محمود قلندر – · Mahmoud Galander
ملخص:
يتناول كتاب “مستقبل وسائل الإعلام: النظرية والجماليات”، للمؤلِّفيْن، كريستوف إرنست وجينز شرويتر، المستقبل المحيط بوسائل الإعلام من واقع نظري وجمالي، وذلك بالنظر إلى الخيال حول المستقبل باعتباره الموحي بالواقع الحالي في مجال وسائل الإعلام. وبذلك يعتبر وسائل الإعلام العنصر الذي يمكن من خلاله التحكُّم في المستقبل. يتحدث المؤلِّفان عن نظريات التخيل الذهني وصلتها بمستقبل وسائل الإعلام، ويقومان، في هذا الصدد، بمناقشة أربعة أمثلة: التصورات ذات الصلة بالتليفزيون التفاعلي وعلاقته بالوسائل في الجوانب الأدبية، و”الحوسبة الفاعلة” وحضورها المستمر حتى اليوم، والتصوير القائم على الأبعاد الثلاثية (الهولوغرافية)، المعاصر في سينما اليوم، والتخيل المعاصر ذي الصلة بما يعرف بالحوسبة الكمية وكيفية استيعابها في أدب الخيال العلمي. ويركز الكتاب على معالجة التطورات التكنولوجية في العالم أكثر من النظر إلى وسائل الإعلام، ويهتم كثيرًا بالجوانب ذات الصلة بالتكنولوجيا أكثر من تركيزه على الواقع الثقافي والاجتماعي للناس، فهو مثلًا لم يتناول قضايا حيوية صارت اليوم من أهم القضايا ذات الصلة بوسائل الإعلام، خاصة في تطورها نحو وسائل التواصل الاجتماعي.
كلمات مفتاحية: التليفزيون التفاعلي، الجماليات، الميديا الجديدة، الحوسبة الكمية، تليفزيون فان جوخ، الحوسبة الفاعلة.
Abstract:
Media Futures: Theory and Aesthetics explores the future of media outlets from a theoretical and aesthetic standpoint by referring to imagination regarding the future as indicative of the current reality in the field of media. Therefore, it considers media the element through which the future can be controlled. Moreover, the authors discuss the theories of imagination and their relation to the future of media, presenting four examples: imaginations related to interactive television and its relation to media art; “ubiquitous computing,” which still exists today; three-dimensional, holographic imagination seen in cinema; and contemporary imagination related to quantum computing and how it has been exhibited in science fiction. Additionally, the book focuses on treating technological developments in the world more than it looks into media outlets, and places more importance on technological aspects than people’s socio-cultural reality. In fact, it does not even address vital issues that are currently some of the most important issues pertaining to media, especially in its evolution towards social media.
Keywords: Interactive Television, Aesthetics, New Media, Quantum Computing, Van Gogh TV, Active Computing.
عنوان الكتاب
مستقبل وسائل الإعلام: النظرية والجماليات
Media Futures: Theory and Aesthetics
المؤلِّفان: كريستوف إرنست (Christoph Ernst) وجينز شرويتر (Jens Schroeter)
دار النشر: بالجريف ماكميلان (Palgrave Macmillan)
تاريخ النشر: 2020
اللغة: الإنجليزية (نسخة مترجمة من اللغة الألمانية)
الطبعة: الأولى
عدد الصفحات: 117
مقدمة
تقوم الفكرة الأساسية لكتاب “مستقبل وسائل الإعلام: النظرية والجماليات”(1) على قراءة المستقبل بغرض التنبؤ بما ستحدثه المخترعات التكنولوجية ذات الصلة بوسائل الاتصال، مثل الاتصال الرقمي والحواسيب القائمة عليه، إضافة إلى الذكاء الاصطناعي في مجال الاتصال الإنساني. وتتصل الفكرة المركزية للكتاب بتأثير الخيال والتخيل في تحقيق اطراد فاعل في مجال وسائل التواصل الحديثة، أو كما يسميها المؤلِّفان، الميديا الجديدة؛ إذ يعتقدان أن الخيال والتخيل هما اللذان سيقودان وسائل الإعلام في اتجاه المستقبل، ولذلك فإن الوسائل الحاضرة ستكون رهن ما يبدعه الخيال الإنساني في المستقبل.
يُستَهل الكتاب بعبارة ذات دلالة، ترى أن المستقبل إنما هو صنع المخيلة البشرية، والسبب في ذلك هو أن المعلومات التي نملكها حول المستقبل محدودة للغاية، كما أن القدرة على التحكُّم في المستقبل محدودة هي الأخرى. ولذلك إذا أردنا معرفة أمر ما حول المستقبل، سنقوم بتحويل الغائب إلى حاضر، وهو ما يفعله الخيال. ومن ثم، فإن الحديث عن مستقبل وسائل الإعلام إنما هو حديث عن التخيل، بما في ذلك استدعاء الآمال والرؤى والخيالات والمخاوف. وهكذا، فإن غياب المعرفة الواسعة عن المستقبل، يجعل الخيال يأخذ المكانة المتميزة في فهمنا للمستقبل، حتى يصبح فهمنا للمستقبل هو الأساس في تفاعلنا مع ذلك الفهم.
- واقع الإعلام في نهايات القرن العشرين
يركز الكتاب في البداية على التحولات التي اكتنفت وسائل الإعلام خلال نهايات القرن العشرين، ويشير إلى أهمية الدراسات ذات الصلة بتلك الوسائل في صنع الواقع الجديد لوسائل الإعلام، ويُقدِّم مقاربات عميقة تتعلق بالأفكار المطروحة في عدد من النظريات ذات الصلة بالتفاعل العقلي. ويتناول الفصل الثاني خمس أطروحات تبحث التحولات في وسائل الإعلام كظاهرة ثقافية، فالحديث عن المستقبل، كما يفهمه المؤلِّفان، يرتبط بالمعرفة في لحظة محددة، ومن ثم فإن النظر إلى المستقبل يتحدد بما هو مدرك عن الواقع الحالي. لذلك، فإن وسائل الإعلام هي التي تجعل الواقع مفهومًا، ومن ثم يصبح الاتصال بين البشر ممكنًا، وبالتالي تمثِّل تلك الوسائل ذاكرة الثقافة والمجتمع. وبما أن وسائل الإعلام هي الأخرى خاضعة للتحولات المستمرة، فإن تلك التغيرات تقود إلى التأثير على الثقافة والمجتمع. ولعل المثال الأقرب إلى ذلك، هو دور التليفزيون الذي كان في الثمانينات والتسعينات وسيلة الإعلام الأولى، لكن الواقع اليوم مع انتشار الشبكة العنكبوتية صار أكثر تعقيدًا. وبالرغم من أن التليفزيون لم يختف، بل صارت التكنولوجيا التي قام عليها وأشكال التعامل مع التليفزيون أكثر تشعبًا، فإن دور التليفزيون اليوم كوسيلة إنتاج رسائل إعلامية سياسية لم تعد كما كانت في تلك الفترة؛ إذ يتم تناول كل رسالة إعلامية سياسية على الفضاء العام بالنقد والتحليل والمراجعة من قبل كل المتفاعلين.
وبما أن الأطروحات الخمس تمثِّل أساس الكتاب في شكله النهائي، فإنه من المهم تقديم تلك الأطروحات بشكل مختصر حتى يتسنى فهم غاياته حول مقولة مستقبل وسائل الإعلام.
- العلاقة بين وسائل إعلام المستقبل والمخيلة الإنسانية: خمس أطروحات
يُقدِّم الكتاب أطروحاته الخمس التي يعتبرها رئيسة كما يلي:
الأطروحة الأولى
ترى أن وسائل إعلام المستقبل هي ناتج المخيلة التي تُعِين على تشكيل المعرفة النظرية والواقعية الحالية. وبتخيل المستقبل حول الوسائل يمكن فهم التحولات التي تكتنف وسائل الإعلام. ففي الماضي لعب الخيال دورًا مهمًّا في اعتبار الضوء الكهربي “وسيلة إعلام”؛ حيث شكَّل وسيلة تواصل مع المخلوقات الفضائية على سطح المريخ.
الأطروحة الثانية
يشير تعبير وسائل المستقبل إلى أهمية إعمال الخيال في تكنولوجيا الاتصال. وهو ذو صلة وثيقة بمجالات متعددة منها المخترعات العلمية والتكنولوجية، والمصالح الاقتصادية التي تتداخل معها. فقد ظلت التحولات في الوسائل تُفهَم على أنها ذات صلة بتكنولوجيا الاتصال الحديثة. ومن ثم، فإن السرعة كانت الأساس في التحولات التي اكتنفت وسائل الاتصال، فاللغة مثلًا لم تتم فيها التحولات بسرعة كما في تكنولوجيا الاتصال، بينما المخترعات الاتصالية كالطباعة والراديو والتليفزيون والحاسوب كلها قامت على تكنولوجيا سريعة التحولات.
الأطروحة الثالثة
“وسائل إعلام المستقبل” ليست مثيلة “الميديا الجديدة”(2)، بل إن الواقع الآن يشير إلى أن الحديث عن “الميديا الجديدة” إنما يتم عبر ربطها بالمستحدثات في مجال وسائل الإعلام التي تقود إلى تغيير في الواقع الثقافي والسلوك الفردي. إذن، هناك ارتباط وثيق بين مفهوم “المستقبل” و”الجديد” وذلك لتأثرهما بالمخترعات التكنولوجية والتطورات الاقتصادية المرتبطة بالسوق. وحين يُنظر إلى الميديا الجديدة، فإنها تكون مرتبطة بالثورة التكنولوجية، التي تقود إلى التحولات الثقافية والاجتماعية.
الأطروحة الرابعة
التحولات في وسائل الإعلام إنما هي أساليب تتعلق بالتغيير في وسائل الاتصال الناتجة عن الفجوة بين الواقع الحالي والتغيير المنتظر. في هذه الحالة يكون المستقبل رهن السيناريوهات المتصلة بالمستقبل وأثرها على الواقع الاجتماعي، وهذا الأمر -بحسب المؤلِّفيْن- قاد إلى اضطرابات اجتماعية في مجال الإعلام. فمثلًا الانتقال من واقع صار فيه جهاز الحاسوب يسمح بالكتابة فحسب إلى جهاز يسمح بالتداخل بين تكنولوجيا متعددة، كاستخدام التطبيقات المتقدمة، والهواتف الذكية، وبذلك تحول هذا التداخل بين التكنولوجيا والخبرة العملية إلى قيمة مادية يمكن تقييمها تجاريًّا.
الأطروحة الخامسة
تتعلق الأطروحة الخامسة بعلاقة وسائل إعلام المستقبل بالخيال أو التخيل؛ إذ ينبئ تاريخ وسائل الإعلام بأن الوسائل دومًا ساعدت على تحقيق مهام التواصل بين الناس، وبما أن وسائل إعلام المستقبل لن يتم الوصول إليها إلا عبر التخيل، فإنه يمكن النظر إلى المخترعات اللاحقة (من المطبعة وحتى الحاسوب) باعتبارها وسائل قامت على الخيال والمتخيلات، وصارت امتدادًا للاتصال عبر الزمن والمسافة.
- بين الخيال والمتخيلات: الأبعاد العقلية
في فصله الثالث، يتناول الكتاب الخيال (Imagination) والمتخيلات (Imaginaries)، أي التصورات الناتجة عن التخيل، في قوالب نظرية، فيربط تلك المفاهيم بواقع التخيل والتصور بالأبعاد العقلية (Cognitive) ذات الصلة بالإدراك الحسي وحتى التفكير المجرد، ويعتبرها مفاهيم ذات أثر في عمليات الاتصال التي يجريها الناس عبر الوسائل. وهو ما يعني أن التخيل والمتخيلات إنما تقوم على الإشارات التي يقوم الإنسان عبر ترجمتها إلى معان ومفاهيم. ويُقدِّم المؤلِّفان نموذجًا ذا صلة بعملية تطور مفاهيم الاتصال يقوم على مبادئ النظم، يتم فيه النظر إلى المفاهيم التي تشكِّل الإشارات المستنبطة من خلال الاتصال، باعتبارها ناتج خيال محض، يفضي بدوره إلى متخيلات محضة عبر محيط واسع من المعاني والمفاهيم. ويُقدِّم النموذج عدة خطوات ينتقل فيها الخيال المحض إلى التخيل المحض، ليتحول بعد ذلك إلى تصور هامشي، فتصور مركزي، فتصور واقعي.
ويحاول إرنست وشرويتر التفريق بين مفهومي “وسائل إعلام المستقبل” و”الميديا الجديدة” بالقول: إن وسائل إعلام المستقبل يمكن أن تكون موجودة قبل الميديا الجديدة؛ إذ إن وقوع تطورات تكنولوجية تؤدي إلى ظهور مخترع جديد، فإن ذلك يعنى أن تكنولوجيا إعلام مستقبلية جديدة قد تطورت، وبذلك يمكن القول: إن وسيلة إعلام المستقبل سبقت الميديا الجديدة في الحدوث.
ويستخدم المؤلِّفان بكثافة مفهوم الخيال العلمي (Science Fiction) في كثير من أطروحاتهما حول الصلة بين وسائل إعلام المستقبل والميديا الجديدة. فأدب الخيال العلمي، الذي تم فيه استنباط عدة مخترعات اتصالية، أدى إلى تطوير ذلك المخترع وتحويله إلى حقيقة وواقع. وبذلك يصبح المخترع الاتصالي ممكنًا تصوره في الخيال، ومن ثم تحويله إلى واقع. وهكذا يتحول مخترع اتصالي خيالي، في قصة خيالية أو فيلم، إلى شكل من أشكال وسائل الميديا الجديدة.
ويقوم إرنست وشرويتر في الفصل الثالث، بالنظر إلى واقع الصلة بين الخيال الطوباوي (Utopian) غير الواقعي، وبين الاعتقاد في تحول التخيل العلمي من خيال غير مدرك، إلى واقع يعايشه ويستخدمه الناس. فالذكاء الاصطناعي كان في يوم من الأيام يوتوبيا غير مدركة الأبعاد، ولكنه صار اليوم واقعًا يعايشه الناس ويجري استخدامه بكثافة. كما أن التطور في مجالات الحوسبة نقل المخترع من واقع خيالي إلى واقع معيش، فقد بدأت الحوسبة في أولها بأجهزة وحيدة يقوم فيها فرد واحد بعمليات الحوسبة (Personal Computing)، ثم انتقلت فيما بعد ذلك إلى تشارك عدد من الناس في المحتويات (Main Frame Computing)، ثم انتقلت إلى واقع توزيع المحتوى عبر الإنترنت، حتى دخلت مرحلة الحوسبة الكمية (Quantum Computing).
- مستقبل الوسائل الرقمية: التفاعلية في أقصى المستويات
في الفصل الرابع، يتناول إرنست وشرويتر الوسائل الرقمية وما ستكون عليه في المستقبل باعتبارها شكلًا من أشكال الحوسبة الكمية، ويقومان باستخدام مشروع فرقة تليفزيون فان جوخ، وهو (Piazza Virtuale) لتقديم أربع دراسات حالة تتعلق بالحوسبة الكمية. وكانت الفرقة المذكورة قد بدأت في تصور واقع التليفزيون التفاعلي في وقت لم يكن ذلك النوع سائدًا.
ولعله من المهم هنا التعريف بماهية فرقة تليفزيون فان جوخ ومشروع “بيازا فيرتشوال” (Piazza Virtuale)(3)، فقد ظل فنانون ومهنيون من ألمانيا والنمسا يعملون على مشروع التفاعل البشري في إطار تليفزيون فان جوخ منذ 1986؛ إذ قام التليفزيون، عام 1992، بتطوير نوع جديد من أنواع التفاعل مع الجمهور الذي قام بالتقاط البرنامج عبر الأقمار الصناعية في جميع أنحاء أوروبا، وصار ممكنًا للمشاركين أن يقوموا بالتفاعل مع برنامج” بيازا فيرتشوال” عبر الفيديو والكاميرات التي تم وضعها في عدة مدن أوروبية. وكان الغرض من المشروع هو تحويل وسيلة الاتصال الجماهيري في شكلها التقليدي الذي يقوم على الإرسال من القناة والالتقاط من جمهور عريض، إلى وسيلة يقوم فيها المتلقي بالتفاعل المستمر مع المرسل. وبذلك، تمكَّن تليفزيون فان جوخ من تحويل مشروع العلاقة بين المرسل والمتلقي إلى علاقة بين مرسل واحد وعدة متلقين فاعلين.
كانت التجربة في وقتها جديدة، ومن ثم فإن الأمل في تحويلها إلى واقع تجاوز فكرة التفاعل جاء بعد سنوات قليلة؛ إذ صار التليفزيون التفاعلي جزءًا من التاريخ في وجه المستجدات الرقمية التي قادت إلى تطورات تكنولوجية متعددة بعد ذلك. فلم يعد التليفزيون التفاعلي هو المنجز التكنولوجي في مجال وسائل الإعلام، بل صارت تكنولوجيا الإنترنت والشبكة العنكبوتية (www) وما صاحب ذلك من مفاهيم الشبكات الاجتماعية، وشبكات التواصل الاجتماعي، هي المتخيلات التي أدت إلى عصر جديد من تكنولوجيا الاتصال، وهو ما حوَّل تليفزيون فان جوخ ومشروع “بيازا فيرتشوال” أمرًا من الماضي. ويقول المؤلِّفان: إنه ينبغي أن يتم النظر إلى نتائج ما بعد مشروع تليفزيون فان جوخ باعتباره شكلًا من أشكال الخروج من سيطرة المرسل؛ إذ سادت مفاهيم جديدة من شاكلة “التثاقف الاجتماعي” (Connection Cultures) والبروز الاجتماعي (Social Emergence)، كما أدت مفاهيم التفاعل الاجتماعي إلى انتشار عدة وسائل اتصال وتواصل جديدة، من أبرزها فيسبوك وتويتر ويوتيوب التي صارت اليوم هي الحاضرة والسائدة.
- الرقمنة في وسائل الإعلام: وصول واقع الخيال المتطرف
في الفصل الأخير من الكتاب، يلخص إرنست وشرويتر رؤيتهما الأساس التي ينظران من خلالها إلى مستقبل وسائل الإعلام، فأسميا هذا الفصل “الخيال المتطرف” (Radical Imagination)(4) الذي سيقود إلى واقع تكون فيه وسائل الإعلام الرقمية هي الواقع الباقي والمستديم (Immutable Futures). ولما كانت الفكرة الأساسية للكتاب هي أن وسائل الإعلام الجديدة يمكن تخيلها باعتبارها وسائل إعلام المستقبل، فإن الوسائل الرقمية ستكون هي المسيطر الباقي دومًا، لأنها ستظل واقعًا مستدامًا باعتبار أن المستقبل قد يكون حدثًا واقعًا قبل الحاضر.
ويستعرض المؤلِّفان -في معرض الحديث عن التخيل المتطرف- واحدة من القصص السينمائية التي استخدمت الواقع المعزز والواقع الافتراضي، مثل “ماينورتي ريبورت” (Minority Report) لستيفن سبيلبرغ (Steven Spielberg)(5). وتقوم هذه القصة على فكرة تصور الجرائم التي سيرتكبها المجرمون في المستقبل عبر استخدام الذكاء الاصطناعي وتوظيف ما عُرف بتعبير “المتنبئين” (precogs)، وهم أدوات قادرة على التعرف المسبق على المجرمين والجرائم التي سيقع ارتكابها في المستقبل. فقد قام سبيلبرغ بمزج الواقع بالخيال عبر هؤلاء المتنبئين، وهو ما جعل المؤلِّفين ينظران إلى الفيلم باعتباره يلامس ثلاثة أبعاد: واقعًا افتراضيًّا، وواقعًا معززًا، وواقعًا ممتدًّا. وكان سبيلبرغ استخدم واحدًا من مهندسي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) الذي أسهم في تطوير أجهزة تكنولوجية ساعدت في تجسيد التنبؤ حول الجرائم في الفيلم. وحسب ما يقول المؤلِّفان، فإن فكرة الواقع المستقبلي الذي يمكِّن من التنبؤ بالجرائم هو الذي بُنيت عليه أفكار الواقع الممتد والواقع الافتراضي، كما صار التوافق بين الواقعين هو الأساس في الفيلم.
- الحوسبة المستدامة :مستقبل وسائل الإعلام
ينظر الفصل الأخير من الكتاب أيضًا إلى ما يسميه “الحوسبة المستدامة” (Ubiquitous Computing)، أي الحوسبة التي يمكن أن تكون في كل مكان، كما أنها لن تزول كوسائل اتصال مستقبلية (Immutable Future)، وذلك على عكس حوسبة سطح المكتب، وهي الحوسبة المعروفة بـ(Desk-Top Computing) والتي تدرجت من شكلها الأول كجهاز حاسوب سطح مكتبي، إلى جهاز حاسوب شخصي، ثم إلى شبكات متداخلة تمكِّن الأفراد من التلاقي عبر تلك الشبكات. ويشير إرنست وشرويتر إلى واحد من الفاعلين في مجال الحواسيب في مؤسسة “زيروكس”، وهو مارك وايزر (Mark Weiser)، الذي تنبَّأ بما ستكون عليه الحواسيب في المستقبل القريب، ففي الوقت الذي انتقلت فيه الحواسيب من حاسوب موحد تلتقي عليه أعداد من أجهزة سطح المكتب، أي ما عرف بـ(Main Frame Computer)، إلى الحاسوب الشخصي، تنبَّأ وايزر بأن الوسائل الرقمية ستكون هي السائدة في المستقبل. ولا شك أن الواقع الذي تحدث عنه وايزر صار حقيقة واقعة اليوم؛ إذ قال: إن الانتقال إلى الحوسبة المنتشرة، سيقترب كثيرًا من واقع الكتابة الذي يعتبر واقعًا ثقافيًّا في كل المجتمعات المتحضرة بحيث لم تعد الكتابة كواقع ثقافي، لافتة للنظر، ومن ثم فإن وايزر يعتقد أن الحوسبة المنتشرة ستكون في المستقبل هي الواقع الثقافي السائد.
وينظر المؤلِّفان إلى إعلان ستيف جوبز -مؤسس شركة آبل العملاقة- عن الحاسب اللوحي “آيباد” (IPad)، عام 2010، باعتباره التحقق لنبوءة المستقبل التكنولوجي التي تم تخيلها عام 1991. وحين قام ستيف جوبز أيضًا بتقديم الآيفون، عام 2007، واعتبره “ثورة في التفاعل مع المستخدم”، كان ذلك الإعلان هو في الواقع يتعلق بالنظر إلى المستقبل الذي تصبح فيه قدرة المستخدمين على التفاعل فيما بينهم الفعل المسيطر في مجال تكنولوجيا الاتصال، دون أن يكون هناك تدخل عبر وسائط أخرى، مثل الإذاعة والتليفزيون.
ويمكن القول بأن مشروع ميتافيرس (Metaverse) لمارك زوكربيرغ -صاحب ومالك فيسبوك- الذي أعلنه منذ عام تقريبًا ذو صلة كبيرة بما يتحدث عنه الكتاب الحالي، ففكرة الميتافيرس تقوم على التفاعلية القصوى، من خلال الواقع الافتراضي والواقع المعزز والواقع الرقمي مضافًا إليها الواقع الحقيقي. وهي كلها ما أشار إليه المؤلِّفان في تنبؤهم بمستقبل وسائل الإعلام. ورغم أن ميتافيرس كان في بداياته ذا صلة بالألعاب القائمة على الواقع الافتراضي، إلا أنها توشك أن تتمدد وتصبح لها أبعاد أخرى في مجالات متعددة، لعل بعضها يمكن أن يكون ذا عائد مادي وأرباح.
يختتم المؤلِّفان كتابهما بالقول: إن الأطروحة الأساسية للكتاب تتعلق بالخيال والمستقبل. فقصص الخيال التي قدَّمتها السينما وعدد من الأفلام التليفزيونية، قامت بابتداع ما يمكن رؤيته على أنه تكنولوجيا الاتصال في المستقبل؛ حيث صار الخيال هو الأساس في تطور المخترعات الحاسوبية التي يقوم العالم اليوم بالتعامل معها واستيعابها. وبذلك يمكن اعتماد رؤية كاتبين، هما: أرمين أفينيسيان (Armen Avenisian) وماهان مواليمي (Mahaan Mowalimi)، اعتبرا أن هناك الآن آليات يمكنها أن تجعل المستقبل يحدث قبل الحاضر، بل ويمكن القول: إن الزمن لا يأتي من الماضي ولا من الحاضر، بل يطل بقوة من المستقبل. كما أن ما طرحه ريتشارد باربروك (Richard Barbrook) حول الوسائل المستدامة، كالتكنولوجيا ذات الصلة بالهاتف الجوال، تجعل أفكار تكنولوجيا الاتصال المستقبلية ليست مستدامة فحسب، بل مقروءة ويمكن استخدامها مع غيرها من الوسائل.
- التركيز على التكنولوجيا أكثر من وسائل الإعلام
يمكن القول: إن هذا الكتاب يتعلق بالرؤية المستقبلية للتكنولوجيا أكثر من كونه يركز على وسائل الإعلام في ضوء التطورات والمخترعات التي يستحدثها الإنسان. فالكتاب أكثر اهتمامًا بتأثير التكنولوجيا على الناس، خاصة في مجالات القدرة على التنبؤ بالمستقبل من خلال الخيال. ورغم أن المؤلِّفيْن، إرنست وشرويتر، تناولا فكرة اندماج المستقبل في الحاضر في محاولة لقراءة ما سيحدث لوسائل الإعلام من ثورة تفضي إلى المستقبل، إلا أنهما لم يوضحا ما هو المستقبل المنتظر فيما يتعلق بما أسمياه الميديا الجديدة في تـأثيرها على البشر، بل ظل التركيز في الكتاب على أثر التكنولوجيا على المجتمع ككل وليس على الإدراك والاستيعاب والتفاهم بين البشر.
وبالرغم من أن الكاتبين يتخصصان في مجال دراسات الإعلام (وينتميان إلى جامعة بون بألمانيا)، إلا أنهما اعتمدا كثيرًا على دراسات تتعلق بعلم النفس والعلوم السيميائية والعلوم الاجتماعية(6). فقد ركز الكتاب على مفاهيم الخيال من وجهة علم النفس ليستنبط منها أفكارًا تتصل بما سيكون عليه المستقبل فيما يتعلق بالميديا الجديدة. وقام المؤلِّفان بالاعتماد على عدد من المفاهيم النظرية (وليست النظريات) أكثر، فمثلًا استخدما أشكال التخيل كما أوردها كورنيليوس كاستورياديس (Cornelius Castoriadis)، وهو من علماء اليونان المعاصرين، أو نموذج العلاقة بين الأيديولوجيا واليوتوبيا عند باتريس فليشي (Patrice Flichy)، الذي تحدث عن تصورات الإنترنت من واقع تكنولوجي. أما النظريات ذات الصلة بعمليات الاتصال في بعدها النفسي، من شاكلة نظرية الاستخدام والإشباع، أو نظرية صنع الواقع الاجتماعي، أو حتى نظريات أساسية مثل الإدراك في ارتباطه بالعمليات الاتصالية كسلوك إنساني، فهي لم تأخذ منهما اعتبارًا كثيرًا. وبذلك يقع الكتاب في دائرة الاهتمام بمجال التكنولوجيا أكثر من الاتصال كسلوك بشري يقوم على التفاعل بين الأفراد والجماعات.
ولابد من الإشارة إلى أن فكرة المستقبل السابق على الحاضر تناولها عدد من الباحثين والكتاب في مجالات عدة في الكتابات العلمية ذات التخصص، مثل كتاب “مستقبل وسائل الإعلام” (The Future of Media)، الذي أشرفت على تحريره جوانا زيلنسكا (Joanna Zielinska )، أو وسائل إعلام المستقبل (Future Media)، لريك ويلبر (Rick Wilber)، أو وسائل إعلام بلا حدود (Media Unlimited) لتود غيتلين (Todd Gitlin). وقامت معظم هذه الكتابات على التنبؤ بمستقبل الوسائل فيما يتصل بتأثيرها على الناس أكثر من تركيزها –كما فعل إرنست وشرويتر- على العلاقة بين الوسائل الجديدة كأدوات تكنولوجية بحتة وبين المجتمع؛ إذ تصبح -حسب رؤيتهما- تلك الأدوات هي المتحكم أكثر في الواقع المعيش، كما هي الحال في الوسائل القائمة على الذكاء الاصطناعي، كالتي ذكرها فيلم وكتاب “ماينورتي ريبورت” فيما يتعلق بالنبوءات التي قامت بها مخلوقات ممسوخة.
كما ذكرنا، فإن الكتاب يركز كثيرًا على الجوانب ذات الصلة بالتكنولوجيا أكثر من تركيزه على الواقع الثقافي والاجتماعي للناس، فهو مثلًا لم يتناول قضايا حيوية صارت اليوم من أهم القضايا ذات الصلة بوسائل الإعلام، خاصة في تطورها نحو وسائل التواصل الاجتماعي. فقد أصبحت واحدة من الهموم الأساسية المتعلقة “بالميديا الجديدة” ما تزخر به وسائل التواصل الاجتماعي من معلومات مضللة، وهو ما تم تعريفه على المستوى الأكاديمي والسياسي بعبارة “الأنباء الكاذبة”. وبالرغم من أن الكتاب يبشر بالميديا الجديدة باعتبارها وسائل مستقبلية لن تزول (Immutable)، إلا أنه لم ينظر إلى هذا الواقع الذي صارت تزخر به وسائل التواصل الاجتماعي والتي يمكن أن تحوِّل بيئة البشر إلى واقع زاخر بالشكوك والريب، بدلًا من أن تكون ملاذًا يطمئن إليه الناس في علاقاتهم وتواصلهم وتوادهم مع الآخرين. فالميديا الكلاسيكية(7)، في شكلها الحالي، تمكِّن من التدخل في مسار المعلومات بالتصحيح أو التعديل أو حتى بنفي المعلومات الكاذبة، بينما صارت آفة وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أنها تزخر بقدر كبير من المعلومات المضللة التي يمكن أن تفقد وسائل التواصل الاجتماعي نفسها، والميديا الجديدة، بل وحتى الاتصال كسلوك إنساني، الثقةَ بين بني البشر. وبذلك يمكن القول: إن وسائل إعلام المستقبل ليست في واقعها كما تصورها إرنست وشرويتر “مستدامة”، بل يمكن أن تكون ذات أثر سالب لكونها مصدرًا من مصادر التضعضع في المجتمعات الإنسانية.
إن مركز النقد الموجه لهذا الكتاب هو استبعاده للواقع الاجتماعي، القائم على التفاهم والتواد بين بني البشر، وتركيزه على الجوانب النفسية والعقلية ذات الصلة بأثر التكنولوجيا على الأفراد؛ إذ يتطرق الكتاب إلى مفاهيم، مثل الواقع الافتراضي، والواقع المعزز، رابطًا إياها بالحواسيب في تطورها من أشكال بدائية كالحاسوب السطحي، وحتى انتقالها إلى الحواسيب اللوحية التي ترتبط بالشبكات العنكبوتية.
إن القارئ للكتاب يستطيع أن يدرك أن المؤلِّفيْن يقتربان أكثر من مفهوم مارك زوكربيرغ حول وسائل الإعلام، وهو مفهوم أقرب ما يكون إلى مردود العائد المادي، أكثر من نظرته إلى الواقع الاجتماعي المحيط باستخدامات الميديا بغرض إشباع الحاجات الاجتماعية والنفسية.
المراجع
(1) Christoph Ernst, Jens Schröter, Media Futures: Theory and Aesthetics (Palgrave McMillan, 2021).
(2) يفرق مؤلِّفا الكتاب بين “وسائل المستقبل” و”الميديا الجديدة”، ولعل مرد ذلك أنهما يعتقدان أن المستقبل رهين التطور المستمر، بينما الميديا الجديدة يقصد بها فقط المخترعات الاتصالية التي يتم الوصول إليها في وقت حدوثها. ولهذا، فإن فكرة الحوسبة المستدامة (Ubiquitous Computing) والمستقبل المستدام يمكن فهمها باعتبار أن أي تطور في وسائل الإعلام سيظل رهن تطور جديد من جرَّاء الخيال والتخيل.
(3) قامت فكرة البرنامج على أهمية التفاعل بين الجمهور/المتلقي والمرسل.
(4) Ernst, Schröter, Media Futures, 103.
(5) Philip K. Dick, The Minority Report (Secaucus, New Jersey: Citadel Twilight, 1991).
(6) معظم مراجعاتهما النظرية ذات صلة بالعلم النفس، خاصة الجوانب المتعلقة بالإدراك الحسي.
(7) نستخدم الميديا الكلاسيكية نقيضًا للميديا الجديدة التي استخدمها المؤلِّفان.
Dr. Mahmoud Galander, A Former Professor of Media at Qatar University