة المعرفة” باعتبارها موضوعًا للدراسات الفلسفية، والتي تدرس طبيعة وأصول ومحتويات ووسائل وحدود المعرفة بشكل عام. فيكونون بذلك قد رجَّحوا المعنى التفسيري الذي يضع هذا المفهوم ضمن نطاق واهتمامات الفلسفة والفلاسفة، وهو الشيء الذي كان المفهوم قد تحرَّر منه منذ ما يقارب القرنين تقريبًا. فقد ظل التفكير في المنهج العلمي وفي تطور العلوم عمومًا، ولقرون طويلة، يقع ضمن نطاق تخصص الفلاسفة حصريًّا(14)، كما ظلت الاهتمامات الإبستمولوجية وإلى غاية القرن العشرين مجالًا يقع ضمن اهتمامات فلسفة المعرفة (نظرية المعرفة تحديدًا كمجال فلسفي)، إلى أن انشقت عنه جزئيًّا، وأصبحت مجالًا شبه مستقل(15). وتجدر الإشارة هنا إلى أن العلوم الدقيقة والفلسفة لم يكونا خلال العصور القديمة منفصلين عن بعضهما البعض، كما هي الحال في عصرنا الحالي، فقد كان النطاقان متداخلين عند الفلاسفة القدماء، وغالبًا ما كان للفلاسفة معرفة عميقة في تخصصات علمية دقيقة أخرى كالفيزياء، أو الكيمياء، أو الطب، أو علم الفلك على سبيل المثال لا الحصر. غير أن هذه النظرة القائلة باحتكار الفلاسفة لمجال الخوض في طبيعة العلوم وغاياتها وأهدافها، بدأت تتغيَّر حين بدأ المختصون في العلوم الأخرى يتناولون بالدراسة الأسس المعرفية والمنهجية لعلومهم الخاصة بهم، من منظور إبستمولوجي بحت (الكينونة، الفرضيات، المناهج، التطور، العلاقات بين التخصصات…)، فبدأ استخدام مفهوم “إبستمولوجيا العلوم” بدلالاته الحديثة في الانتشار.

ورغم أن بعض المجتهدين حاولوا لاحقًا صياغة مرادفات أخرى مختصرة للمعنى الحديث لمفهوم إبستمولوجيا، على غرار مفاهيم “علم العلم”، و”علم المعرفة”، و”المعلومية”، أو “المعرفية”(16)، إلا أن المفهوم الذي بات أكثر استخدامًا في الأدبيات هو إبستمولوجيا. وإذا كان المدلول العربي الغالب استقر نسبيًّا على اعتبار أن الإبستمولوجيا هي “البحث في أهداف العلوم وحدودها، وعلاقتها بعضها ببعض، والقوانين التي تحكم تطورها”(17)، إلا أن مفهوم الإبستمولوجيا اختلف جذريًّا في معناه بين التقاليد الأكاديمية الأنجلوساكسونية، ومعها المدرستان، الإيطالية والألمانية، أيضًا(18)، من جهة، والتقاليد الأكاديمية الفرنكوفونية من جهة أخرى. فالأدبيات الأنجلوساكسونية لا تزال قريبة في استخدامها لمفهوم (Epistemology) من دلالاتها المرتبطة بالأطر التي أسست لنظرية المعرفة (Theory of Knowledge). ويعود ذلك لتأثر نظرة الأنجلوساكسونيين بالتوجه العرفاني (علم العرفان- (Gnoseology بمعناه الفلسفي الواسع، أي ذلك الذي يهتم بأصل العلم والمعرفة بشكل مطلق ومجرد، وليس بالتركيز على علم أو على مجالات تخصصية بعينها(19). ونجد أن هذا التوجه هو نفسه تقريبًا الذي نحت نحوه فلسفة المعرفة، من حيث اهتمامها بالتفكُّر في مجمل العلوم البشرية وفي تطوراتها(20).

أما الأدبيات الفرنسية فقد استخدمت مفهوم (Épistémologie) بمعنى مختلف عن المدارس الأنجلوساكسونية؛ إذ أخذ هذا المفهوم فيها معنى “علم العلم”، مع التركيز على علم بعينه، وبشكل دقيق (بمعنى ليس بشكل مطلق ولا بشكل مجرد)، عبر التفكُّر والتأمل النقديين في أسسه، ومبادئه، وفرضياته، ونتائجه(21). وكان الفيلسوف الفرنسي، أندريه لالاند (André Laland)، من أوائل من نادوا بإخراج الإبستمولوجيا من نطاق الاهتمامات العامة التي تركز على تطور العلوم، إلى “الدراسة النقدية للمبادئ التي تقوم عليها مختلف العلوم، ولفرضياتها ونتائجها، بهدف تحديد منشئها المنطقي، وتحديد قيمتها ونطاقها الموضوعي”(22). وفرض المنظور الفرنسي استخدامًا أدق لمفهوم الإبستمولوجيا، الذي يستخدم بمعنى علم العلم(23)، ليخرج بها، بذلك، من معنى دراسة العلوم بشكل عام إلى دراسة علم بحد ذاته بشكل خاص بالاعتماد على مقاربة نقدية بعدية (أي لاحقة وليست سابقة) لعلم من العلوم، مع التركيز على صدقية نتائجها، باعتبارها أشياء قابلة للملاحظة، والوصف، والتحليل(24). كما تتميز المقاربة الفرنسية بالفصل بين مستويات مختلفة من الإبستمولوجيات، بحسب زاوية الاهتمام التي يعتمد عليها الباحث في مقاربته ونقطة التركيز التي يوظفها في استخدامه لها(25). فقد فصل جان ميشال بيرثولو (Jean-Michel Berthelot) أولًا بين الإبستمولوجيات العامة (الكلية) التي تهتم بنشأة العلوم المختلفة عبر دراسة نقاطها المشتركة من حيث قيمتها، وأصلها المنطقي، ونطاقها، عن الإبستمولوجيات الجهوية (الجزئية)، التي تهتم بخصائص بعض التخصصات، أو خصائص مجموعات تخصصية معينة، بالتركيز على مناهجها بشكل خاص. كما ميَّز بين الإبستمولوجيات الداخلية التي يكون مصدرَها الفاعلون داخل التخصصات العلمية نفسها، والإبستمولوجيات الخارجية، باعتبارها تخصصًا مستقلًّا. كما فصل أيضًا بين الإبستمولوجيا المعيارية التي تهدف لوضع حدود فاصلة بين ما هو علمي وما هو غير علمي، والإبستمولوجيا التحليلية، التي تهتم بوصف وفهم مسارات بناء المعرفة العلمية(26). وبحسب بيرثولو، فإن الإبستمولوجيا الحديثة حفَّزت، وبتأثير من الفلسفة الوضعية المنطقية (Logical Positivism)، على هيمنة الإبستمولوجيا الخارجية والإبستمولوجيا العامة، التي وظفت عملياتهما التحليلية لتحقيق نوايا معيارية تمييزية، بين ما هو علم وما هو خارج عنه، ثم لتحقيق نوايا اختزالية، تتمثَّل في توحيد استخدام العلوم على اختلافها للغة بروتوكولية واحدة مشتركة بينها(27).

ويعتبر مجال الإعلام، لكونه مجالًا معرفيًّا حديث النشأة، من أكثر المجالات العلمية التي طرحت فيه، وحوله، تساؤلات إبستمولوجية. وارتكزت تلك التساؤلات منذ أربعينات القرن الماضي حول هوية التخصص، ومجاله، ومعارفه، ومناهجه، وحول أحقيته بأن يوصف بأنه علم قائم بذاته. وما أسَّس لتلك التساؤلات هو كون علم الإعلام نشأ نشأة هجينة، وتقاطع في مناهجه وإشكالياته مع العديد من التخصصات الأخرى. فقد خرج من رحم علم النفس الاجتماعي، وترعرع تحت عباءة علم الاجتماع، واحتضنته العلوم السياسية، وغذَّته لتصبح أهم محرِّك دافع له في المراحل الأولى من نشأته، قبل أن يتحول التخصص خلال فترة من تاريخ مساره باتجاه علم السيبرنيطيقا، ثم باتجاه علوم الحوسبة، لتدخل عليه العلوم المكتبية لاحقًا، إلى أن تشكَّل الوعي بإشكالية هوية تخصص الإعلام والاتصال وطبيعته الإبستمولوجية عند المتخصصين فيه، فعرف حينئذ بروز أدبيات اهتمت بمسألة بناء هويته المستقلة داخليًّا، بعد أن تدافعت عليه تخصصات جوارية عديدة، بمبرر المواضيع التي تشترك فيها معه(28)، إلى أن انفصل عن السيبرنيطيقا، وابتعد عن علم المكتبات، وطلَّق العلوم الحاسوبية، وبدأ يبني لنفسه هوية مستقلة ضمن العلوم الاجتماعية. لكن وما أن بلغ التخصص مرحلة من الاستقلالية والاستقرار في هويته، حتى بدأت ثورة الإنترنت تجبره مجددًا على التزاوج مع العلوم الحاسوبية(29).

وبذلك تكون الطبيعة الأنطولوجية المتحركة لمواضيع علوم الإعلام هي التي تُغذِّي الجدل الإبستمولوجي الذي يخص هذا المجال، فالظاهرة الإعلامية هي في ذات الوقت ظاهرة اجتماعية ونفسية، كما أنها عملية ديناميكية يتقاطع نطاقها مع الكثير من المجالات المعرفية الأخرى كاللسانيات، والعلوم المعرفية والإدراكية، خاصة مع العودة القوية للسيبرنيطيقا، وللحوسبة، وغيرها من العلوم الأخرى التي باتت تُغذِّي الجدل، مجددًا، حول هوية تخصص الإعلام وحول النطاق الدقيق لمجاله. كما شملت الانشغالات الإبستمولوجية التي طرحت، وما زالت تطرح في مجال الإعلام أيضًا طبيعة الاسم الأنسب لهذا التخصص، بين اسم الإعلام، أو الاتصال، أو الإعلام والاتصال معًا، أو الاتصال الجماهيري، أو الميديولوجيا، أو الميديالوجيا، وغيرها من الأسماء الأخرى التي أخذها، أو تلك التي اقتُرحت لأن يأخذها.

إبطال (Invalidate, Invalider)

مصدر الفعل “أبطل”، والذي يعني لغة الذهاب بالشيء ضياعًا وجعله باطلًا(30)، كما يعني أيضًا الحكم بعدم الصحة(31). ويستخدم هذا المفهوم أكثر في مجال القانون للدلالة على قرار تُصْدِره سلطة قضائية، أو سلطة إدارية، لإعلان بطلان عقد، أو بطلان إجراء، لعدم توافر جميع الشروط القانونية فيهما، كالأهلية مثلًا في العقود، أو بسبب خلل يخصُّ الشكل أو الموضوع في الإجراء القانوني نفسه(32). ويعادل مفهوم “إبطال” بمعناه القانوني كلمة (Annulation) في اللغة الفرنسية، وكلمة (Annulment) في اللغة الإنجليزية. كما يستخدم هذا المفهوم في مجال الفقه الديني وفي أصوله أيضًا، لتحديد مسببات البطلان في مختلف القضايا الفقهية الخاصة بالصلاة، أو بالحج، أو بالنكاح، أو بالبيع، أو بالقضاء…إلخ. ويستخدم مفهوم الإبطال في أصول الفقه بمعنى إفساد العمل وإزالة حكمه الشرعي إما ابتداء، كإيقاع العبادة باطلة من البداية وإما انتهاء، وهو إفساد ما وقع صحيحًا من العمل(33). كما يستخدم مفهوم “إبطال” في علم المنطق أيضًا، وتحديدًا في المطالب الجدلية التي تهدف لإثبات شيء لشيء أو لنفيه عنه، وذلك بتأكيد عارض الشيء المحمول للموضوع، أو بنفيه(34)، وتستخدم كلمة “إثبات” للدلالة على عكس “إبطال” في المنطق.

واستخدم هذا المفهوم حديثًا في بعض الأبحاث الإعلامية العربية بشكل مقارب للمعنى الجدلي الذي يستخدم به في مجال المنطق، وذلك للدلالة على قدرة وسائل الإعلام على إبطال قضايا بعينها من خلال إثبات قضايا نقيضة لها، حتى وإن سبق لنفس المصدر (أو لنفس الوسائط) إثبات أو إبطال نفس القضايا، من خلال محتويات إعلامية تم بثها عبر نفس الوسيلة(35). ويقترب هذا المفهوم من المقاربة التي وضعتها نظرية تحديد الأجندة الإعلامية (Agenda setting)، بعد الدراسة التي نشرها كل من ماكسويل ماك كومبز (Maxwell McCombs) ودونالد شو (Donald Lewis Shaw)، في سنة 1972. غير أن مفهوم الإبطال يختلف في آليته وفي غاياته عن آلية وغايات وضع الأجندة، لأن الأجندة تخص تحديد مواضيع بعينها ليفكِّر حولها الجمهور، وتعتمد في ذلك على آلية إبراز مواضيع دون غيرها (Sallience)، بينما يقوم الإبطال على آلية الإقناع بالحجة والبرهان أو باستخدام فنون الدعاية وتكرار الرسائل، التي تهدف إلى إلغاء صحة موضوع ما في مقابل إثبات صحة موضوع آخر ينافيه في الاتجاه.

إبلاغ (Information, Notification)

مصدر الفعل “أبلغ”، ويعني لغةً الإعلام والإخبار بالشيء، أو الإيصال (إبلاغ الأمانة لأهلها)(36)، ويقابل المعنى الأول في اللغتين الإنجليزية والفرنسية كلمة (Information)، وكلمة (Notification)، بينما يعادل المعنى الثاني كلمة (Transmission) في اللغتين. ويعتبر الإبلاغ أحد أهم أركان المقاربة الوظيفية التي وضعها هارولد لازويل لوسائل الإعلام، حين دفع بأنه يقع على عاتقها ثلاث مهام أساسية، هي: أولًا: مراقبة المحيط العام للمجتمع والإبلاغ عن التحديات التي قد تواجهه، ثانيًا: ضمان تقديم استجابات على قدر التحديات التي تمثِّلها تلك المثيرات داخليًّا وخارجيًّا، وثالثًا: ضمان نقل التراث المجتمعي من جيل إلى جيل(37). ويحظى عامل الإبلاغ في المستويات الثلاثة التي سبق ذكرها بدور فاعل؛ إذ لا يمكن الكشف عن المخاطر التي تهدد استقرار المجتمع دون تقفي المخاطر والإبلاغ عنها باستخدام وسائل الاتصال الجماهيري. ولا يمكن القيام بتنسيق الاستجابات المقدمة من مختلف مكونات المجتمع دون الإبلاغ عن طبيعة الردود المتوقعة على مستوى كلي. كما لا يمكن ضمان ديمومة المجتمع بتناقل تراثه من جيل إلى جيل دون المرور بعمليتي الإبلاغ والتبليغ، اللتين تركزان على التنشئة الاجتماعية القائمة على صقل الهوية الجماعية، وتناقل الإرث الثقافي المشترك بين مختلف الأجيال.

إتقان إدارة الحوار (Interview Mastery, Maîtriser la conduite d’interview)

يُقصد بها في معناها الأوسع إحكام إجراء الحوارات أو المقابلات (المقابلات البحثية، مقابلات التوظيف، المقابلات/الحوارات الصحافية…). وتعتبر فنون إدارة الحوار والمقابلات إحدى المهارات الضرورية المطلوبة في مجال العمل الصحافي، وفي مجال توظيف الموارد البشرية، أو في مجال البحث العلمي حين نلجأ في حالات معينة لإجراء مقابلات علمية -خاصة في البحوث الكيفية التي تسعى إلى فهم أعمق لبعض الظواهر المدروسة في مجالي العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية- سواء لدراسة حالات اجتماعية، أو لدراسة حالات نفسية، أو في الدراسات التي تتطلب مقاربات ميدانية إثنولوجية. أما في المجال الإعلامي فيقصد بها المقابلات والحوارات الإعلامية (صحافية، تليفزيونية، أو إذاعية)، والتي يعادلها في اللغة الإنجليزية مفهوم (Press Interview Mastery) وفي اللغة الفرنسية مفهوم (Maîtriser l’interview de presse). وتقتضي من القائمين عليها في الحالات الثلاث: أولًا: انتهاج بعض الخطوات التحضيرية القبلية التي لا يمكن الاستغناء عنها، ثم ثانيًا: الالتزام ببعض المتطلبات المهنية والنفسية خلال المقابلة.

وفيما يخص الخطوات التحضيرية القبلية، فيقصد بها القيام بالأبحاث الكافية والمعمَّقة عن موضوع المقابلة، خاصة إذا ما كانت نقطة التركيز تقع على الموضوع بحد ذاته. غير أن التحضير لموضوع المقابلة العلمية يختلف عن التحضير لموضوع المقابلة الصحافية في كون الأول يتطلب استحضار معارف سيكولوجية وسوسيولوجية معمقة، بالإضافة إلى معارف منهجية تتعلق بمهارات طرح أسئلة يتمخض عنها الحصول على ردود قابلة للتصنيف ضمن أنماط ومحاور تحمل دلالات علمية بالنسبة للباحث. أما في مجال الإعلام، فقد تستدعي المقابلات والحوارات الصحافية -زيادة عن البحث في الموضوع نفسه- التركيز على الشخصية التي تجري محاورتها لشخصها ولمواقفها، خاصة إذا ما كان الهدف من اللقاء هو الشخص الذي يُجرى معه الحوار. وعادة ما تُجرى المقابلات أو الحوارات إما للحصول على معلومات حول موضوع ما، أو للتعرف على جوانب شخصية من حياة ضيف ما، أو للتعرف على رأي ضيف ما حول قضية ما أو حول قضايا مهمة. ويُعد التحضير الجيد للمقابلة الصحافية أمرًا ضروريًّا في الأنواع الثلاثة؛ إذ لا يمكن للصحافي فهم ردود الشخص المستجوَب، ولا فهم سياقاتها المتغيرة -إن وُجدت- دون أن يكون على اطلاع معمق بالموضوع الذي يحاور ضيفه حوله. كما قد يحول غياب التحضير الجيد والثقافة العامة الواسعة دون إمكانية ارتجال أسئلة متابعة أو أسئلة توضيحية، خاصة عندما لا يكون الصحافي على دراية كافية بالموضوع الذي يحاور فيه ضيفه وبأدق التفاصيل، أو حين لا يكون على معرفة كافية بآراء الضيف ولا بماضيه، ولا بعلاقاته، ولا بتوجهاته الأيديولوجية، ولا بخياراته، أو إن لم يكن على دراية بتطور وتغير مواقفه على مرِّ السنين. كما قد ينجر عن قلة معرفة الصحافي بموضوع المقابلة، أو بشخصية الضيف المستجوَب، عدم قدرته على صياغة أسئلة معمقة تحقق الغرض الذي أراد إجراء المقابلة من أجله، فيكتفي حينئذ بطرح أسئلة سطحية قد تنقص من قيمة المقابلة، أو تنقص حتى من سمعة الصحافي نفسه.

ومن شروط نجاح المقابلة خلال وقت إجرائها هو أن يُحكِم الصحافي إدارته للحوار، وذلك عبر الحرص على أن يكون هو من يحدد اتجاه المقابلة، وألا يترك زمام المبادرة والهيمنة للضيف، إلا إذا كان ذلك متعمدًا لغرض يريده الصحافي. وكلما حضَّر الصحافي للمقابلة تحضيرًا جيدًا، تمكن من فرض احترام الضيف له، وفرض التعامل مع أسئلته بحرص وعمق وجدية، خاصة حين يكون الشخص الذي يجري معه الحوار شخصية مهمة. أما فيما يخص المتطلبات النفسية والمهنية التي تجب مراعاتها خلال المقابلة، فيتعلق الأمر بضرورة التحلي بالهدوء مع الضيف، وتجنب التوتر مهما كان المنحى الذي يأخذه الحوار، ثم الابتعاد عن الاستفزاز غير المُؤَسَّس على مبررات مقبولة ضمن سياق الحوار، ومعاملة الضيف بما يتوجب من احترام لشخصه ولمركزه، مع الابتعاد عن أي شكل من أشكال التعصب أو الإهانة أو القذف. كما لا يُسمح باستغلال المقابلات لتصفية حسابات شخصية مع الضيف أو أفكاره، ولا لتصفية حسابات بالوكالة عن أطراف أخرى معه، باعتبار أن الصحافي لا ينبغي أن يكون ولاؤه سوى للجمهور الذي يكون ناطقًا بلسانه خلال المقابلة. وما يقصد بالهدوء هنا، هو ذلك الذي يرتبط بالشكل لا بالمضمون، فلا يجب أن يقود الهدوء الصحافي إلى الوقوع في شراك السلبية وتقبل الردود غير المنطقية، أو المتناقضة، أو تلك التي تتهرب من جوهر الموضوع، دون حرص الصحافي على مجادلة الضيف فيها بالحجج، ودون طرح أسئلة متابعة مصوغة بطرق مختلفة، أو دون مواجهة الضيف بتصريحات سابقة قالها مثلًا، أو بحقائق وردت من مصادر أخرى مؤكدة، أو اطلع عليها في وثائق رسمية منشورة. كما تقتضي الإدارة الحسنة للحوار كذلك الإلمام بمختلف أنواع الأسئلة وبسياقات وفنون استخدام كل نوع منها بحسب المقتضيات، بين السؤال المفتوح، والسؤال المغلق، والسؤال الموجه، وسؤال الاستدراج…إلخ، مع الحرص على وضع المتحدث في أحسن الظروف النفسية وجعله يتحدث من موقع ثقة، لضمان استرساله في الحديث، بما يمكِّن الصحافي من استخلاص أحسن الردود والمعلومات منه.

إثارة (Agitation, Agitation)

كلمة إثارة هي مصدر الفعل “أثار” الذي يختلف معناه بحسب سياقاته، فقد يقترب من كلمة أهاج الشيء، أو أيقظ الشيء، أو حرَّك الشيء، كأن نقوم بإثارة شخص ما بتهييج المشاعر فيه (غضب، حب، غرائز …). وقد يقترب معناه من تسليط الضوء على شيء (إثارة موضوع ما للنقاش)، أو لمعنى التحريض على الشيء (الدعوة للثورة أو للعصيان…). كما قد تعني الكلمة جعل الشيء ينتشر أو يتطاير (الدخان)، أو تحريك الشيء والبعث عليه (العطش)، أو تحريك عواطف أو غرائز (أغضب، هيَّج)(38). ويعني مفهوم “إثارة” في مجالي الإعلام والعلوم السياسية إحداث حالة من الغيظ، أو المضايقة، أو الدفع إلى العنف(39). ويعادل هذه الكلمة العربية في القاموسين، الإنجليزي والفرنسي، كلمة (Agitation)، وهي كلمة مستلهمة من أصلها اللاتيني (Agitatio) التي يعني فعلها (Agere) تحريك الشيء وجعله يتقدم(40).

وأخذ هذا المفهوم في العلوم السياسية معنى التعبير بالقول أو بالكتابة عن مظالم الطبقات والجماعات، ومحاولة إثارة تبرُّمها وقلقها، حتى تثور على أوضاعها إلى أن تتغير هذه الأوضاع(41). كما تعني كذلك حركات الرأي العام أو حركات المجموعات التي تهدف إلى التعبير عن المعارضة للنظام السياسي عمومًا، أو تلك التي تأتي ردَّةَ فعل على قرارات اتُّخذت حديثًا. وقد تحدث تلك الأفعال إما تلقائيًّا ضمن أماكن جغرافية محدودة، أو تتم بإيعاز من محرِّكين يقودونها، أو تتم بإيعاز من بعض المجموعات الصغيرة، أو تتم بتدبير من حزب سياسي ضمن نطاق أوسع(42). وتشكَّل من مفهوم (Agitation) مفهوم آخر هو (Agit-prop) الذي يمكن ترجمته بمفهوم “الإثارة بالدعاية”، وهي كلمة جمعت بين بداية كلمة (Agitation) وبداية كلمة (Propaganda) للدلالة على معنى التحريض الدعائي بمفهومه الشيوعي الذي نظَّر له كارل ماركس (Karl Marx). وكان يُقصد بمفهوم “الأجيت-بروب” خلال الحقبة السوفيتية تسخير الفن، خاصة في أشكاله الشعبية، ليصبح فنًّا ملتزمًا، يخدم قضايا المجتمع ويحقق تطلعاته من منظور المشروع الشيوعي. وقد وظَّف الاتحاد السوفيتي منذ 1919 “الأجيت-بروب” عبر تأميم المسارح لِيُخرِج الفن المسرحي من أداة ترفيه برجوازية إلى أداة لتنشئة الجماهير على الفكر الماركسي.

وقد تم لذلك الغرض إنشاء شبكة كبيرة من الفرق المسرحية ممولة من طرف الدولة سعيًا من النخبة الشيوعية لتوسيع نطاق مسرح الهواة، ومسرح الأطفال، وأُنشئِت أيضًا هياكل تدريبية للفنانين وفنيي المسرح وللعاملين فيه(43). وتوسَّع ذلك العمل لاحقًا ليشمل مختلف وسائل التعبير الفنية الأخرى، ومختلف مناسبات التعبير الجماهيرية أيضًا (تجمعات، ندوات، مظاهرات …)، بالإضافة إلى وسائل الإعلام الجماهيرية، بدءًا من المنشورات الدعائية، والكتب والمجلات، وصولًا إلى الصحف، والإذاعة، والسينما، والتليفزيون، وغيرها من الوسائط الأخرى. وأخذ مفهوم “إثارة” في مجال الإعلام معنى استخدام رسائل إعلامية بهدف إقناع المتلقي وتحريكه في إطار حملات إعلامية أو دعائية تسعى للتأثير على عموم الجماهير لجعلهم يتبنون وجهات نظر معينة تخص قضايا، أو مواضيع، أو توجهات محددة. وارتبط هذا المفهوم في الإعلام بمفهوم “صحافة الإثارة”، لكن بمعنى إثارة العواطف والغرائز، والتي تشمل مختلف أنواع الصحافة الصفراء، أو ما يُسمَّى في اللغة الإنجليزية (Gutter Press)، وفي الفضاء الإعلامي الفرنسي “صحافة الإثارة” (Press à sensation) (انظر مفهوم الإثارة الإعلامية).

الإثارة الإعلامية (Media Sensationalism, Sensationalism Médiatique)

مفهوم يحيل إلى انتهاج بعض وسائل الإعلام (خاصة ما يُسمَّى منها بالصحافة الصفراء) خطًّا تحريريًّا متحررًا من المسؤولية الاجتماعية ومن الضوابط والأخلاقيات المهنية؛ إذ يقوم على إثارة المشاعر الإنسانية لاستثارة سلوك شراء أو متابعة الوسيلة الإعلامية الفاعلة. وقد ارتبط هذا المفهوم في بدايته بنوعية خاصة من الصحف، تعتمد أساسًا على نشر الأسباق الصحافية، أو حتى على فَبْرَكَتِها إن اقتضت شعبية وأرباح الصحيفة ذلك. وتتخذ تلك الصحف من الإثارة، وفَبْرَكَة الحقائق، وتضخيم الأحداث، والمبالغة في التخويف، أساسًا لتوسيع رقعة انتشارها، وللزيادة في نسبة مبيعاتها، لغرض نهائي وحيد، يتمثَّل في زيادة استقطاب المعلنين للترويج لسلعهم في صفحاتها.

وقد حدَّد فرانك لوتر موت (Frank Luther Mott) خمس خصائص تميز صحافة الإثارة(44)، وهي: أولًا: التخويف. ثانيًا: العناوين الفخمة المكتوبة بالخط العريض، غالبًا حول أخبار عادية، مع استخدام الصور أو الرسومات الخيالية. ثالثًا: استخدام مقابلات مزيفة، وعناوين مُضَلِّلَة، وحقائق علمية زائفة، مدعومة بمعارف زائفة مقدمة من أشباه علماء. رابعًا: التركيز على ملاحق ملونة يوم الأحد، مع إرفاقها برسومات هزلية. خامسًا: تعاطف درامي مع “المستضعف” ضد النظام. ويُعتبر وليام هيرست (William Hearst)، الذي كان واحدًا من أباطرة الإعلام الأميركيين خلال الفترة الممتدة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الأب الروحي للإثارة الإعلامية(45)، وقد استلهمت منه مختلف الصحف الصفراء لاحقًا النمط الذي أدخله وتبنَّاه.

وكانت إستراتيجية هيرست تعتمد على شراء الصحف التي تعاني من قلة الأرباح أو من ثقل ديونها، ليُحوِّلها في ظرف سنة أو سنتين إلى صحف مربحة. وكان نهجه في ذلك هو تغيير الخط التحريري لتلك الجرائد، وجعلها تعتمد على عامل الإثارة لجذب القراء إليها، خاصة عبر استخدامه لعناوين المانشيت المثيرة، ثم لجوئه لاحقًا للصور الملونة، التي وظَّفها بقوة عاملًا من عوامل الجذب القائم على تهييج الغرائز. كما اعتمد هيرست على جذب كبار الأقلام الصحافية آنذاك للعمل في صحفه، خاصة في خضم المنافسة الشرسة التي احتدمت بين جريدته في نيويورك مع الصحيفة التي كان يشرف عليها جوزيف بوليتزر (Joseph Pulitzer) في نفس المدينة، علمًا بأن بوليتزر كان معروفًا بالتزامه بخط تحريري جاد ومسؤول، يختلف تمامًا عن الخط التحريري الذي تبنَّاه هيرست. ونجح هيرست، في تلك الفترة، في استقطاب كل من ستيفن كرين (Stephen Crane) وجوليان هاوثورن (Julian Hawthorne) إلى صحيفته، كما نجح أيضًا في جذب أحد أفضل الصحافيين المتعاونين مع جوزيف بوليتزر في جريدة “نيويورك وورلد” (The New York World)، وهو الرسام الذي كان مشهورًا آنذاك، ريتشارد أوتكوولت (Richard Outcault)، مُؤَلِّف القصص المرسومة الهزلية “أزقة هوجان” (Hogan’s Alley)، التي بدأت في الصدور في “نيويورك وورلد” منذ 1895، وهي صحيفة كان يملكها جوزيف بوليتزر(46).

وكانت الشخصية الأساسية في تلك القصص عبارة عن صبي، أطلق عليه الناس اسم الصبي الأصفر (The Yellow Kid)، لأنه كان يُرسم دائمًا باللون الأصفر. وقد لاقت تلك القصص المرسومة نجاحًا كبيرًا في المجتمع الأميركي آنذاك، لأنها كانت تتناول بشكل هزلي طريقة تعامل المجتمع الأميركي مع المهاجرين الإيرلنديين، وتعالج في ذات القصص وبشكل عرضي مختلف القضايا التي كانت تهمُّ الشرائح الشعبية الفقيرة في أميركا، علمًا بأن تلك الشرائح كانت تشكِّل النواة الأساسية لجمهور تلك الصحيفة التي كان من الميسور عليهم شراؤها بسبب سعرها المتدني. وبالنظر لشعبية تلك الرسومات وشخصية الصبي الأصفر، أصبح الناس يلقبون الصحيفة التي كانت تُنشَر فيها تلك القصص المصورة بصحيفة “الصبي الأصفر”، ثم درجوا على تسمية الملحقات التي كانت تنشر فيها بالجريدة الصفراء. ومنذ تلك الفترة بات يُطلق على الصحافة التي تنتهج نهج الإثارة والتضخيم الإعلامي اسم “الصحافة الصفراء”، خاصة ما عُرف منها باسم صحف الأحجام المصغرة (Tabloid) التي كانت تُنشَر بمقاس (41×29 سم)، أو ما يُسمَّى بصحافة المشاهير (Press People)، والتي بات الكثير منها يعتمد لاحقًا على صور المشاهير والشخصيات العامة التي يحصل عليها المصورون “الباباراتزي” (Papparazzi)، المتخصصون في تصوير المشاهير خلسة، ليبيعوا الصور الملتقطة لصحف الإثارة أساسًا. وسرعان ما انتشر ذلك النوع من الصحف في بعض الدول الأوروبية، حتى أصبح جزءًا أساسيًّا من مشهدها الصحافي، خاصة في دول مثل بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الصحف هو الذي أدى بشكل غير مباشر إلى ظهور “نداء صحافة المسؤولية الاجتماعية” في الولايات المتحدة الأميركية، بعد التقرير الذي أصدرته لجنة حرية الصحافة، برئاسة روبرت هاتشينز (Robert Hutchins)، في سنة 1947، بعنوان “الصحافة الحرة والمسؤولة”، والذي حثَّ فيه الصحافة على أن تكون “مسؤولة اجتماعيًّا”. وقد صدر ذلك التقرير بعدما تعاظمت الانتقادات التي وُجِّهت للصحافة الصفراء في أميركا، وبعد أن تزايدت التهم الموجهة لمالكيها ولهيئات تحريرها باستخدام الحرية التي يصونها لهم الدستور الأميركي بموجب التعديل الأول، في كسب المال بدلًا من استخدامها لأداء دورها الحيوي مصدرًا مستقلًّا للمعلومات في دولة ديمقراطية(47). غير أن مفهوم الإثارة الإعلامية لم يبق منحصرًا في الصحافة المطبوعة فقط، بل اتسع نطاقه مع مرور الوقت ليشمل مجالات الإذاعة، والتليفزيون، والسينما. فقد ظهرت للوجود أنواع جديدة من البرامج والأفلام التي تعتمد على عناصر الإثارة، والتهييج الغرائزي، والتقمص الوجداني لشد انتباه الجماهير إليها، خاصة عبر ما سُمِّي ببرامج الواقع (Reality Show).

وسيرًا على النهج الذي رسمته صحافة الإثارة، لجأ الكثير من القنوات التليفزيونية في الولايات المتحدة الأميركية لخلق الإثارة عبر قيامها بتغطيات حية لمطاردات الشرطة للمجرمين والمخالفين باستخدام طائرات هليكوبتر، ومصورين تدربوا خصيصًا على تصوير تدخُّلات ومطاردات الشرطة من داخل تلك الطائرات، بغرض تحقيق السبق وشد انتباه الجماهير لتلك القنوات. وقد بات لذلك النوع من البرامج جمهوره الذي لا يقل في أهميته عن جماهير الصحافة الصفراء خلال فترة ذروتها. كما انتقلت الإثارة في زمن الويب 2 إلى صحافة المواطن التي بات الناس يمارسونها في الشبكة العنكبوتية دون مراعاة للأطر المهنية السليمة، وذلك منذ أن أصبحت نسب الإعجاب والمشاهدات مرادفة لمداخيل إعلانية، ما جعل اللجوء لابتكار استخدام أساليب متغيرة من الإثارة أولوية قصوى للقائمين على أغلب تلك المواقع. وقد انتقد تقرير لمنظمة اليونسكو الخطورة التي أصبح يشكِّلها التضليل الإعلامي على الإنترنت، بسبب أن التكنولوجيا الجديدة، القوية بطبيعتها، باتت تجعل من السهل جدًّا على أيٍّ كان التلاعب بالمحتوى وتصنيعه، كما باتت للشبكات الاجتماعية قدرة على تضخيم الأكاذيب التي يُروِّج لها الأشخاص، أو الدول، أو الساسة الشعبويون، أو الكيانات غير النزيهة، ليقع ضحيتها جماهير غير ناقدة(48)، تتشاركها عن وعي أو دونه فيما بينها.

إثارة الاهتمام (Spark Interest, Susciter l’intérêt)

وهي القدرة على جعل الطرف المتلقي يركز اهتمامه على شيء ما، أو على موضوع ما، أو على ظاهرة ما، أو على قضية ما، أو على أبعاد جديدة من كل ما سبق ذكره. ويقابل هذا المفهوم في اللغة الإنجليزية تعبير (Spark Interest)، أما في اللغة الفرنسية فيقابله تعبير (Susciter l’intérêt). ويرتبط هذا المفهوم بعلم النفس التربوي لارتباط معنى كلمة “اهتمام” (Interest) باللغة الإنجليزية و(Intérêts) باللغة الفرنسية بذلك المجال. فكلمة “اهتمام” تحيل في علم النفس على المجال الذي يهتم بدوافع الفعل (Motive)(49)، أما في مجال العلوم التربوية فتحيل الكلمة على عنصر الدافعية للتعلُّم لدى التلاميذ، باعتبار أن الاهتمام هو حالة نفسية مطلوبة إزاء أي شيء، أو أي موضوع مطلوب فهمه، وباعتباره أيضًا عملية تحفيزية قوية تنشط التعلُّم(50).

ويرتبط مفهوم “إثارة الاهتمام” في مجال الإعلام، بقدرة وسائل الإعلام على تسليط الضوء على قضايا بعينها دون أخرى، من خلال آليات إعلامية وأخرى دعائية متنوعة. ونذكر من بين أهم الآليات الإعلامية ما يلي: أولًا: “حراسة البوابة” (Gate Keeping)، التي يقوم بموجبها المحررون، أو مديرو التحرير، أو رؤساء التحرير، باختيار المعلومات التي يرون أنها جديرة بأن تُعرَف من خلال وسائل الإعلام دون غيرها، فتتم إثارة الاهتمام حولها لتحويل الأنظار عن غيرها. ثانيًا: آلية تحديد الأولويات (Agenda setting)، التي بموجبها يقوم القائمون على وسائل الإعلام بترتيب أجندة المواضيع التي تغطيها وسائل الإعلام لإثارة الاهتمام حول بعضها دون غيرها، ثم ثالثًا: آلية التأطير (Framing)، التي من خلالها يتم تحويل اهتمام المتلقي إلى زوايا بعينها من المواضيع الإعلامية دون غيرها، لتشتيت الانتباه عن الزوايا الرئيسية فيها. أما فيما يخص الآليات الدعائية المعتمدة في إثارة الاهتمام، فنذكر منها الإعادة والتكرار، والكثافة في تناول الموضوع ذاته باستخدام وسائل إعلامية متنوعة، ثم ربط التوجه الذي يُثار الاهتمام حوله بآراء يقدِّمها خبراء ومختصون، مع ربط المواضيع بأبعاد درامية، تدفع الناس للشعور بخطورة مفترضة للموضوع، أو للقضايا التي يتم تناولها.

إثارة القضايا (Raise Issues, Soulever des questions)

تعني القدرة على تسليط الضوء على قضايا بعينها، قد تكون جديدة أو قديمة، أكان ذلك في حالات الاتصال بين الأشخاص أو في حالات الاتصال الجماهيري. ويقابلها في اللغة الإنجليزية تعبير (Raise issues)، وفي اللغة الفرنسية تعبير (Soulever des questions). وتتطلب إثارة القضايا معرفة معمَّقة بالمسائل المرتبطة بها (تاريخها، وأسبابها، وأطرافها، ومساراتها وتوجهاتها السابقة، واحتماليات تطوراتها المستقبلية). وتقتضي إثارة القضايا في حالات الاتصال ما بين الأشخاص قدرة خطابية، وقدرة على المحاججة أيضًا، بما يسمح لحامل القضية بطرحها والدفاع عن توجهاته إزاءها. أما على نطاق المجتمعات، فعادة ما يتم طرح القضايا من خلال محتويات وسائل الإعلام الجماهيرية، إما لتوعية الناس بوجودها، أو لخلق نقاش حولها داخل المجتمع، أو بهدف تسليط الضوء عليها لاستصدار مواقف فردية، وجماعية تجاهها (شجب سلوك اجتماعي في قضية معينة، سن قانون جديد يحمي الضحايا، تهييج الرأي العام حول قضايا بعينها، خدمة لجهات لها مصلحة في ذلك …). وعادة ما يأتي النوع الأخير ضمن حملات إعلامية مدروسة، قد تتكرر بين فترات محددة، بغرض اختراق عقول المتلقين بوجاهة تبنِّي الطرح الذي يحمله القائمون على إثارة تلك القضايا.

وقد تتنوع المواضيع المثارة بين تلك التي تخص السياسة الدولية (إعادة طرح قضايا حقوق الإنسان ضد بلد بعينه في توقيت بعينه)، أو القضايا التي تخص السياسة الداخلية (طرح/إعادة إحياء قضايا فساد سياسي ضد شخصية سياسية قبيل الانتخابات)، أو طرح/إحياء قضايا اجتماعية ذات خلفية سياسية (طرح قضايا حجاب المسلمات قبيل الانتخابات في بعض البلدان الغربية)، أو طرح/إعادة طرح قضايا اجتماعية محضة (طرح قضية عمل الأطفال)، أو طرح/إعادة إحياء قضايا تاريخية (دور المصنِّعين في الجهد الحربي النازي في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية) وغيرها من القضايا الأخرى.

إثارة البلبلة (Stir up Disorder, Susciter le désordre)

البلبلة هي مصدر الفعل “بَلْبَلَ” الذي يعني أوقع الناس في الفتنة، وفرَّق آراءهم وهيَّج بعضهم على بعض، أو أحدث في صفوفهم الارتباك والتشويش والفوضى(51). أما كلمة “بلبلة” فتعني أصوات الناس المختلطة وهم في حالة من الاضطراب(52). ويقابل هذه الكلمة مفهوما (Chaos) أو (Disorder) في اللغة الإنجليزية، وكلمة (Désordre) أو كلمة (Confusion) في اللغة الفرنسية. ويعني هذا التعبير في العلوم السياسية وفي الإعلام إحداث الفوضى السياسية والاضطراب داخل قُطر من الأقطار، وذلك إما بفعل فاعلين داخليين، أو بفعل عملاء محرِّضين لجهات تستهدف ذلك القطر، أو بفعل تأثير وسائل الإعلام -داخلية كانت أم خارجية- في إطار حملات دعائية تستهدف ذلك القطر، أو بفعل جميع الفاعلين والعوامل التي سبق ذكرها جنبًا إلى جنب.

إثارة الرأي العام (Stir up Public Opinion, Agiter l’opinion publique)

يُعرَّف الرأي العام بأنه مجموع الآراء الفردية المتقاربة حول موضوع يخص المصلحة العامة، تُعبِّر عنها شريحة كبيرة من المجموعة الوطنية في وقت من الأوقات(53). وتعني إثارة الرأي العام في العلوم السياسية قدرة جماعة سياسية معينة، أو حزب سياسي معين، على تهييج الأفراد الذين يشكِّلون الجماعة الوطنية حول قضايا أو مواضيع أو سياسات عامة، بغرض دفعهم لاتخاذ مواقف معارضة لها، قد تتوقف عند حدود تكوين الرأي الفردي إزاءها، أو قد تصل إلى حد الانخراط في النضال الجماعي ضدها، أو إلى حد التظاهر ضدها، أو إلى حد الثورة الجماعية ضدها.

أما في مجال الإعلام فيعني هذا المفهوم قدرة وسائل الإعلام على تهييج المتلقين عبر حملات إعلامية أو دعائية بهدف جعلهم يتخذون موقفًا معاديًا، أو مساندًا لسياسات معينة أو لقضايا معينة، يُثار النقاش حولها أو تطرح في وقت من الأوقات داخل المجتمع. وتشكِّل إثارة الرأي أداة أساسية من الأدوات التي يتم العمل على توظيفها في العمل الدعائي الذي تقوم به الدول المتصارعة ضد بعضها البعض، أكان ذلك في أوقات الحروب الباردة، أو في أوقات الحروب الساخنة.

إثارة هدامة (Subversive Excitement, Excitation Subversive)

تُعد شكلًا من أشكال التهييج الذي يستهدف الرأي العام في قطر بعينه، ويتميز بكونه غير بنَّاء في طبيعته، وسلبيًّا في اتجاهاته وغاياته، لأنه لا يطرح تصورًا بديلًا للقضايا أو للوضع أو للنظام التي يتم تهييج الناس ضده، وبالتالي قد ينتج عنه حالة من البلبلة التي تسبب الفوضى السياسية و/أو الاجتماعية. ولا تقتصر الإثارة الهدامة بالضرورة على المجال السياسي فقط؛ إذ تشمل أيضًا منظومة القيم التي تقوم عليها الجماعة الوطنية بغرض ضرب تماسكها وتوازنها، في سبيل تحقيق غاية مرحلية من ذلك، تتمثَّل في خلق التصدعات التي يمكن التأسيس عليها لاحقًا لضرب استقرار الجماعة الوطنية المستهدفة.

وتتم الإثارة الهدامة إما بفعل عمل داخلي، يكون مصدره الأفراد والجماعات التي تنشط في المجال السياسي (جماعات سياسية، أحزاب، نشطاء، معارضون، عملاء…إلخ) أو بفعل عمل خارجي تُوظَّف فيه مختلف وسائل الإعلام، وفنون الدعاية المتاحة، لتحقيق التأثير المرغوب فيه.

إثبات (Proving, Prouver)

هو مصدر الفعل “أثبت” الذي يعني إقامة الدليل أو البرهان على أمر، أو تأكيده بالبيِّنة والحجة. ويستخدم هذا المفهوم في القانون بمعنى إقامة الدليل بالطرق التي حدَّدتها النصوص القانونية لتبيان وجود واقعة قانونية ترتبت آثارها(55)، ويعادله في اللغة الإنجليزية كلمة (Proving) وفي اللغة الفرنسية كلمة (Prouver). كما يُستخدَم هذا المفهوم في مجال البحوث الأكاديمية عندما يتحدث الباحثون عن إثبات وجود علاقة بين متغيرات الفرضيات (Confirmation)، أو عن انتفاء تلك العلاقة (Disconfirmation).

أما في مجال الإعلام فقد دخل هذا المفهوم في الأدبيات العربية نقيضًا لمفهوم “إبطال”، ويعادله في اللغة الإنجليزية تعبير (To Invalidate by subsitution)، وفي اللغة الفرنسية تعبير (Invalider par substitution)، وهو ما يعني نفي صحة موضوع بنقيضه أو ببديل عنه، أو نفي الطرح الذي كان مقدمًا به في وسائل الإعلام بإثبات (Validation) طرح آخر مرتبط به. ويدفع بعض الباحثين في مجال الإعلام بأن قوة وسائل الإعلام الجماهيرية، وبشكل خاص وسائل الإعلام الإلكترونية، لا تستمد قوتها فقط من قوة كلماتها، أو من صورها، أو من قوة مؤثراتها الخاصة، وإنما تستمدها من قدرتها على توظيف الجدليات الثنائية، كجدلية الإثبات والإبطال (Validation/Invalidation)، وجدلية الإظهار والإخفاء، اللتين يعادلهما في اللغة الإنجليزية (Disclose/ Dissimulate)، وفي اللغة الفرنسية (Montrer/Dissimuler)، كمطلب من مطالب تحقيق الضبط الاجتماعي والتحكُّم في الرأي العام، وذلك لتسهيل ممارسة السلطة وحكم الشعوب من طرف القائمين على الحكومات والدول(56). ويفترض أصحاب هذه الفرضية أن كلَّ حالة إثبات هي في الوقت ذاته حالة إبطال، وكلَّ حالة إبطال هي في الوقت ذاته حالة إثبات، بمبرر أن كلَّ ما يقع إبطاله، بأي شكل من الأشكال، يحلُّ محلَّه إثبات جديد، ويتم ذلك عبر إظهار وجه من أوجه الواقع المركَّب، الذي يكون قد بقي خفيًّا، أو لم يتم تسليط الضوء عليه سابقًا(51).

إثنوغرافيا (Ethnography, Ethnographie)

يعود أصل هذا المفهوم إلى كلمة إغريقية مركَّبة من شقين (Ethnos) التي تعني “شعب”(58) وتحيل دلالتها إلى دراسة الجماعات البشرية بمعناها الواسع، أي الذي يمتد من الأسرة إلى القبيلة إلى الشعوب، وكلمة (Graphie) التي تعني الكتابة أو التدوين بالرسم(59)، وهو ما يعطي المعنى الحرفي الدال على “الكتابة حول الجماعات البشرية”، بينما يقترب المعنى الدلالي غير الحرفي من معنى “الجرد الوصفي للجماعات البشرية”. وتركز الإثنوغرافيا على دراسة التجليات المادية للجماعات البشرية (مجتمع، مؤسسة، جماعة إثنية…)، باستخدام مقاربة مونوغرافية (أي تغطية كافة جوانب موضوع ما بالدراسة، دون ترك أي جانب من جوانبه)، وبتوظيف أداة من الأدوات الخاصة بها، كالملاحظة بالمشاركة، وتقييم بيئة الجماعة، والمقابلة الإثنوغرافية شبه المنظمة، والاستكشاف الثقافي…إلخ. وتسمح هذه الأدوات المنهجية، منفصلة أو بإشراكها مع بعضها البعض، بالقيام بعملية جرد وصفي لأنشطة تلك الجماعات، بالتركيز مثلًا على وصف أدوات الإنتاج المستخدمة بهدف تكيُّف الجماعة مع الطبيعة، أو بهدف تلبية احتياجاتها المعيشية، أو بالتركيز على وصف الأنظمة الاجتماعية التي تقوم عليها تلك الجماعة، أو بوصف عاداتها وتقاليدها، أو معتقداتها، أو طرق استخدام وتوارث استخدام وسائل الإنتاج المخترعة من طرف الجماعة المدروسة، أو على وصف طرق استغلال الجماعة للموارد الطبيعية، أو طرق فلاحة الأرض، أو على وصف بنية روابط القرابة داخل تلك الجماعات، أو الاهتمام بوصف كل تلك التجليات المذكورة سابقًا مع بعض.

ويعتقد أن مصطلح إثنوغرافيا استخدم لأول مرة في ألمانيا سنة 1791، في منشور صدر في نورمبرغ بعنوان “معرض الصور الإثنوغرافية” (Ethnographische Bildergallerie)(60). أما في اللغة الأكاديمية، فيعتقد أن أول من استخدم هذا المفهوم، بمعناه الذي نعرفه حاليًّا، هو المؤرخ الألماني بارتولد جورج نيبور (Barthold Georg Niebuhr)، في عام 1810، ضمن مقرراته الدراسية التي كان يُقدِّمها في جامعة برلين، والتي نُشرت عام 1811 تحت عنوان التاريخ الروماني (Römische Geschichte)(61). ومرَّ مفهوم إثنوغرافيا بمراحل عديدة قبل أن يصل لاستخدامه بالمفهوم الذي نعرفه حديثًا؛ إذ عادة ما كان يستخدم بشكل متداخل بينه وبين مفاهيم قريبة منه كالإثنولوجيا والأنثروبولوجيا، وعلم التاريخ. بل هناك من ذهب لاعتبار الإثنوغرافيا علمًا بيولوجيًّا، على غرار فان كينيب (Van Gennep) الذي دفع بأن الإثنوغرافيا هي جزء من العلوم الطبيعية، لأنها تدرس الحقائق الحية في بيئتها مثل الجيولوجيا وعلم النبات، ولأن الإنسان الذي يشكِّل موضوعها هو جزء من الطبيعة(62). غير أنه ينبغي التوضيح بأن الإثنوغرافيا هي فرع من فروع علم الإثنولوجيا، من منطلق أنها تشكِّل الأداة التوصيفية التي تقوم عليها الإثنولوجيا في دراساتها، وباعتبار أن الإثنوغرافيا تهتم بالدراسة الوصفية للجماعات البشرية، ولخصائصها الأنثروبولوجية(63). وقد حاول العديد من المختصين تحديد مجال الإثنوغرافيا بشكل دقيق على غرار كلود ليفي ستراوس (Claude Lévi-Strauss) الذي عرَّف الإثنوغرافيا بأنها ملاحظة وتحليل المجموعات البشرية ضمن الخصوصيات التي تميِّزها، بهدف وصف حياة كل واحد منهم بأوفى طريقة ممكنة، بينما يقوم علم الأعراق البشرية، أي الإثنولوجيا، بالاستخدام المقارن للوثائق التي توفرها لها الإثنوغرافيا(64).

من جهته، حرص ألفريد رادكليف-براون (Alfred Radcliffe-Brown) على التمييز بين الإثنوغرافيا وعلم التاريخ، بقوله: إن مصطلح الإثنوغرافيا ينطبق على وجه التحديد على ما هو قائم على نمط من البحث الإيديوغرافي (أي الذي يقوم على دراسة الرموز غير المنطوقة)، والذي يكون الهدف منه وصف الشعوب وحياتهم الاجتماعية بطريقة مقبولة، منوهًا إلى أن الإثنوغرافيا تختلف عن التاريخ في كون الإثنوغرافي يستمد معارفه، أو أغلبها، من الملاحظة المباشرة، ومن التواصل مع الأشخاص الذين يكتب عنهم، وهو في ذلك ليس كالمؤرخ، الذي يستمد معارفه من مصادر مكتوبة(65). وعرفت الإثنوغرافيا الحديثة توسعًا وتطورًا كبيرين خاصة في أوروبا وأميركا الشمالية. ففي فرنسا تطورت بفضل إسهامات فريديريك لوبلاي (Frederic Le Play)، ثم بفضل إسهامات أتباع مدرسته لاحقًا، بالإضافة إلى إسهامات مارسيل ماوس (Marcel Mauss). وفي كندا انتشر استخدامها بفضل إسهامات ليون جيران (Léon Guerin). أما في الولايات المتحدة الأميركية فقد تطورت الإثنوغرافيا من خلال إسهامات أتباع مدرسة شيكاغو، الذين وظَّفوا الإثنوغرافيا في دراسة المدن والأحياء الحضرية، ثم عبر إسهامات برونيسلاف مالينوفسكي (Bronislaw Malinowski) الذي أدخل عليها المقاربة الوظيفية في التحليل الثقافي للشعوب، بالإضافة إلى أداة الملاحظة بالمشاركة في دراسة الإثنيات التي اختلط بها، ثم عبر إسهامات كليفورد غيرتز (Clifford Geertz) لاحقًا، والذي أدخل منهج القراءة المكثفة في التعامل مع الظواهر الإثنوغرافية. أما في بريطانيا، حيث هيمنت الدراسات الثقافية، فقد اعتمدت هذه الأخيرة على الإثنوغرافيا في مقاربتها لدراسة الثقافات الفرعية في المناطق الحضرية (Sub-cultures).

ومع بداية الألفية الجديدة، بدأ بعض الباحثين في مجال علوم الإعلام في الاعتماد على الإثنوغرافيا منهجًا لدراسة الممارسة الصحافية في أشكالها الجديدة، وبشكل خاص، لفهم الكيفية التي يتم بها إدخال التقنيات الجديدة في المؤسسات الإعلامية، ولفهم استخدامها في غرف الأخبار من طرف المحررين. وتزايد الاهتمام بهذا المجال الدراسي منذ الدراسة التي أجراها جون بافليك (John Pavlik)، في سنة 2000، والتي نشرها بعنوان “تأثير التكنولوجيا على الصحافة”(66)، ثم الدراسة التي أجراها كل من كريس باترسون (Chris Paterson) وديفيد دومنغو (David Domingo) في سنة 2008، والتي نُشرت بعنوان “صناعة الأخبار على الإنترنت: إثنوغرافيا الإنتاج لوسائط الإعلام الجديدة”(67)، ثم الدراسة التي أجراها بابلو بوكزوفسكي (Pablo Boczkowski)، في سنة 2010، والتي نشرها بعنوان “إثنوغرافيا غرفة أخبار أرجنتينية على الإنترنت: منطق إنتاج الأخبار الساخنة والأخبار الباردة”(68).

إثنوغرافيا الاتصال (The Ethnography of Communication, Ethnographie de la communication)

هو مجال بحثي يجمع بين الإثنولوجيا، واللغويات والسوسيولوجيا، بدأ في البروز مجالًا بحثيًّا أكاديميًّا في خمسينات وستينات القرن العشرين في البلدان الأنجلوساكسونية(69). ويهتم هذا المجال بدراسة الواقع الاجتماعي والثقافي للحالات الاتصالية داخل الجماعة، مع التركيز على فهم ذلك الواقع ضمن سياق وسيرورة التفاعل القائم بين الحدث الذي يكون موضع اهتمام المتواصلين، واللغة والممارسات الثقافية داخل الجماعات(70). غير أنه، وخلافًا لما ذهب إليه رومان جاكوبسن (Roman Jakobson) وما يركز عليه اللغويون عمومًا، لا تكون اللغة في موضوعات إثنوغرافيا الاتصال سوى عنصرًا ثانويًّا، كما أن المنهجية الأساسية التي يُبنَى عليها البحث في إثنوغرافيا الاتصال لا تكون تلك المستخدمة في اللغويات، بل تلك الخاصة بمجالي الإثنوغرافيا والإثنولوجيا. بمعنى التركيز على جرد ووصف الحالات الاتصالية بتجلياتها اللغوية، من خلال ملاحظة وتحليل المحادثات المستخدمة داخل الجماعات، في حالتها الطبيعية (أي بمعايشتها)، لكن مع ضرورة التركيز على عناصر أساسية في عملية التحليل، وهي: الإطار الذي تتم فيه المحادثات، والأشخاص المشاركون فيها، ومعايير التفاعل بين الأشخاص، والغايات المقصودة من التبادلات والمحادثات.

وتقوم إثنوغرافيا الاتصال على فرضية أنه لا يجب النظر للاتصال باعتباره تبادلًا أو إرسالًا لرسائل منفصلة وغير متصلة، لأن الاتصال هو في واقع الحال تدفق غير منقطع للمعلومات. وعليه، فإن حالات الاتصال هي التي يجب أن يستمد منها الباحث الإطار المرجعي لتحليل دور اللغة في مجتمع ما وفي ثقافة ما، وليست اللغات(71). ويرتبط سياق بروز إثنوغرافيا الاتصال بالتحول الذي عاشته السوسيولوجيا في ستينات وسبعينات القرن العشرين، حين بدأ اهتمام بعض المختصين يتحول شيئًا فشيئًا من سوسيولوجيا الفعل، على الشاكلة التي كرَّسها بها تالكوت بارسونز (Talcott Parsons)(72)، إلى السوسيولوجيا التأويلية. وكان وراء ذلك التحول رواد مدرسة التفاعلية الرمزية (Symbolic Interactionism) الذين بدأوا يستخلصون من ملاحظاتهم الميدانية أن الناس يتفاعلون ويستجيبون في الحالات الاتصالية في بيئاتهم، وفقًا للمعاني الشخصية التي يعطونها لتلك العناصر، في سياقات تنشأ فيها تلك المعاني ويتم تعديلها فيها، من خلال عملية التفاعل الاتصالية مع الآخرين، وضمن دلالات رمزية شبه متفق عليها.

وسارت على خطى التفاعلية الرمزية مدرسة الظاهراتية الاجتماعية (Phenomenology)، التي أدخلت التركيز على الوصف التحليلي لأفعال الوعي القصدي للأفراد في تفاعلاتهم الاتصالية اليومية فيما بينهم. كما نحت الإثنوميتودولوجيا (Ethnomethodology)، التي وضع أسسها هارولد جارفينكل (Harold Garfinkel)، نفس المنحى، من خلال تركيزها على وصف وتحليل الكيفيات التي يبني بها الأفراد المتواصلون في الجماعات، مختلف المعاني والدلالات الرمزية خلال تفاعلاتهم فيما بينهم، وذلك من خلال الحس المشترك أو النظرة الجماعية المشتركة التي يحملونها حول البيئة والعالم اللذين يحيطان بهم (Common-Sense View of the World). وكان منبع التحول من سوسيولوجيا الفعل إلى السوسيولوجيا التأويلية، اقتناع بعض الباحثين بعدم قدرة اللسانيات، التقليدية ومناهجها (خاصة تحليل المضمون الظاهر)، وعدم قدرة المناهج المسحية (خاصة الدراسات المسحية أو التجريبية الميدانية)، على تقديم قراءة كافية للظاهرة الاتصالية، بسبب عدم أخذها بعين الاعتبار الإستراتيجيات الفردية في عملية الاتصال(73). وتقوم السوسيولوجيا التأويلية -خاصة لدى الإثنوميتدولوجيين منهم- على فرضية أن المفاهيم المستخدمة بين الأفراد داخل الجماعات تخضع لسياقات ومعان متغيرة، ولا يوجد شيء ثابت فيها، غير أنه في ظل ذلك السياق المتغير، فإن الأفراد يستعينون بما يشبه “الفهرسية” المتحركة Indexicability)) التي يستمدون منها المعاني والدلالات، بالإضافة إلى مفهوم الانعكاسية (Reflexisivity)، الذي يشير إلى التوافقية شبه الآلية التي تنعكس بين الناس حول المعاني من خلال ما يشبه “المنطق المشترك”(74)، الذي يمكِّن الأفراد من فهم المعاني في مختلف الحالات التواصلية والتفاعل معها، وفقًا لما تقتضيه سياقاتها. وانتشرت بحوث إثنوغرافيا الاتصال أكثر في البلدان الأنجلوساكسونية وفي بعض دول الفضاء اللغوي الجرماني، بينما لم تنطلق في فرنسا سوى في نهاية السبعينات، بعد أن بدأت المقاربات البنيوية في فقدان هيمنتها(75).

إثنوغرافيا الجمهور (Audience Ethnography, Ethnographie de l’audience)

هو توجه من توجهات الدراسات الإعلامية، ظهر في ستينات القرن العشرين في البلدان الأنجلوساكسونية أساسًا، وفي بعض الدول الناطقة باللغة الجرمانية بشكل ثانوي. ويهتم هذا النوع من الدراسات بملاحظة وتحليل العمليات الاتصالية باعتبارها عملية يلعب المتلقي فيها دورًا مهمًّا، خاصة عبر تحديده للمعاني والدلالات الخاصة بالرسائل الاتصالية، وعبر تحديده لكيفية التعامل معها وتحديد موقفه منها. وتركز إثنوغرافيا الجمهور على السؤال: كيف يُنتج الجمهور المعاني من الخطاب الإعلامي؟ وكيف تُبنَى العلاقات بين الأفراد وفقًا لبعض الخصائص (النوع مثلًا) عند تعرضهم بشكل جماعي لوسائل الإعلام؟ ويرى الإثنوغرافي البريطاني ديفيد مورلي (David Morley)، وهو واحد من المتخصصين في إثنوغرافيا جماهير وسائل الإعلام، أن الدراسات الإثنوغرافية تُعد قيمة مضافة في البحث الإعلامي، لأنها توفر تحليلًا لسياقات عمل منظمة ومتعددة، تهدف إلى تقديم عرض وصفي وتفسيري ثري لحياة وقيم أولئك الذين يخضعون للدراسة(76).

ويمكن القول من منظور سوسيولوجي: إن التوجه الإثنوغرافي في دراسة جماهير وسائل الإعلام جاء ردَّ فعل على السوسيولوجيا البنيوية والسوسيولوجيا الوظيفية، اللتين بالغتا في إعطاء الأولوية للبنية على حساب العناصر، وللكلِّ على حساب الجزء، وللوظائف البنيوية الكلية على حساب الممارسات والإستراتيجيات والغايات الفردية في عمليات الاتصال. وليس غريبًا أن كان الإثنوميتدولوجي، آرون سيكورال (Aaron Cicourel)، من أشد من انتقدوا التوجهات الأمبريقية التي سادت من أربعينات إلى ستينات القرن الماضي، بمبرر عجز التحليلات الكمية التي كانت منتهجة في الدراسات المسحية، وعجز تحليل المضمون الظاهر، الذي كان معتمدًا في المقاربات “اللسانية البنيوية” عن فهم أهمية البعد الذاتي في عمليات الاتصال(77). أما من المنظور اللساني، فيأتي ظهور هذا التوجه في سياق المراجعات التي تمت في توجهات اللسانيات البنيوية، بعدما بدأ بعض اللغويين، خاصة أتباع نظرية “أفعال الكلام” منهم، في الاهتمام بدور الفرد، باعتباره فاعلًا في تحديد المعاني، وفي قراءة الدلالات الرمزية التي يعطيها للمحتويات الإعلامية والاتصالية، من منطلق أن اللغة لا تُعد مجرد بنى ودلالات فقط، بل هي أفعال كلامية، يقوم بها المتكلم ليُحدث بها تغييرًا محدَّدًا في سلوك المخاطب، أكان ذلك على مستوى الفعل أم على مستوى الكلام(78).

أما من منظور تخصص الإعلام تحديدًا، فقد ظهر توجه إثنوغرافيا الجمهور كثورة على النظرة التي طبعت، ولأكثر من عشرين سنة، مختلف النظريات التي صيغت مع بداية تشكُّل مجال الإعلام حقلًا بحثيًّا جديدًا، والتي كانت تدفع ضمنيًّا أو صراحة، بوجود اتجاه خطي أحادي الاتجاه في مسار الاتصال، وبوجود تأثير قوي لوسائل الإعلام على الجمهور. هذا الأخير الذي كان أغلب الباحثين آنذاك ينظرون إليه وكأنه كتلة واحدة منسجمة، تستجيب بشكل شبه آلي للمثير الإعلامي أو الاتصالي مهما كانت طبيعته. ومع أن إشكالية التلقي طُرحت مبكرًا في مجال الدراسات الأدبية (منذ الستينات)، عبر التساؤل حول الكيفيات التي يتلقى بها مخيال القارئ ويفسر بها الخيال المتضمن في الأعمال الأدبية، والتي فصل فيها المختصون بالإقرار بوجود دور كبير للمتلقي في صياغة المعاني، وفي فكِّ رموز العمل الأدبي وفقًا للأطر المعرفية لكلِّ متلقٍّ، إلا أن المجال الإعلامي بقي ولمدة طويلة بمنأى عن تلك التساؤلات. فقد انتظر الباحثون في علوم الاتصال سبعينات القرن العشرين ليخوضوا في مسألة التلقي، لتكتشف البحوث الوظيفية الأميركية في الإعلام وجود دور كبير للمتلقي في صياغة معاني الرسائل الاتصالية. ومنذ تلك الحقبة توالت النظريات والأبحاث الأميركية التي تتحدث عن وجود “استخدامات وإشباعات” مختلفة بين الناس، وعن وجود “تعرض انتقائي” لوسائل الإعلام بحسب ميول المتلقين وأذواقهم.

وقد اقتحمت الدراسات الثقافية البريطانية منذ ثمانينات القرن العشرين ذلك المجال الذي فتحته المدرسة الوظيفية الأميركية لتصبح التربة الخصبة التي ستتكاثر فيها المواضيع التي تخوض في التلقي الإعلامي إثنوغرافيًّا. وكان التركيز في البداية بشكل خاص على التليفزيون، خاصة بعد الدراسة التي أجراها مورلي، في سنة 1986، بعنوان “التلفزيون العائلي: السلطة الثقافية والترفيه المنزلي”، والتي كانت بالنسبة لستيوارت هال (Stewart Hall) فرصة ليعلن عن عودة المتلقي كفاعل، وعن وفاة منظور التأثير القوي الخطي والمباشر حين كتب في مقدمته لذلك المُؤَلَّف: “على امتداد صفحات الكتاب، يستخدم مورلي بشكل ذكي مفاهيم التباين والتنوع والاختلاف، نحن لسنا “مشاهدين” بهوية واحدة، ومجموعة متجانسة من التفضيلات وعادات المشاهدة المتكررة، التي تتعرض كلها لقناة واحدة ولنوع واحد من “التأثير”، وبالتالي نتصرف بطريقة موحدة وبشكل متوقع. نحن جميعًا، في رؤوسنا، عدة جماهير مختلفة في وقت واحد، ويمكن تشكيلنا على هذا النحو من خلال برامج مختلفة. نحن “كمشاهدين” نملك القدرة على نشر مستويات وأنماط مختلفة من الانتباه، وعلى تعبئة مهارات مختلفة أثناء مشاهدتنا”(79).

وشكَّلت “الدراسات الثقافية” (Cultural Studies) رافدًا أساسيًّا لإثنوغرافيا الجمهور، فبفضلها ترسخت المقاربة الاجتماعية للثقافة بمعناها الأوسع في بحوث الإعلام والاتصال، ماسحة بذلك التمييز الذي ظل قائمًا بين ثقافة النخبة والثقافة الجماهيرية، كما يعود لها الفضل في تسليط الضوء على آليات مقاومة الثقافات الشعبية للنماذج الثقافية المهيمنة.

الإثنوغرافيا الرقمية (Digital Etnography, Etnographie numérique

تُعد الإثنوغرافيا الرقمية امتدادًا جديدًا للبحوث الإثنوغرافية، تشكَّلت كمقاربة بحثية نوعية جديدة لدراسة الميديا الاجتماعية، وكمبحث علمي جديد في علوم الإعلام والاتصال. ويتكوَّن المفهوم من كلمة (Digital) باللغة الإنجليزية وكلمة (Numérique) باللغة الفرنسية، وكلتاهما تحيلان على نظام العد الثنائي (0.1) المستخدم في الحوسبة، وكلمة (Etnography) باللغة الإنجليزية و(Etnographie) باللغة الفرنسية، بمعناهما الدال على دراسة الجماعات البشرية. وظهر هذا المفهوم إلى الوجود مع نهاية القرن العشرين، ليتطور ويتسع نطاقه أكثر مع بداية القرن الحادي والعشرين. ويهتم الباحثون المختصون في هذا المجال بدراسة إثنوغرافيا الجماعات والقبائل الافتراضية، وإثنوغرافيا استخدام الفضاءات الرقمية، عبر دراسة أنشطة الفاعلين ومخرجاتهم الرقمية في بيئتهم الطبيعية حصريًّا، أي في بيئة الإنترنت. وأُطلِق على هذا المجال البحثي الجديد عدة أسماء، مثل “الإثنوغرافيا عبر الخط”، أو “إثنوغرافيا الشبكات”، أو “الإثنوغرافيا الافتراضية”. كما أطلق البعض على هذا المجال اسم “النتنوغرافيا” (Netnography) باللغة الإنجليزية، ومفهوم (Netnographie) باللغة الفرنسية، وهو مفهوم يتشكَّل في اللغتين من الجزء الأول لكلمة (Network) والجزء الثاني لكلمة (Ethnography).

وظهرت الحاجة للإثنوغرافيا الرقمية بعدما أصبح من السهل جدًّا تَشكُّل مجتمعات افتراضية على الإنترنت، أو تَشكُّل “قبائل” افتراضية رقمية، تتقاسم نفس الاهتمامات وتتشارك نفس الثقافات الفرعية. وقد بات هذا الأمر ممكنًا منذ أن دخلت البشرية عصر الويب 2 (Web 2)، بما أتى به من تكنولوجيات اتصال جديدة، وما استحدث خلاله من منصات وتطبيقات تواصلية ثورية، أتاحت إمكانية التفاعل وتشارك المحتويات، بين عدد كبير من الأفراد الذين يستخدمون مختلف الشبكات الاجتماعية بشكل مكثف. وبينما تهتم الإثنوغرافيا بالسلوك الكامل للأفراد المدروسين في بيئتهم المجتمعية داخل عالمهم المادي الحقيقي، فإن الإثنوغرافيا الرقمية من جهتها، تهتم بأفعال الاتصال التي تتبلور أساسًا في شكل نصوص، أو وصور، أو فيديوهات، أو مقاطع صوتية، يتم تبادلها عبر شبكة الإنترنت بين أفراد مجموعات افتراضية اجتماعية، أو بين مجموعات افتراضية سياسية، أو بين مجموعات افتراضية مهنية، أو بين مجموعات افتراضية استهلاكية…إلخ، علمًا أن النصوص والمحتويات الرقمية المتبادلة في الفضاء الرقمي هي التي تشكِّل المادة العلمية التي يستخدمها الباحث في الإثنوغرافيا الرقمية، دون غيرها، في عملية التحليل. ويمكن أن يتسع نطاق هذا المجال المعرفي الفرعي داخل علوم الإعلام والاتصال إلى دراسة خصائص القبائل والجماعات الافتراضية، وخصائص تنظيمها، وتفاعل أعضائها فيما بينهم. كما يمكنه أن يشمل دراسة الكيفيات التي تُنتِج بها الجماعات مختلف المحتويات الرقمية التي يتم مشاركتها، مع التركيز على فهم آليات تحديد المعاني الثقافية التي تعطيها لمختلف الرموز والرمزيات المستخدمة، أو على دراسة الآليات التي تتبعها تلك الجماعات في تشكيل تلك المعاني، مع ربط التقنيات الرقمية بسياقات اجتماعية وثقافية خاصة بتلك الجماعات، وتفحُّص كيفية استخدامها لها على أساس يومي.

وتتطلب الدراسات الإثنوغرافية الرقمية انغماس الباحث في حياة أفراد المجموعات الافتراضية التي يدرسها، إما بشكل ظاهر أو بشكل غير ظاهر كباحث (بالنسبة للمبحوثين)، وذلك بأن يصبح واحدًا منهم، وأن يتعلم لغتهم، وأن يرى العالم بعيونهم، وهو ما يقتضي درجة عالية من الفهم والإدراك للخصائص الثقافية للمجموعات المدروسة، وقدرة عالية على فهم واستيعاب المعاني المشتركة بين أفرادها. وظهرت التجليات الأولى لبحوث الإثنوغرافيا الرقمية في نهاية القرن العشرين، وفي مجال التسويق تحديدًا، عقب الدراسة التي نشرها روبرت كوزينتز (Robert Kozinets) في سنة 1998 بعنوان “عن النتنوغرافيا: تأملات أولية حول استقصاءات أبحاث ثقافة المستهلك الإلكترونية”(80). ويُعد مجال التسويق من المجالات الرائدة في استخدام الدراسات النتنوغرافية، بدافع الحاجة لفهم وتحديد احتياجات المجموعات الاستهلاكية على الإنترنت، إما بغرض تكييف العروض المقدمة لأفرادها، أو بغرض تصميم الإعلانات التي تستهدف فئات بعينها من المستهلكين، بعد رصد احتياجاتهم وخياراتهم، من مجمل ما يتبادلونه في تعليقاتهم حول مختلف المنتجات.

ومن أهم الأدوات البحثية المستخدمة في الإثنوغرافيا الرقمية ثمة: أولًا: سجل الملاحظات الميدانية التي يرصدها الباحث من احتكاكه بالمجموعة المدروسة (Field Observation)، والتي تتضمن مجمل الانطباعات والتصورات والتعليقات التي تلفت انتباهه نظرًا لمعانيها المهمة في سياق دراسته، بغية الاستعانة بها لاحقًا في عملية التفسير. وثانيًا: المقابلات الشخصية التي تُجْرى عبر الإنترنت (Online Interviews)، أو المقابلات التي تُجْرى حضوريًّا مع فرد من أفراد المجموعة الافتراضية المدروسة (Interview)، أو مع مجموعة نقاش بؤرية يتم اختيارها منهم (Focus Group). وثالثًا: الملاحظة الميكانيكية (Mechanical Observation)، أي ملاحظة محتويات المواقع المدروسة باستخدام أدوات وبرمجيات خاصة لحصر طبيعة النصوص والصور والخدمات المتبادلة فيها. وهناك أيضًا ما يسمى الملاحظة بالمشاركة عبر الخط، أو على الإنترنت (Online Participant Observation)، أي ملاحظة المجموعة ودراستها عبر انغماس الباحث داخل المجموعة المدروسة، ومشاركته في أنشطتها الرقمية. وهناك خامسًا: الملاحظة بدون مشاركة، أي ملاحظة المجموعة ودراستها بدون مشاركة الباحث أنشطة المجموعة المدروسة (Online Non-Participant Observation)، علمًا بأن الملاحظة بالمشاركة لا تخلو من مخاطر تغيُّر السلوك الطبيعي للفرد المبحوث، حين يعلم بوجود الباحث بين أفراد المجموعة المبحوثة، وذلك بأن يتصنَّع سلوكيات، أو أن يقوم بردود فعل، ما كان ليسلكها أو ليقوم بها في الوضع الطبيعي. وبحسب روبرت كوزينتز، فإن الإثنوغرافيا الرقمية مفيدة كمقاربة عند التعاطي مع ثلاثة أنواع عامة من الدراسات، بثلاثة أنواع عامة من الطرق: أولًا،:كمنهجية لدراسة الثقافات الإلكترونية “الخالصة” والمجتمعات الافتراضية. ثانيًا: كأداة منهجية لدراسة الثقافات الفرعية الإلكترونية والمجتمعات الفرعية الافتراضية، وثالثًا: كأداة استكشافية لدراسة الموضوعات العامة(81).

إثنولوجيا (Ethnology, Ethnologie)

مفهوم مركَّب من كلمتين إغريقيتين، كلمة إتنوس (Ethnos) التي تعني “شعب”(82) وتحيل دلالتها إلى دراسة الجماعات البشرية بمعناها الواسع، أي الذي يمتد من الأسرة، إلى القبيلة، إلى الشعوب، وكلمة (Logos) التي تعني الخطاب أو الكلام(83). ويتشكَّل عند الترجمة الحرفية للكلمتين معًا، معنى “خطاب أو كلام عن الشعوب”، بينما تُقدِّم الترجمة غير الحرفية معنى “علم وصف الشعوب”. وتُرجِم هذا المفهوم في الأدبيات العربية إلى “علم الإنسان التحليلي”(84)، كما ترجمه البعض أيضًا بكلمة “نياسة”، و”علم الأنام”(85). واستقر المفهوم الحديث للإثنولوجيا على أنه علم يهتم بدراسة نشأة السلالات والأصول البدائية للنوع الإنساني، مع شموله دراسة أصول الثقافات والخصائص النوعية لكل منها(86).

وقد التصقت بهذا العلم صورة سلبية ما زالت ترتبط به إلى يومنا هذا، بسبب تركيزه في وقت ما من تاريخه على مقارنة الأعراق فيما بينها وعلى تصنيفها تصنيفًا تفضيليًّا(87)، وهو ما دفع بالمدارس الأنجلوساكسونية لتفضيل استخدام مصطلح الأنثروبولوجيا لتوصيف هذا المجال التخصصي، ما أدخل مفاهيم الأنثروبولوجيا، والإثنوغرافيا، والإثنولوجيا، في دائرة من التداخل المفاهيمي، الذي عقَّد من مسألة التمييز بين هذه المجالات كل واحد منها بشكل جلي. غير أنه يمكن المساعدة في الفصل بين تلك المفاهيم الثلاثة بالقول: إن الإثنولوجيا تستغل المادة العلمية التي تمدُّها بها الإثنوغرافيا، لتقوم بتنسيق، ثم شرح، ثم تقديم خلاصات ذات طابع جغرافي (عن منطقة جغرافية محددة)، أو ذات طابع تاريخي (إعادة بناء الماضي)، أو ذات طابع اجتماعي (دراسة مؤسسة اجتماعية أو جماعة إثنية ما من حيث عاداتها (الطقوس الدينية، الرقص…)(88). بمعنى أن الإثنولوجيا تشكِّل غطاء نظريًّا عامًّا لتفسير ما تقوم الإثنوغرافيا بجرده بشكل أمبريقي، بينما تجمعهما الأنثروبولوجيا معًا تحت نطاقها، باعتبارها دراسة للإنسان بعاداته وبشموليته(89). ويُرجِع بعض المؤرخين الأصول البدائية لهذا العلم إلى الكتاب الذي نشره هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد بعنوان “تحقيق”، والذي تضمَّن وصفًا دقيقًا لما شاهده من احتكاكه بمختلف الشعوب والإثنيات التي اختلط بها خلال الرحلات التي قام بها، مستبقًا بمنهجيته التي استخدمها في ملاحظاته تلك بروز المقابلة الإثنوغرافية في شكلها الحديث(90).

ويعتبر الإثنولوجي الفرنسي، جون بوارييه ( (Jean Poirier، إسهامات بعض العلماء العرب والمسلمين، مثل عبد الرحمن بن خلدون، وكتابات بعض الرحالة العرب، مثل: محمد بن عبد الله اللواتي المعروف بابن بطوطة، والشريف الإدريسي، وأبي الريحان البيروني، جزءًا من الإرث الأنثروبولوجي الذي سبق ظهور هذا العلم في صورته الحديثة. وانتشرت خلال الفترة الممتدة من العصور الوسطى حتى عصر النهضة الأوروبية، عديد الأعمال التي يمكن إدراجها ضمن الدراسات الإثنولوجية، لكن شابها نقص فادح من حيث التموضع العلمي للباحثين في التعاطي مع الظواهر التي كانوا يصفونها. ويعود ذلك لطغيان التمركز الإثني (Ethnocentrism) ذي الخلفيات الدينية المسيحية في عملية الوصف، وهو ما أدخل الكثير مما كُتِب آنذاك في شراك الخطاب العنصري حول الآخر، خاصة منها تلك التي كانت تصف شعوب القارة السمراء، وبعض الشعوب البدائية مثل الهنود الحمر والسكان الأصليين في أميركا، وآسيا(91). ولم تكن الصلة بين المذاهب العنصرية واستمرار الرق خفية في أدبيات الإثنولوجيين آنذاك، على الرغم من أن الأسئلة العلمية المثارة امتزجت باهتمامات ذات طبيعة إنسانية أو أخلاقية(92).

ويفترض بعض الباحثين(93) أن الخطوات الأولى لنشأة الإثنولوجيا تخصصًا أكاديميًّا، بدأت في الولايات المتحدة الأميركية على يد هنري شولكرافت (Henri Schoolcraft) خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر حين عرض في سنة 1946 على “الهيئة السميثسونية” (Smithsonian Institution) خطة للبحوث الإثنولوجية الأميركية بمحددات علمية ومنهجية واضحة، وهي الخطة التي بدأ “المكتب الأميركي للإثنولوجيا” (American Bureau of Ethnology) في تطبيقها بدءًا من سنة 1896. واختلفت المدارس الإثنولوجية في القرن التاسع عشر بحسب التغيرات التي كانت تطرأ على المواضيع التي يتم التركيز عليها في كل مرحلة، ثم بحسب الغايات المنشودة من البحوث المنجزة. فقد ركزت الإثنولوجيا الأميركية في بداياتها الأولى على دراسة صلة القرابة(94)، التي كان لويس هنري مورغان (Lewis Henry Morgan) أول من اهتم بها في سنة 1877، من منظور تطوري بحت (Evolutionary Perspective)، وذلك بعد إتمامه لبحث نُشر في كتاب بعنوان “المجتمع القديم: أبحاث في مسار التطور البشري من الهمجية إلى البربرية إلى الحضارة”. وعمل مورغان في بحثه ذاك على حصر التغيرات التي حدثت في صلات القرابة على مستوى البشرية عمومًا، منذ المجتمعات البدائية وصولًا إلى المجتمعات المتحضرة. وخلص مورغان إلى إمكانية الاستنتاج بأن تجربة الإنسانية تم اكتسابها من خلال طرق موحدة تقريبًا، وأن احتياجات البشر، حين تكون في ظروف متطابقة، تعتبر تقريبًا نفسها في كل مكان، وأن عمليات العقل كانت موحدة بسبب هوية دماغية متطابقة في جميع الأجناس البشرية(95).

والتحق بمورغان في مقاربته التطورية لاحقًا كل من إدوارد تايلور (Edward Taylor) وجيمس فريزر (James Frazer). إلا أن التيار التطوري في الدراسات الإثنولوجية قوبل بانتقادات وُجِّهت له من طرف أتباع مدرسة الانتقال الثقافي ((Diffusionism، ممثلة في الألماني فريدريك راتزل (Friedrich Ratzel)، وبكل من ألفريد كروبر (Alfred Kroeber)، وفرانز بواص (Franz Boas)، بالإضافة إلى كلارك ويسلر ((Clark. Wissler في الولايات المتحدة الأميركية. كان هؤلاء يدفعون بالأصل المشترك للسمات الثقافية، وانتشارها عن طريق الاستلهام والاتصال والانتشار، بدلًا من افتراض عملية تطور متطابقة بين جميع المجتمعات، تمر بالضرورة بنفس المراحل(96). أما في أوروبا فقد شكَّل موضوعا الأساطير والقرابة نقطتي تركيز الأبحاث الإثنولوجية في الفترة ذاتها. وقد سيطر في بريطانيا التوجه الإثنولوجي الوظيفي الذي تبنَّاه الأنثروبولوجيان البريطانيان، ألفريد رادكليف براون وبرونيسلاف مالينوفسكي (Bronislaw Malinowski)، هذا الأخير الذي اعتبر أن الثقافة كلٌّ يدمج بين المؤسسات الاجتماعية المختلفة بغرض تلبية احتياجات الإنسان، وهو ما دفعه إلى تحديد الاحتياجات البيولوجية والاحتياجات فوق العضوية (Superorganic) للفرد، التي تستجيب لها مختلف المؤسسات الاجتماعية(97). أما في فرنسا فقد هيمن لاحقًا ما سُمِّي بـ”الإثنولوجيا البنيوية”، التي كان الإثنولوجي الفرنسي كلود ليفي ستراوس رائدها هناك، وقد تولَّد عنها ما أُطلِق عليه اسم “الإثنولوجيا التخمينية” ((Speculative Ethnology. وتؤكد البنيوية الفرنسية على أسبقية الكل على الأجزاء، وعلى الترابط الوظيفي للأجزاء في النظام، وعلى أهمية دراسة الارتباطات بين عناصر البنية. وقد اعتبر ستراوس أن المبدأ الأساسي في الإثنولوجيا البنيوية هو ألا يُفهَم مفهوم البنية الاجتماعية على أنه الواقع التجريبي، بل باعتباره نماذج مبنية عليه. ويُلحُّ ستراوس على ضرورة التمييز بين البنية الاجتماعية والعلاقة الاجتماعية، باعتبار أن هذه الأخيرة هي المادة الخام المستخدمة في بناء النماذج التي توضح البنية الاجتماعية نفسها(98).

إجحاف (Bias, Partialité)

مصدر الفعل “أجحف” وتعني لغة “النقص الفاحش”، ومنه القول: “هذا إجحاف بحقه”، أي “منقص من حقه إنقاصًا فاحشًا”(99). ويقابل هذا المفهوم في اللغة الإنجليزية كلمة (Bias)، بينما يقابلها في اللغة الفرنسية كلمة (Partialité)، وكلتاهما تعنيان التحيز أو الميل لاتجاه أو لطرف، على حساب آخر. ويقصد بهذا المفهوم في مجال الإعلام، انحياز وسائل الإعلام في تغطياتها لجهة معينة على حساب جهة أخرى لا توفيها حقها. وتعتبر ممارسة الإجحاف في وسائل الإعلام من الأخطاء المهنية المنبوذة؛ إذ إن الصحافي والوسيلة الإعلامية اللذين يمارسان الانحياز لا يلتزمان بأبسط المعايير الأخلاقية والمهنية التي يتعلمها طلبة الإعلام في الجامعات وفي معاهد تكوين الصحافيين، والمتمثلة في ثالوث: الدقة، والموضوعية، والتوازن. وعكس الإجحاف هو التوازن والموضوعية، ويقتضي التوازن فسح المجال لجميع الأطراف المعنية بالقصة لإبداء وجهة نظرها في الموضوع، أو الفكرة، أو القضية المتناولة، سواء أكانوا أفرادًا، أم مؤسسات، أم هيئات، أم دولًا، أو بقيام الصحافي بعرض جميع الأبعاد المتعلقة بموضوع ما، أو بفكرة ما، أو بقضية ما، دون ميل لبعد ما أو لوجهة نظر ما على حساب أخرى. أما الموضوعية فتقتضي ابتعاد الصحافي عن ذاتيته وعن ميوله عند تناول موضوع ما، أو فكرة ما، أو قضية ما، حيث لا يتأثر بتجاربه السابقة، ولا بأفكاره، ولا بميوله الشخصية في الحكم على الموضوع، أو على الرأي، أو على القضية محل الاهتمام.

إجماع (Consensus, Unanimity/Consesus, Unanimité)

هو مصدر الفعل “أجمع”، ويعني في المعاجم العربية الحديثة التقاء الناس -جميعهم- على رأي واحد واتفاقهم عليه(100). غير أن الإمام ابن المنذر أورد أن كلمة “إجماع” لم ترد في لسان العرب بمعنى “أجمع على كذا” أي “اتفقوا عليه”، لكنه ذكر أنه جاء مصرَّح بذلك المعنى في القاموس المحيط والمصباح المنير والمفردات في غريب القرآن لراغب الأصفهاني(101). ويجمع مفهوم الإجماع في اللغة العربية قديمًا بين “الاتفاق” و”العزم” على الشيء في آن واحد(102). وجاء في لسان العرب أن معنى كلمة “إجماع” أن تُجْمِعَ الشيء المتفرِّق جميعًا، فإذا جعلته جميعًا بقي جميعًا ولم يكد يتفرق، كالرأي المَعْزُوم عليه المُمْضَى(103). أما في المجال الديني، فيُشكِّل “الإجماع” المصدر الثالث من مصادر الأحكام الشرعية في الدين الإسلامي، بعد كلٍّ من الكتاب والسنة(104). وقد عرَّفه الإمام ابن المنذر بأنه اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد (صلَّى الله عليه وسلَّم) في عصر من العصور، بعد وفاته، على حكم شرعي عملي(105). أما في مجال القانون فيستخدم هذا المفهوم بمعنى اتفاق المتداولين على قرار واحد عند النطق بالحكم(106). ويقابل المعنى اللغوي لكلمة إجماع في اللغة الإنجليزية كلمتي (Consensus) و(Unanimity)، بينما يقابلها في اللغة الفرنسية كلمتا (Consensus) و(Unanimité). ويرتبط هذا المفهوم في المجتمعات الحديثة بمفهومي الرأي العام والإرادة العامة. وعليه، فهو لا يخلو من إشكاليات مرتبطة بهما. ويعود الأصل في ذلك لصعوبة تحديد معايير إثبات وجود الإجماع في الجماعات البشرية واسعة النطاق، خاصة على مستوى الأقطار والأمم. وهذه الصعوبة جعلت الديمقراطيات الحديثة تُؤْثِر الأخذ بمنطق الأغلبية بدلًا من الإجماع في حالات الاستفتاء العام، أو في عمليات الاقتراع لمختلف المجالس التشريعية أو لمختلف المجالس التنفيذية. وعليه، يفضَّل في الكثير من الحالات استخدام مفهوم التوافق (Consensus) بدلًا عن الإجماع، لأن التوافق لا يحمل نفس القيمة المطلقة لكلمة إجماع.

ويُستخدم هذا المفهوم (الإجماع) في علوم الإعلام للدلالة على الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام في خلق الشعور بالتوافق المشترك حول المسائل الجوهرية، خاصة في تشارك القيم، واللغة، والعادات، والتقاليد، ثم من خلال دورها في التعريف بأهم القضايا وبأبعادها وخلفياتها، عبر طرحها للنقاش في الفضاء العام، لتساعد الجماهير على اتخاذ موقف منها. غير أن الإشكال يكمن في الدور الحقيقي الذي تلعبه وسائل الإعلام في عملية صنع التوافق، بمعنى هل هو دور تنويري، أم هو دور توجيهي؟ إذ بقدر ما يتوقع منها تزويد الرأي العام بالأفكار والطروحات المتضاربة، ليُفكِّر الناس فيها ويتبنوا ما يرونه أنفع للمصلحة العامة، بقدر ما باتت وسائل الإعلام تنحو نحو فرض رؤى بعينها، بموجب القدرة الملازمة لها على إبطال أو إثبات، وإظهار أو إخفاء ما يريده القائمون عليها، أو ما تريده النخبة الحاكمة، أو ما تريده الجماعات التي تتحكم بزمام الإعلام والسلطة، سواء في الأقطار التي تسود فيها التعددية السياسية والديمقراطية وحرية الصحافة وحرية التعبير، أو في تلك التي تسودها أنظمة شمولية تتحكم في محتويات وسائل الإعلام وتقيِّد من حرية التعبير فيها.

إجمال (Summarization, Summing up/Sommairement, Sommation)

مصدر الفعل “أجمل” الذي يعني جمع الشيء، أو ذكره من غير تفصيل(107). وورد في لسان العرب بمعنى جمع الشيء عن تفرقة(108). ويستخدم مفهوم الإجمال في اللغة العربية المعاصرة بمعنى الإيجاز والتلخيص والاختصار، أو الإدلاء بكلام عمومي غير تفصيلي حول موضوع ما(109). والقول إجمالًا، يعني الاستخلاص باعتبار الأمر من الوجهة العامة، من دون التوقف عند التفاصيل، فنقول مثلًا: “إجمالًا، يمكننا اعتبار أن الموارد المخصصة للنهوض بالقطاع الصناعي غير كافية”، أو “يمكننا الدفع إجمالًا بأن الإنفاق العام على حماية البيئة خلال السنة الماضية ناهز 20 مليار دولار”. ويعادل التعبيرين السابقين في اللغة الإنجليزية كلمة (Summarizing) بمعنى القول إجمالًا، وكلمة (Summing up) بمعنى مجمل العملية الحسابية بشكل غير مفصَّل. أما في اللغة الفرنسية فيعادل المفهوم الأول على التوالي كلمتا (Sommairement أو Globalement)، ويعادل المفهوم الثاني كلمة (Grosso modo). أما كلمة “إجمالًا” التي تقال عند التمهيد الشفهي أو الكتابي للاستخلاص أو للإيجاز العام من طرف المتحدث أو من طرف الكاتب، فيعادلها كلمة (Globally) باللغة الإنجليزية وكلمة (Globalement) باللغة الفرنسية. غير أن تلك المعادلات قد تختلف بحسب السياقات التي ترد فيها تلك الكلمات، خاصة أن كل المفاهيم المذكورة تحتمل في الأصل عددًا أكبر من المعاني التي ذُكرت آنفًا.

المراجع

(1) المنجد في اللغة والأعلام، ط 34 (بيروت، دار المشرق، 1994)، ص 29.

(2) المرجع السابق، ص 29.

(3) “imaginative”, Cambridge Dictionary, “accessed November 20, 2022”. https://bit.ly/3HsKb12.

(4) McMillan Educ, English Dictionary for Advanced Learners, 2nd ed., (Oxford: Mc Millan, 2007), 346.

(5) Le Petit Robert, dictionnaire alphabétique et analogique (Paris: Le Robert, 1985), 419.

(6) Le Petit Larousse illustré (Paris: Larousse/Her, 1999), 279.

(7) Le Nouveau Petit Robert: dictionnaire alphabétique et analogique de la langue française / texte remanié et amplifié sous la direction de Josette Rey-Debove (Paris: le Robert, 2010), 578.

(8) محمد خليل الباشا، الكافي: معجم عربي حديث (بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1994)، ص 20.

(9) Madeleine Grawitz, Lexique des sciences sociales, 6ème éd. (Paris: Dalloz, 1994), 95.

(10) Maud Besançon, Todd Lubart, “Psychologie de la créativité”, universalis.fr, “accessed November 20, 2022”. https://bit.ly/3VS5cqv.

(11) Ibid.

(12) Le Nouveau Petit Robert: dictionnaire alphabétique et analogique de la langue française, 1476.

(13) أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية (بيروت، مكتبة لبنان، 1993)، ص 136.

(14) Madeleine Grawitz, Méthodes des sciences sociales, (Paris: Dalloz, 1974), 8.

(15) Jean-Michel Berthelot, “Epistemologie,” in Dictionnaire de sociologie, Sous la direction d’André Akoun et Pierre Ansart (Paris: Le Robert Seuil, 1999), 191.

(16) عبد الفتاح مراد، موسوعة البحث العلمي وإعداد الرسائل والأبحاث والمؤلفات (إنجليزي-فرنسي-عربي-شرعي)، (د.ن) (1998)، ص 558.

(17) بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مرجع سابق، ص 136.

(18) Grawitz, Méthodes des sciences sociales, 9.

(19) Ibid, 8.

(20) Ibid, 8.

(21) Ibid, 8.

(22) André Laland, Les Théories de l’induction et de l’ expérimentation, (Paris: Boivin & Cie, Éditeurs, 1929), 22.

(23) Grawitz, Lexique des sciences sociales, 150.

(24) Grawitz, Méthodes des sciences sociales, 9.

(25) Berthelot, “Epistemologie,” 191.

(26) Ibid, 191.

(27) Ibid, 191.

(28) Kamal Hamidou, “Mass communication Sciences in the Maghreb: a Hybrid Identity for an Evolving Discipline” Jurnal Komunikasi, Malaysian Journal of Communication, 32 (2), (2016): 566-589.

(29) كمال حميدو، الدراسات الإعلامية كحقل علمي جديد: المحددات الأنطولوجية والإبستمولوجية لمقارباتها النظرية والمنهجية (دار الأردن، الأيام للنشر والتوزيع، 2022)، ص 1.

(30) المنجد في اللغة والإعلام، مرجع سابق، ص 32.

(31) المنجد في اللغة العربية المعاصرة، ط 4 (بيروت، دار الشرق، 2013)، ص 101.

(32) Ibrahim Najjar et al., Dictionnaire juridique Français-Arabe, 3ème éd. (Beirut: Librairie du Liban, 1991), 22.

(33) موسوعة المصطلحات الإسلامية، (الرياض، مركز رواد الترجمة، 1441 ه) ج 4، ص 391.

(34) محمد رضا المظفر، المنطق، (بيروت، دار التعارف للمطبوعات، (د.ت))، ج 1، ص 347.

(35) عبد الله الزين الحيدري، “الميديا الاجتماعية: المصانع الجديدة للرأي العام”، مركز الجزيرة للدراسات، 25 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، https://bit.ly/3UTxDmF.

(36) “تعريف ومعنى إبلاغ في معجم المعاني الجامع”، almaany.com، (تاريخ الدخول: 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، https://bit.ly/3V1fYJW.

(37) Harold Lasswell, “The Structure and Function of Communication in Society,” in Lyman Bryson, ed., The Communication of Ideas (New York: Institute for Religious and Social Studies, 1948), 217.

(38) المنجد في اللغة العربية المعاصرة، مرجع سابق، ص 175.

(39) المرجع السابق، ص 175.

(40) Félix Gaflot, Dictionnaire Latin-Français (Paris: Hachette, 1934), 86.

(41) بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مرجع سابق، ص 13.

(42) Grawitz, Lexique des sciences sociales, 9.

(43) Béatrice Picon-Vallin, Zand Nicole, “RUSSIE (Arts et culture), Le théâtre,” universalis.fr, “accessed November 22, 2022”. https://bit.ly/3iW5i1F.

(44) Frank Luther Mott, American Journalism, (New York: Macmillan Co. 1950, originally published 1941), 539.

(45) “Heasrt William Randolph (1863-1951),” universalis.fr, “accessed November 22, 2022”. https://bit.ly/3HsRJ49.

(46) Jonathan Bolton, “Richard F. Outcault’s Hogan’s Alley and the Irish of New York’s Fourth Ward, 1895–96, New Hibernia Review / Iris Éireannach Nua, Vol. 19, no. 1, 2015): 16.

(47) Joseph Patrick McKerns, “The History of American Journalism: A Bibliographical Essay,” American Studies International, Vol. 15, no. 1 (Autumn 1976): 17.

(48) UNESCO, Journalism, ‘Fake News’ and Disinformation, Handbook for Journalism Education and Training, unesco.org, “accessed November 22, 2022”. https://bit.ly/2QmgNwM.

(49) Grawitz, Lexique des sciences sociales, 228.

(50) Judith Harackiewicz et al., “Interest Matters: The Importance of Promoting Interest in Education,” Policy Insights from the Behavioral and Brain Sciences, Vol 3 Issue 2, (2016): 1.

(51) “تعريف ومعنى بلبلة في معجم المعاني الجامع”، almaany.com، (تاريخ الدخول: 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، https://bit.ly/3WeGNLo.

(52) المرجع السابق.

(53) Grawitz, Lexique des sciences sociales, 6ème édition, 287.

(54) روحي البعلبكي، المورد العربي: قاموس اللغة العربية المعاصرة مع كل المترادفات، ط 1 (بيروت، دار العلم للملايين، 2016)، ص 32.

(55) Najjar et al., Dictionnaire juridique Français-Arabe, 227-228.

(56) الحيدري، “الميديا الاجتماعية: المصانع الجديدة للرأي العام”، مرجع سابق.

(57) المرجع السابق.

(58) Le Nouveau Petit Robert: dictionnaire alphabétique et analogique de la langue française, 946.

(59) Le Petit Robert, Dictionnaire alphabétique et analogique de la langue française, 885.

(60) Geza de Rohan-Csermak, “Ehnologie – Ethnographie,” universalis.fr, November 10, 2022. “accessed November 20, 2022”. https://bit.ly/3FyRhih.

(61) Ibid.

(62) Nicole Belmont, Arnold Van Gennep (Paris: Payot, 1974), 20-21.

(63) Geza de Rohan-Csermak, “Ehnologie – Ethnographie,” universalis.fr, November 10, 2022. “accessed November 20, 2022”. https://bit.ly/3FyRhih.

(64) Claude Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, (Paris: Plon, 1958), 4.

(65) Alfred Reginald Radcliffe-Brown, Structure and Function in Primitive Society (Illinois: The Free Press Glencoe, 1952), 2.

(66) John Pavlik, “The impact of technology on Journalism,” Journalism Studies, Vol. 1, Issue 2, (2000): 229-237.

(67) للاستزادة، راجع:

Chris Paterson, David Domingo (eds.), Making Online News, the Ethnography of New Media Production (London: Peter Lang, 2008).

(68) Pablo Javier Boczkowski, Ethnographie d’une rédaction en ligne argentine: Les logiques contraires de production de l’information chaude et froide,” Réseaux, no 160-161, (2010): 44-78.

(69) أرمان ماتلار، ميشال ماتلار، تاريخ نظريات الاتصال، ترجمة نصر الدين لعياضي، الصادق رابح، ط 3 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004)، ص 147.

(70) Dell Hymes, “Models of the Interaction of Language and Social Life,” in John Gumperz, Dell Hymes, (eds). Directions in Sociolinguistics: The Ethnography of Communication (New York: Holts Rinehart & Winston, 1972): 39.

(71) Dell Hymes, Foundations in Sociolinguistics: An Ethnographic Approach (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 1974), 4.

(72) ماتلار، ميشال، تاريخ نظريات الاتصال، مرجع سابق، ص 147.

(73) المرجع السابق، ص 147.

(74) كمال حميدو، الدراسات الإعلامية كحقل علمي جديد: مرجع سابق، ص 1.

(75) ماتلار، ميشال، تاريخ نظريات الاتصال، مرجع سابق، ص 150.

(76) David Morley, Roger Silverstone, “Communication and Context: Ethnographic Prospectives on the Media Audience,” in Klaus Jensen, Nicholas Jankowski, eds., Handbook of Qualitative Methodologies for Mass Communication Research (London: Routledge, 1991), 149-150.

(77) ماتلار، ميشال، تاريخ نظريات الاتصال، مرجع سابق، ص 153.

(78) Catherine Kerbrat-Orecchioni, L’énonciation de la subjectivité dans le langage, (Paris: Armand Colin, 1980), 185.

(79) David Morley, Family Television: Cultural Power and Domestic Leisure (London-New York: Routledge, 1986), Viii .

(80) Robert V. Kozinets, “On Netnography: Initial Reflections on Consumer Research Investigations of Cyberculture,” in NA – Advances in Consumer Research, eds. Joseph W. Alba, John W. Hutchinson, Provo, UT: Association for Consumer Research, Vol. 25, (1998): 366-371.

(81) Ibid, 367.

(82) Le Nouveau Petit Robert: dictionnaire alphabétique et analogique de la langue française, 946.

(83) Ibid, 1476.

(84) بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مرجع سابق، ص 140.

(85) مراد، موسوعة البحث العلمي وإعداد الرسائل والأبحاث والمؤلفات، مرجع سابق، ص 575.

(86) بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مرجع سابق، ص 140.

(87) André-Marcel D’Ans, “Ethnologie,” in Dictionnaire de sociologie, Sous la direction d’André Akoun et Pierre Ansart (Paris: Le Robert Seuil, 1999), 200.

(88) Grawitz, Lexique des sciences sociales, 156.

(89) Ibid, 20.

(90) Jean Poirier, Histoire de l’ethnologie, Que sais-je? ed 4., (Paris: Presses Universitaires de France, 1991), 8.

(91) Ibid, 9.

(92) P. Menget in Dictionnaire de l’ethnologie et de l’anthropologie, sous la direction de Pierre Bonte, Michel Izard, )Paris: P.U.F., 2000(, 328-332.

(93) D’Ans, “Ethnologie,” 200.

(94) Ibid, 200.

(95) Lewis Henry Morgan, La Société Archaïque )Paris: Anthropos, 1971(, 6-7.

(96) Patrick Menget, “Ethnologie, Histoire,” universalis.fr, “accessed November 16, 2022,”. https://bit.ly/3W2qvpg.

(97) Ibid.

(98) Lévi-Strauss, Anthropologie Structurale, 305.

(99) المنجد في اللغة والإعلام، مرجع سابق، ص 80.

(100) المرجع السابق، ص 101.

(101) الإمام المنذر، الإجماع، دراسة وتحقيق فؤاد عبد المنعم، (مركز الإسكندرية للكتاب، (د. ت))، ص 10.

(102) المرجع السابق، ص 10.

(103) ابن منظور، لسان العرب، (بيروت، دار صادر، (د. ت))، ج 8، ص 58.

(104) المنجد في اللغة والإعلام، مرجع سابق، ص 101.

(105) المنذر، الإجماع، مرجع سابق، ص 18.

(106) Najjar et al., Dictionnaire juridique Français-Arabe, 283.

(107) المنجد في اللغة والإعلام، مرجع سابق، ص 102.

(108) ابن منظور، لسان العرب، مرجع سابق، ج 11، ص 128.

(109) البعلبكي، المورد العربي، ص 42.

*  د. كمال حميدو، أستاذ الإعلام المشارك ورئيس قسم الإعلام سابقًا بجامعة قطر.

Dr. Kamal Hamidou, Associate Professor of Mass Communications and Former Head of the Department of Mass Communication at Qatar University.